يقاس تقدم الأمم بتقدم مجالسها التشريعية وقدرة هذه المجالس على سن القوانين التى تساعد المجتمع على تجنب مخاطر ما يجد من مستجدات. والمجلس النيابى أو البرلمان له مهمة واحدة هى تشريع القوانين نيابة عن الشعب، وفى كل بلدان العالم تكون أغلبية المشرعين من النواب من دارسى القانون، فلا يوجد فى الكونجرس الأمريكى أو البرلمان البريطانى مشرع واحد لم يدرس القانون، أما عندنا فالمجلس هو مجلس شعب أو مجلس أمة، غالبيته من العمال والفلاحين ممن لا يعرف بعضهم حتى قوانين بلدهم دعك عن قدرتهم على سن القوانين ومناقشة التشريعات الجديدة. القانونيون عندنا يصبحون فاكهة المجلس ويوضعون فى مصاف العظماء، ذلك بقانون الندرة لا بقانون الأحقية. أما إذا نظرت إلى الكونجرس الأمريكى أو البرلمان البريطانى لوجدت أن جميع أعضائه أو السواد الأعظم منهم بدرجة الدكتور فتحى سرور أو الدكتور مفيد شهاب، أى أن سرور وشهاب هما حالة عادية فى مجالس الدنيا النيابية وليسا ظاهرة يحتفى بها. هذا إذا كان المجلس النيابى تشريعيا، أما إذا تحدثنا عما ابتلينا به فى العالم الثالث من مجالس الشعب ومجالس الأمة التى تفتخر بأن نصفها من العمال والفلاحين، فنحن نتحدث عن مجلس يهدف إلى الترويج للنظام القائم، مجلس بلدى أو شعبى، مؤسسة أنتجتها دولة ما بعد الاستعمار الهدف منها هو بناء مؤسسات تحمل شكل الدولة الحديثة، أما المضمون فهو مضمون ترويجى إما للنظام الحاكم أو لقبيلة البرلمانى أو لشخصه، لا علاقة لها بالتشريع من قريب أو من بعيد، وذلك ببساطة لأن معظم أعضاء مجالس الشعب والأمة عندنا لا يعرفون القانون ولم يدرسوه بشكل يقنع المواطن أنه أمام حالة مشرع لا حالة مهرج. مجالس الشعب والأمة عندنا هى مجالس تطبيل وتزمير للنظام الحاكم أو لشخص العضو ووجاهته الاجتماعية، لذا تبقى دولنا متخلفة، فى حين يكون الحكم فى الدول المتقدمة هو القانون لا غيره. المتربصون ربما يمسكون بعبارة عمال وفلاحين وكأنها تعال منى وهذه تفاهة لا يجب الوقوف عندها لأننا جميعا أبناء عمال وفلاحين، ويستطيع الذين درسوا القانون من أبناء العمال والفلاحين تمثيل آبائهم ومصالحهم، أما أن نأتى بفلاح بسيط كى يصفق فى المجلس فهذه هى الإهانة بعينها لمصالح الفلاحين والعمال. أما عندنا فعضو مجلس الشعب يريد أن يكون له حصانة أو حصان، والحصانة فى العالم المتقدم تهدف إلى شىء واحد لا غير، هو أن يتمتع المشرع داخل قاعة المجلس بحرية التعبير كاملة، أى لا يقاضى على ما يقوله داخل المجلس التشريعى حتى يشعر بكامل الحرية عند مناقشة القوانين والقضايا. أما عندنا فالهدف من الحصانة هو عكس ذلك تماما، الهدف هو استخدام الحصانة خارج المجلس لا داخله، أى أن الموضوع برمته يستخدم فى عكس الغرض الذى وضع قانون الحصانة من أجله. وبرلماناتنا، ككل أمورنا، نستخدم فيها الأشياء فى غير أغراضها التى وضعت من أجلها، وكأننا مجتمعات سنت القوانين من أجل كسرها، مجتمعات تعتبر أن القفز على القانون من دون أن تدفع الثمن ينطوى على وجاهة اجتماعية، كأن تخالف مثلا قانون السير ويأخذ منك الشرطى رخصك ثم يأتى بها لك ابن عمك ذو الواسطة الكبرى وتصلك رخصتك إلى البيت بعد المخالفة بساعة ولا تسجل عليك مخالفة، هذا هو الهدف من القانون عندنا: التباهى بكسره. الحصانة البرلمانية فى البلدان المتخلفة هى حصان وليست حصانة، يستخدمها صاحبها أحيانا لنقل الممنوعات أو المتاجرة فيها، يستبيح بها أعراض الناس ويتفاخر بذلك بين أقرانه، إنها ملامح المجتمعات المريضة لا المتخلفة فقط. ومن هنا أقول إن البرلمانات تشبه مجتمعاتها، ففى المجتمع الذى تجوب شوارعه النظيفة تاكسيات نظيفة ستجد مجلسا تشريعيا نظيفا لسن القوانين، أما فى المجتمعات العشوائية التى تنفث تاكسياتها روائح العوادم فى الطرقات المزدحمة القذرة فسوف تجد برلمانات عشوائية. وهذا التوصيف ليس من عندى، فقد وصف الدكتور فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب المصرى، الأداء البرلمانى لبعض نواب المجلس بالعشوائى، فعشوائية الشوارع وعشوائية الحياة لا تنتج مجالس تشريعية وإنما تنتج عشوائيات شعبية من العمال والفلاحين وغيرهم ممن لا يهتمون بالتشريع بقدر اهتمامهم بالفشخرة الاجتماعية وعلو الصوت. فى البرلمانات المتخلفة تجد آلاف الاستجوابات وطلبات الإحاطة التى يحقق من خلالها عضو البرلمان نجومية إعلامية، ثم تسأل وما هى النتيجة، وما هو القانون الذى صدر بعد كل هذه الاستجوابات وطلبات الإحاطة؟ النتيجة لا شىء، جعجعة ولا طحين، لذا فهى مجالس شعب ومجالس أمة لا برلمانات أو مجالس تشريعية. لو كنا جادين فى تطوير مجتمعاتنا يجب أن نبدأ بحوار جاد حول تحويل مجالس الشعب والأمة ومجالس الترويج والتهييج من مجالس شعبوية إلى مجالس تشريعية، تتقدم دولنا فقط عندما تنتج مجالس تشريعية حقيقية مهمتها سن القوانين والتشريعات، أما إذا استمرت كمجالس شعب أو مجالس شغب، فلا أمل فى التغيير. الشكل لا يكفى لكى نقنع أنفسنا ونقنع العالم بأن لدينا مجالس تشريعية وهى فى الحقيقة مجرد مجالس بلدية أو مجالس بلدى.