«التوك شو» غير «التوك توك شو». «التوك شو» أو برامج الحوارات، هى مصدر لمعلومات ولها طبيعة ترفيهية ومسلية. فمثلا فى القناة العامة الأمريكية، يعرض البرنامج الراقى الشهير الذى يقدمه المثقف اللماح «تشارلى روز»، الذى يتنقل من حديث مع رئيس دولة، إلى فقرة أخرى يتحدث فيها مع تونى موريسون، الحائزة على جائزة نوبل فى الآداب، ثم تأتى الفقرة الثالثة ليتحدث فيها مع فنان تشكيلى. وفى كل هذا يبدو تشارلى روز ملماً بمعلومات جيدة عن بلد بعيد كمصر مثلاً، وقارئاً لرواية ضخمة من العيار الثقيل فى الأدب، وملما بأصول الفن التشكيلى. وهناك كمثال آخر، برامج الأحد التى يقدمها جورج أستفانابولس، سواء عندما كان فى برنامج يوم الأحد على قناة ال«إيه. بى. سى»، أو فى دوره الجيد كمقدم لبرنامج واجه الصحافة فى قناة ال«إن. بى. سى»، وجورج كان المستشار الخاص للرئيس السابق بيل كلينتون. وهناك أيضا برنامج حوارى من تقديم فريد زكريا، رئيس تحرير «النيوزويك»، الحاصل على الدكتوراه فى العلوم السياسية من جامعة هارفاد حيث كان تلميذ صمويل هانتجتون أيامها، وهو (أى هانتجتون) الذى رشحه لأن يكون مدير تحرير مجلة «فورن أفيرز» الشهيرة. وطبعا هناك ستيفن ساكر فى برنامجه الشهير «هارد توك» فى قناة ال«بى. بى. سى» البريطانية. هؤلاء هم نجوم «التوك شو» فى الغرب، أذكياء وملمون بالموضوعات التى يفتحون الحوار حولها، ويحاورون رجالا ونساء لا يقلون عنهم ثقافة ومعرفة. هذا هو عالم «التوك شو» الذى أنتجته المجتمعات المتحضرة. أما عندنا، فالأصلح ألا نطلق على بعض برامجنا الحوارية الهزيلة والمهلهلة، تسمية برامج «توك شو»، بل نسميها برامج «التوك توك»، تيمنا بسيارات التوك توك المهلهلة أيضا التى تملأ شوارعنا. ولغير المصريين، التوك توك هو سيارة بثلاث عجلات، لا هى سيارة ولا هى موتوسيكل، يحشر فيها الناس كما يحشر السردين فى العلب، تجوب حوارى المناطق العشوائية وغير العشوائية فى القاهرة ومدن مصر المحروسة. منظر يمكن أن تراه أيضا فى شوارع دلهى المزدحمة فى الهند بلد المليار مواطن. فى هذا الجو المهلهل، لا يكون مستبعدا أن يتحول الكثير من حوارات التلفزة المصرية من حالة «التوك شو» الجدية المسلية إلى حالة «التوك توك» شو التى لا يُعرف رأسها من أساسها. امتلأت تليفزيوناتنا بوجوه وأصوات لا نعرف من أين أتت، فبدلا من من صورة (المصرى الفصيح) التى كانت تمثل مصر فى ستينيات القرن الماضى، وتؤثر إيجابا فى دول الجوار، بدأت تتسرب إلى العالم صورة أخرى ناتجة عما يعرض فى تليفزيوناتنا، يمكن تسميتها بصورة (المصرى القبيح).. ثقل ظل وسماجة وجهل. وبدأت تطغى فى مصر ثقافة اللمبى القائمة على نصيحة بطلة الفيلم (خالتى فرنسا) لابنها: «مطوتك فى جيبك، ومتخافش من حد يا لمبى». وفى فيلم اللمبى وثقافة اللمبى، فجأة تتحول أغنية أم كلثوم الجميلة من عالم الطرب إلى عالم التهريج، «دانتا لو حبيت يومين، كان هواك خلاك ملاك»، ليتبعها اللمبى بمقطع «هش هش يا ديك، الفرخة دى مش ليك». وفعلا لقد ظهرت علينا أصوات فى الصحافة والسياسة والإعلام تساوى المعادل الموضوعى للمبى، بل أصبحت نجوما على الشاشات فى برامج حوارية، بالطبع هذه الأصوات لن تكون مرتاحة فى عالم «التوك شو» المحترم، لذا تحولت بعض برامجنا إلى «التوك توك شو» حيث البيئة الطبيعية لمثل هذه الأصوات. برامج «التوك توك شو» كظاهرة عشوائية هى جزء من ظاهرة أوسع وأشمل، تخص العمران العشوائى وإشارات المرور العشوائية والتعلية بدون ترخيص، إلى آخر سلسلة الممارسات العشوائية فى المجتمع المصرى المعاصر. ظاهرة أخرى تطل علينا عبر الشاشات، وهى وجوه بعض البنات اللواتى يظهرن «على الهواء» مباشرة، بملابس وأساليب فى الحوار وما يتصورنه خفة دم ومسايرة للموضة، لا ندرى من أين جاءت إلى المجتمع المصرى، ومن أقنعهن بأن الليبرالية لا تكون إلا بهذه الصورة الفجة، حتى التبس علينا الأمر بين مصطلحى «بنات الهوى» و«بنات ع الهوا». فلقد عرفت مصر من قبل ذلك السيدة ليلى رستم كمقدمة برامج ليبرالية، وكذلك الرقيقة سلمى الشماع، وكانت هناك المذيعة المثقفة درية شرف الدين، ثلاثتهن كن سيدات ليبراليات ولكن بذوق مقبول بعيدا عن الفجاجة التى تقلع العين هذه الأيام. هؤلاء المذيعات الثلاث كن ينتمين إلى عالم «التوك شو» الحقيقى الذى يحترم عقل وذوق المشاهد. بالطبع ليس كل من على الهواء فى مصر اليوم هو من عالم التوك توك، هناك إعلاميون وإعلاميات حقيقيون وهناك برامج تعتبر ناجحة بالفعل وأثبتت وجودها فى عالم «التوك شو» الحقيقى، لكنها للأسف قليلة. على مصر أن تنظر إلى نفسها فى المرآة، ثقافة وسياسة وإعلاما، لتتحرك من عالم الدول الفاشلة ثقافيا إلى موقعها الطبيعى فى عالم الدول العظيمة ذات التاريخ العريق. تاريخ مصر يجب أن يرفعها إلى أعلى، بدل أن يُترك الأمر لعالم «التوك توك» وثقافة اللمبى، اللذين يجعلان تاريخنا يبدو كأنه جاثم علينا ويدوس بنا إلى أسفل.