نعيش فى بلد تصدر فيه القرارات الوزارية دون أدنى دراسة، وعندما يتأكد أى وزير من أن قراراً أصدره تسبب فى كارثة، يطلب من معاونيه البحث عن مخرج يخفف من آثار الكارثة، شرط عدم التراجع عن القرار الذى أصدره، حفاظاً على هيبة الحكومة التى يمثلها سيادته. ولكن هذه الهيبة الحكومية الصارمة، تتحول أحياناً إلى خطأ بسيط فى الاجتهاد، يسارع رئيس الوزراء بنفسه إلى التراجع عنه استناداً إلى القاعدة الأخلاقية التى تقول إن التراجع عن الخطأ فضيلة. والمشكلة أن أخلاق التراجع عن الخطأ، لا تنقح على هذه الحكومات التى تعاقبت على مصر خلال ربع القرن الأخير، إلا إذا امتدت الآثار الكارثية للخطأ إلى مصالح كبار المستثمرين، هنا تبلع الحكومة هيبتها وتنحنى لتلحس «الخطأ» الوزارى من تحت أقدام السادة المستثمرين. آخر القرارات الوزارية التى أصدرتها حكومة نظيف ثم سارعت إلى التراجع عنها جزئياً، هو القرار الذى أصدره وزير النقل قبل ثلاثة أسابيع تقريباً بحظر سير السيارات النقل على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى خلال يومى الخميس والجمعة من كل أسبوع خلال فصل الصيف، لتقليل حوادث السير على هذا الطريق، واللافت فى هذا القرار العجيب أن الغالبية العظمى من أصحاب المزارع على جانبى الطريق الصحراوى لم تسمع به، إلا عندما تعرضت سياراتهم المحملة بالمحاصيل الزراعية للمنع من استكمال رحلتها إلى الأسواق، وعادت مرغمة من حيث أتت، وتعرضت آلاف الأطنان من المحاصيل الغذائية للتلف السريع وتكبد المزارعون خسائر فادحة. والمتأمل لهذا القرار لا يمكنه الوصول إلى سبب لإصداره غير توفير أقصى سبل الراحة والاطمئنان للفئة الميسورة الأكثر استخداماً لهذا الطريق الصحراوى المؤدى إلى الساحل الشمالى، وإلى مناطق الاصطياف الأخرى، خصوصاً فى يومى الخميس والجمعة من كل أسبوع، وإخلاء هذا الطريق من كل ما يعكر صفو صبيان وبنات هذه الفئة. والذى حدث أن أصحاب الإقطاعيات الزراعية الضخمة فى هذه المنطقة اكتشفوا، بعد أسبوعين من صدور القرار، أن ضباط المرور منعوا أيضاً سيارات النقل التابعة لهم من استخدام الطريق خلال يومى الخميس والجمعة، فسارعوا إلى غرفة الصناعات الغذائية وإلى المجلس التصديرى للحاصلات الزراعية وعقدوا عدة اجتماعات ناقشوا خلالها التأثير الكارثى لهذا القرار على مصالحهم ورفعوا مذكرة إلى رئيس الوزراء، فإذا به يستجيب لمطالبهم ويصدر قراراً جديداً يتنافى مع أبسط المبادئ الدستورية، حيث قرر الدكتور نظيف دون أن يطرف له جفن استثناء سيارات النقل التابعة للشركات الغذائية والحاصلات الزراعية من تنفيذ قرار حظر سير النقل على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى يومى الخميس والجمعة. بمعنى آخر، القرار الوزارى المهيب يسرى فقط على المزارعين الصغار، ويستثنى أصحاب الشركات الأقوياء من الخضوع له، وتلك كارثة غير مسبوقة فى تاريخ القرارات الوزارية حتى فى أكثر الدول فساداً، إنه انتهاك صارخ لمبدأ المساواة فى الدستور، واحتقار بالغ لعشرات الآلاف من المزارعين البسطاء، يقتضى ليس فقط التراجع الفورى، ولكن الاعتذار العلنى من رئيس الوزراء للمزارعين فى هذه المنطقة. [email protected]