إنه فى يوم حر زمهرير قررت أن آخذ ما نجا منى من أنفلونزا الخنازير والطيور و الطاعون والحمى القلاعية، وأن أقلد أولاد الذوات، وأذهب إلى الساحل الشمالى.. وبعد أن ركبت الناقة وشرخت تذكرت أننى نسيت آخد معايا حقيبة السفر (وهكذا العباقرة دائما)، فطبعا كان لابد من الرجوع.. ولأن الركنة صعبة جدا فى شارعنا، وكنت سأحضر حقيبتى سريعا، فلذلك ركنت صف تانى... وفعلا لم أتغيب سوى دقائق قليلة إلا أننى وجدت سيارتى قد اتكلبشت مع سبق الإصرار والترصد.. وفى وسط ذهولى، أتانى حارس العقار وأفهمنى أنه لابد من أن أذهب إلى كشك المرور وهو على بعد تلت ساعة سيرا.. ولأنه رجل شهم صمم أن يصطحبنى إلى هناك.. فى الطريق قابلنا بواب العمارة المجاورة لنا وأيضا أخدته الشهامة وقرر أن يصحبنا.. شافنا مين؟.. بواب العمارة المجاورة له.. وأيضا صحبنا بدوره.. على ما انتهى الشارع كنت ولله الحمد أمشى وأنا محاطة بسبع بوابين جدعان، الواحد فيهم على أكتافه يقفوا صقرين.. أثناء السير بدأوا يلوموننى أنى كنت رافضة اصطحابهم لى وقالوا لى: «مش حضرتك شايفة وسامعة دول بيعملوا إيه فى أى حد يقع فى إيدهم إشى تعذيب و إشى بهدلة».. ورغم أنى أجبتهم بأن الأمور الآن أهدأ كثيرا عن ذى قبل إلا أنهم لم يقتنعوا. و بدأ كل واحد منهم يسرد واقعة سلبية قرأها أو سمع عنها.. وفى وسط الطريق وأثناء الحكايات، استأذن أحدهم بذات نفس الشهامة لأنه نسى شراء طلب لساكن عنده.. بعد قليل استأذن آخر لنفس السبب وبنفس الشهامة.. وقبل أن نلمح كشك المرور كان ستة من أصدقائى البوابين قد استأذنوا ولم يتبق معى سوى بواب عمارتى... وعند توجهنا لباب الكشك، أخدنى صديقى الوفى على جنب وقال: «أنا رأيى إن حضرتك تدخلى لوحدك.. برضه شكلك بنت ناس وهيكونوا محترمين معاكى إنما أنا ممكن يتلككوا لى بأى حاجة و يحجزونى!».. وذهلت مما قاله!! ألهذا الحد يكسر الخوف الناس أكثر من الفقر؟!.. ماذا يتبقى لك فى بلدك إذا فقدت إحساسك بالأمان تجاه المكلف بحمايتك؟ وتذكرت أبيات أستاذى فاروق جويدة: «فِى كُلِّ رُكْن ٍمِنْ رُبُوع بِلادِى، تَبْدُو أمَامِى صُورَة ُالجَلادِ.. وَعَلى امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِى الوَادِى.. وَصَرَخْتُ، وَالْكَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فَمِى: هَذِى بِلادٌ.. لمْ تَعُدْ كَبِلادِى».. وعَذرت صديقى الوفى وأجبته: «طيب إستنانى على جنب، ولو لقيتنى اتأخرت ابقى إرقع بالصوت.. تعرف ترقع بالصوت؟».. فانتعش وأجابنى بنفس الشهامة اللى أبداها فى البداية: «طبعا أعرف».. وتركته واتجهت للكشك، ثم فكرت.. طب أنا كده عاملة فيها شجيع السيما بأمارة إيه ؟! قد أبدو لحارس العقار أننى «بنت ناس» لكن أضمن منين إنهم داخل هذا الكشك سيكون لهم نفس وجهة النظر؟!!.. وحينئذٍ.. ولأننى بلا فخر أنتمى إلى جماعة «الجبناء الجُدد»، قررت أن أتراجع تراجع العظماء.. مثلما كان سيتراجع صلاح الدين لو كان قد «انهزم» فى موقعة حطين!.. وتعجبت لموقفى.. فرغم أن تجاوزات الشرطة انخفضت كثيرا عن ذى قبل، وأصبح واضحا أنهم يريدون فتح صفحة جديدة مع المواطنين، إلا أن الناس أمنت واستكانت للخوف الذى استقر فى النفوس.. حتى إننا أصبحنا لا نريد خوض أى موقف فنتأكد منه أن الأمور ربما تكون متجهة للأفضل.. المهم أننى عدت لصديقى الشهم الذى كان واقفا على جنب مختبئا اختباء الشجعان... وبمنتهى ذات نفس الشجاعة منى وضعت فى كف يده قيمة المخالفة المفروض دفعها وقلت له: «أنا غيرت رأيى ومش هاسافر، لما ينزل بقى صاحب العربية اللى أنا قافلة عليها ويحب يطلع، إديله المخالفة يدفعها، وخليه يبقى يفك كلابش عربيتى بمعرفته!».