دعانى أحد الأصدقاء لحضور حفل زفاف ابن خالته فى منطقة شعبية فى القاهرة. كان يلحّ فى حضورى، رغم أننى لا أعرف العريس أو العروس. ربما كان يطمع فى «نقطة» بدعوى أننى - على حد تعبيره- «ابن بلد»، وحريص على التواجد بين البسطاء، بعيداً عن الافتعال والمجاملة. ذهبت بالفعل، ومررت فى شوارع ضيقة لا تخلو من الجمال رغم عشوائيتها، ولا أعرف لماذا أحسست بالحنين إلى الماضى، حيث حملتنى ذاكرتى إلى عالم ملىء بالدفء والعفوية والسذاجة. كانت الألوان من حولى تتطاير جملاً وكلمات متداخلة، وتذكرت نصائح أمى: «ماتخافش.. هىّ الرجالة بتخاف؟.. الراجل ما يعيطش.. خليك راجل.. لو طلعت الأول هجيبلك بسكليتة.. اللى يضربك اضربه». فجأة.. اختفى ذلك العالم البرىء، وأفقت على مشهد الفرح الصاخب، وعلى تلك الجملة التى تمر عبر مكبرات الصوت المنتشرة فى البلكونات المحيطة: «الرجولة أدب»، فتسمّرت مبتهجاً.. لا أعرف لماذا! التقطتنى عينا شاويش المسرح، فانهالت السلامات يميناً ويساراً: «حاسب يا عم.. الشاشة الفضية والذهبية.. نجوم بلدنا.. يعنى مصر هى أمى.. وسمّعنى سلام دموع فى عيون وقحة». ثم بدأت الفرقة تعزف موسيقى مسلسل (جمعة الشوان)، وارتفعت المطاوى والسنج، واندلعت وصلة رقص هستيرى وسط رصاص ينطلق من مصادر متعددة! لا أخفيكم سراً أننى أحسست بنشوة الانتصار، لكننى سرعان ما لملمت ابتسامتى البلهاء وعدت إلى مكانى. كان الصراع على «الكريستا» - أى «المايك» - هستيرياً ومتواصلاً. لم يكن هناك اهتمام: لا بالراقصة البدينة ولا بالمطرب المغمور، بينما تصدّر شاويش المسرح هذا المشهد الرائع بعد صراع رهيب للإمساك بالمايك: «حاسب يا عم.. الكريستا مافيهاش شوكولاته.. وخير الكلام ما قل ودل». لحظة صمت، ثم تحول المشهد أمامى إلى صور فوتوغرافية متتالية. الجميع يتهافتون على «الكريستا» فى مشاهد استعراضية وجمل صادمة تتصدرها لافتة من كلمة واحدة: «الرجولة». يا إلهى!.. ما هذا التعبير الرائع: «الكريستا مافيهاش شوكولاته»! إنها سخرية من محاولة احتكار الميكروفون بوضعه قريباً جداً من الفم، أى محاولة لحسم الصراع الذكورى، المغلّف بحب الظهور، بحثاً عن بطولة ولو لبضع لحظات. والغريب أن شاويش المسرح هو الذى اخترعها، وهو الأكثر بحثاً عن البطولة. تركت الفرح فى وقت متأخر من الليل وانسحبت وحيداً. ومن زحام البشر إلى زحام الإعلام توقفت قليلاً لألتقط - كعادتى - بعض الجرائد من على أحد أرصفة وسط البلد. لا أعرف لماذا سيطرت على ذهنى عبارة «الكريستا مافيهاش شوكولاته»، ومن خلالها قرأت الجرائد هذه المرة، وأحسست أن الجميع متساوون، بمن فيهم أنا. تذكرت حواديتنا وبرامجنا ومأثورنا الشعبى. تذكرت نفسى فى فترة المراهقة، ووجدتنى أتساءل: «كام مرة انضربت؟.. وكام مرة حكيت عن مدى بطولتى فى الخناقة؟». انتابتنى نوبة ضحك هستيرى. تذكرت حكايات الأصدقاء فاكتشفت أن هاجس البطولة هو الذى يسيطر على كل الحكايات، بما فيها حكايات الحب. تبادر إلى ذهنى بعض البرامج التليفزيونية الشهيرة: «نعم.. لا أحد يسمع أحداً.. الشغل الشاغل هو إثبات صحة كلامى وخطأ كلام الآخر». توحدت «الكريستا» مع كاميرا التليفزيون وميكروفون الإذاعة وقلم الصحفى. رحلات متداخلة ومتشابكة بحثاً عن بطولة، ورفض متواصل للاعتراف بالخطأ أو حتى استيعاب الآخر، وعدم رضا كامن بفكرة «الدور الثانى». تشويه لاشعورى مستمر لقيمة العمل وأمانة الكلمة، حتى تحولنا إلى ماكينة ضخمة بلا تروس. إعلام هش بلا مهنية، وبشر لا يخطئون، وشماعات فارغة، عليك فقط أن تلتقط واحدة لتعلق عليها أخطاءك. عالم من الأبطال بلا إنتاج حضارى. قد أكون واحداً من الباحثين عن البطولة، لكننى أذكّر نفسى وأذكّركم بعبارة شاويش المسرح: «الكريستا مافيهاش شوكولاته». *** هذه حكاية حقيقية من أرشيف صديقى «عمرو سعد»، بطل فيلم خالد يوسف الأخير (دكان شحاتة)، وفرس رهان السينما المصرية هذه الأيام. «عمرو» ليس كاتباً محترفاً، لكنه حكّاء ممتع، وعندما كتب هذه الحكاية وقرأها لى عبر الهاتف أحسست بالفرح، وقررت أن أستبدل بمقالى حكايته، تاركاً للقارئ حرية استبطانها والوقوف على ما فيها من معانٍ ودلالات.