رغم أننى قد زرت أكثر من مائة مدينة فى خمس قارات، فإنه لم تتح لى الفرصة حتى الأسبوع الماضى لزيارة مدينة الأقصر. جاءت تلك الزيارة فى سياق مؤتمر كان لى الشرف فى الاشتراك فى تنظيمه مع الجامعة البريطانية وأكاديمية البحث العلمى، والذى ترأسه الدكتور شعبان خليل، مدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية، وحضره أكثر من مائة عالم من أوروبا والولايات المتحدة واليابان وأماكن أخرى مثل الهند وإندونيسيا. جاء هذا الحشد الهائل من العلماء لمناقشة آخر تطورات علم جسيمات ال«نيوترينو»، وهى جسيمات أولية لا تكاد أن تكون لها أى كتلة (أو وزن) تقريبا- بل كان يعتقد حتى وقت قريب أن كتلتها منعدمة تماما- ولا يمكن رؤيتها، لأنها لا تتفاعل من خلال القوة الكهرومغناطيسية، فلا يمكن أن ينبعث منها إشعاع ضوئى، لذلك فإن رصد تلك الجسيمات الشبح يتضمن تحدياً عملياً عظيماً. (فى كل ثانية يخترق جسد القارئ عدد مهول من أجسام النيوترينو الكونية دون أن يشعر بها!). بالفعل، فإن التيقن بوجود تلك الجسيمات جاء فى البداية عن طريق التنبؤ النظرى، الذى سبق الكشف التجريبى. وكان العالم العظيم ولفجانج باولى هو أول من افترض (فى سنة 1930) وجودها على أساس نتائج تجارب الإشعاع الذرى.. كانت تلك التجارب تشير إلى أن هناك طاقة مفقودة فى عمليات تشرذم النواة المشعة، فالطاقة المرصودة فى الإشعاع لم تساو الطاقة المفقودة من النواة المشعة.. اين تذهب هذه الطاقة إذن؟! افترض باولى أن الذى يحمل الطاقة الضائعة هو جسيم جديد لم يتم رصده والتعرف عليه حتى ذلك الحين، وأطلق علية العالم الإيطالى «إنريكو فرمى» اسم النيوترينو (أى النيوترون الصغير). بهذه الطريقة تم إنقاذ قانون بقاء الطاقة، فى مقابل اختراع جسيم جديد.. وتبين فيما بعد أن النظرية تحتم وجود أكثر من نوع من النيوترينو وأنها يمكن أن تتحول تلقائيا من نوع لآخر. قد يبدو ذلك فى أول وهلة نوعا من ال«تحايل» على الطبيعة- أو حتى ال«تلفيق»- لأنه يتضمن اختراع أشياء غير مرصودة لإنقاذ نظرياتنا العلمية من الانهيار! ولمدة عقود كان يبدو للبعض أن هذا هو الحال بالفعل، حتى تم الكشف عن جسيمات النيوترينو عمليا، واحد تلو الآخر (وحصل مكتشفوها على جوائز نوبل). وتبين أيضا أن هذه الجسيمات تلعب دورا مهما فى عملية تطور الكون ككل- خصوصا خلال مراحل التمدد الأولى، حيث تكون الطاقة التى تحملها كبيرة، نظرا لسرعتها التى تقترب من سرعة الضوء، فتدفع عملية تمدد الكون. يبدو لى دائما (كما أشرت فى السابق، فى أكثر من مناسبة وسياق)، أن هناك نوعا من السحر فى عملية التنبؤ تلك- المبنية على المنطق النظرى الذى ينتهى بالكشف العملى عن ظواهر مادية جديدة فى عالم الواقع- فقد ظل النيوتيرنو كامن ككائن خيالى فى عقل الإنسان، التى تنبأت نظرياته بوجود هذا الجسيم الشبح، حتى ظهر على أرض الواقع وتجسد فى الطبيعة. فى هذا السياق، يبدو الفكر العلمى النظرى كقمة تألق العقل البشرى فى محاولاته لتنظيم الكون وفهمه. لذلك، ربما لم تكن الصدفة البحتة هى وحدها التى قادتنى لزيارة اليونان عدة مرات، وتفقد الآثار فيها، والتعمق فى قراءة تاريخ وفلسفة وأدبيات الحقبة الإغريقية، بينما لم أبد نفس الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة.. ذلك لأن الفكر النظرى ال«سيستيماتيكى»، فى العلوم الأساسية والفلسفة والفن كان معقله ومسقط رأسه فى أثينا وأتيكا ودلفى وجزر اليونان. أما القدماء المصريون، فكانوا إناساً عمليين، يعتمدون على التجربة والخطأ فى بناء منشآتهم العظيمة، وفى إتقانهم للعلوم التطبيقية الأخرى مثل التحنيط والفلك...إلخ. وكان الفن عندهم مكرساً بالكامل فى خدمة الأسطورة.. والأساطير الفرعونية احتوت على معان عميقة تعبر عن حالة الإنسان عن طريق التشبيه الشاعرى والكناية، لكنها افتقدت نوعية الفكر الفلسفى المنظم الذى ظهر فيما بعد فى اليونان. لكن زيارتى للأقصر غيرت من رؤيتى تلك بعض الشىء، فرغم افتقاد الحضارة المصرية القديمة للفكر النظرى كما نعرفه الآن، فقد عوضت عن ذلك بالعمل الدؤوب والعزيمة فى عملية تكرار التجربة والخطأ حتى الصواب.. فلا يمكن لأحد تأمل إنجازاتها التقنية الجميلة والمذهلة فعلا، مثل معبد الكرنك، دون الانبهار بعظمة وعزيمة وإصرار من قاموا ببنائها- من خلال التجارب المتكررة، مهد المصريوم القدماء الطريق نحو المنظومة العلمية الحديثة، التى تعتمد على فرض النظرى والتفنيد التجريبى، ومن خلال الخيال الأسطورى عملوا على تنظيم العالم حولهم وإعطائه معنى، ودفعتهم تلك الأساطير والمعتقدات أيضا نحو العلم التجريبى، من خلال بناء المعابد وعلوم التحنيط...إلخ. هذا هو التراث الذى استخدمه وطوره اليونانيون فيما بعد. إن العلم الحديث وليد الأسطورة ونابع منها ويشبهها فى نهجه النظرى، فهو أيضا يجسد محاولة لتنظيم العالم، لكنه يختلف فى شقه النقدى والعملى: فعندما تفترض الأسطورة العلمية جسيمات «أشباح» مثل النيوترينو، يتعين ويتحتم الكشف عنها عمليا، وإلا سقطت الأسطورة (أى النظرية) العلمية. هذا النمط العلمى الحديث هو نتيجة للفكر اليونانى القديم، الذى نجح فى فصل الفرض النظرى عن الأساطير الموروثة وجعل من النظرية العلمية منظومة نظرية مستقلة ومرنة، يمكن تفنيدها عمليا وتغييرها لتتأقلم مع الواقع. هذه بالطبع قفزة فكرية عملاقة للأمام، لكنها ربما كانت مستحيلة فى غياب القاعدة الصلبة التى شيدها المصريون القدماء.