الدعوة من بعض الآراء مؤخرا إلى وقفة مع النفس ومراجعة مجمل العلاقات بين مصر والدول العربية على خلفية أحداث مباراة الجزائر هى دعوة الحق التى يراد بها الباطل بعينه، لأنها دعوة وليدة لحظات غضب وانفعال غير منضبط أو محسوب العواقب يدفع إلى هدم المعبد على من فيه، ويعكس عدم وعى بحقائق تاريخية وجغرافية، ويذكرنا بمرحلة سبعينية تجاوزتها مصر، ويحاول البعض العودة إليها من جديد بشعارات عاطفية لا علاقة لها بواقع دولة كبرى فى المنطقة، عليها واجبات ولها حقوق بحكم موقعها الجغرافى وحضارتها العريقة ودورها التاريخى الممتد. وعاد تيار الانعزالية والانغلاق والعزلة والانكفاء على الذات وغلق الأبواب والنوافذ، وعادت معه شعارات: «مصر فوق الجميع» و«مصر أولا» و«بلا عرب ولا نيلة» و«أخدنا إيه منهم؟»، و«إحنا اللى علّمنا وأكلنا» و«إحنا بتوع التاريخ».. وهى الشعارات والأفكار التى سقطت وثبت زيفها، ولكنها تعاود الظهور وتحيا عند كل خلاف أو شقاق عربى بين مصر وإحدى الدول العربية الشقيقة، مثلما حدث عقب مباراة مصر والجزائر، عندما حاول بعض المتظاهرين بالغضب المزايدة وإسقاط ما حدث على عروبة مصر وانتمائها القومى. مثل تلك الدعوات الكارثية تأتى فى وقت مصر فى أشد الحاجة فيه إلى وقفة حقيقية مع النفس لمراجعة مواقفها وتوجهاتها الإقليمية وإعادة شحن دورها التاريخى من جديد فى ظل التحولات والانقلابات الكبرى فى النظام الإقليمى فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، فهناك أطراف ثلاثة إقليمية تتصارع للسيطرة وملء الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة فى ظل غياب أو انسحاب مصر أو تحديدا دورها التاريخى وأمنها القومى. فالهدف الإسرائيلى واضح من البداية لمحاولة قيادة النظام الإقليمى الجديد منذ طرح مفهوم الشرق أوسطية، الذى تكون إسرائيل فيه القائد وفق نظرية شيمون بيريز. وإيران تتوسع وتتمدد لاحتلال موقع متقدم أو قيادى فى الساحة العربية، وبات لها رأى ومشاركة ووجود وتأثير فى القضايا العربية، والدور والنفوذ الإيرانى لم يتوقف عند حدود المنطقة العربية بل يتواجد الآن فى عدد كبير من الدول الأفريقية التى كانت تعد رصيداً استراتيجياً لمصر وأصبحت أفريقيا منفذاً حيوياً لإيران تحقق فيه مصالحها وأهدافها مادامت الدولة الكبرى فى المنطقة غائبة عن دورها الطبيعى الذى ورثته ولم تعد تمارسه على أرض الواقع. وتركيا التى يئست من الموقف الأوروبى إزاء مطالبتها ومحاولاتها المتكررة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أعادت ترتيب أوراقها ونقل اهتماماتها ومصالحها من الغرب إلى الشرق، وتحديدا فى القلب العربى وفى قضيته المركزية القضية الفلسطينية، واعتبرت بعض الآراء فى الغرب أن إيران وتركيا توشكان أن تصبحا الناطقين الرسميين باسم القضية الفلسطينية، وهو ما يعد ضربة موجعة لدور مصر المركزى فى المنطقة العربية. وأى دولة لها الحق فى العمل من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها وفق أجندتها السياسية ولا يمكن توجيه اللوم لإيران أو تركيا.. أو حتى إسرائيل فى الصراع على قيادة الانقلاب فى النظام الإقليمى الجديد فى المنطقة، الذى تبدو ملامحه غير واضحة حتى الآن وتجاهد الأطراف الثلاثة على محاولة ولادته وتشكيله. فهل تبقى مصر الإدارية مجرد شاهد على ما يدور حولها ومتفرجة على صراعات تقسيم الأدوار والنفوذ؟ إن مصر التاريخية هى الأحق والأجدر دائماً، ولا يمكن أن تبقى ساكنة ومقيدة ومكبلة وهى ترى حولها الورثة يتنازعون ويتقاسمون دورها الإقليمى. الدعوة الحقيقية الآن ليست بإسقاط العروبة ولعنها وإنما بالعودة إلى الحضن العربى على أسس جديدة تستهدف مصالح الجميع، ولا تهدمها مباراة فى كرة القدم.