فى سلسلة سابقة تحت عنوان «الانتخابات والصراع الدولى» ركزنا على أربعة مداخل مختارة تربط الصراع الدولى بالعملية الانتخابية. وكانت هذه المداخل هى: 1- منظور مفاهيم الحوكمة، 2- منظور مفاهيم الاختراق والتبعية الدوليين، 3- منظور مفاهيم انتشار الديمقراطية، 4- منظور مفاهيم المجتمع المدنى الدولى العالمى. وفى السلسلة السابقة مباشرة طرحنا منظور المفاهيم والعوامل والمقتضيات الجيوبلوتكية والجيواستراتيجية فى تحليل الصراعات، وهى السلسلة التى جرت تحت عنوان «فى أصول التوتر الحدودى السعودى اليمنى». وحسبنا العوامل الجيواستراتيجية باعتبارها، من ناحية، العوامل التى تعين وتثمن العوامل التى تحدد مناطق الانكشاف لأمن دولة ما فى سياق الإقليم الأوسع، بمعنى أنها العوامل المرتبطة بتشكيل مصادر النفوذ الاستراتيجى فى الإقليم الواسع، وهذا مختلف عن حساب العوامل الجيوبلوتكية، والتى هى العوامل المحددة لمصادر الخطر الأمنى على استقرار قوة الدولة ونموها فى المناطق المرتبطة بالحدود الجغرافية بشكل مباشر، ومن ناحية أخرى، تم حساب العوامل الجيواستراتيجية بارتباطها بالصراع على الهيمنة بين الدول الكبرى داخل الإقليم العربى والدول الكبرى داخل إقليم الشرق الأوسط. السؤال التحليلى المهم والمتصل بصنع السياسات الاستراتيجية للدولة المصرية: هو كيف يمكن فهم العملية الانتخابية كمظهر من مظاهر الصراع الجيوبلوتكى والجيواستراتيجى؟ وهذا يمثل المدخل الخامس من مداخل الانتخابات والصراع الدولى. نجد فى العالم العربى على الأقل ثلاث دول يمكن فهم العملية الانتخابية فيها كعملية جيوبلوتكية وجيواستراتيجية فى المقام الأول، وليس كالمداخل الأربعة المذكورة فى مطلع المقال باعتبارها عمليات انتخابية لها آثار وانعكاسات جيوبلوتكية وجيواستراتيجية. والدول هى السودان والصومال والعراق. وتجرى الانتخابات خلال هذه الأشهر فى السودان والعراق. فى هذه الدول الثلاث يأتى الاستعداد للانتخابات وإجراءها ونتائجها كجزء لا يتجزأ واعتبارها حقا أصيلاً مرتبطاً بشكل حاسم بترتيبات القوة بالنسبة للدول المجاورة أو بالنسبة للصراع من أجل الهيمنة فى الإقليم. لهذا نتعامل منهجياً بشكل مختلف عن منطق «المصيدة المتعددة المراحل» الذى طرحناه سابقا عند تحليل الانتخابات والصراع الدولى. نقوم بطرح منهج ونظرة مختلفة نطلق عليها منطق «تلاشى الحدود»، وهو المنطق الذى يقول بالمقولات الثلاث التالية: أولا، إن الحدود بين العمليات القانونية والعمليات الدستورية والعمليات السياسية والعمليات الاجتماعية والعمليات الاقتصادية لتركيب العملية الانتخابية يتلاشى أو على الأقل يتغير بشكل مستمر وغير محدد مسبقاً فتصير الحدود مرنة بشكل واسع النطاق بحيث تسبب بشكل ملحوظ فى خلق مناخ غير منتظم وغير تراكمى فى ممارسة العملية الانتخابية، ثانياً، تكثيف البرامج والأنشطة العابرة للحدود القومية بشكل يساهم بشكل كبير فى التلاشى الفعلى لقوة الدولة وسيطرتها على العملية الانتخابية، فى هذا الوضع يتم خلق وضع رمزى أشبه بتوازن القوى المتعدد المستويات بين الطوائف والطبقات والقبائل والنواحى والمذاهب وغيرها، بعبارة أخرى، كلما اتسق الاتزان بين القوى، ساهم ذلك فى إتمام العملية الانتخابية بنجاح باعتبارها إعادة للهيكلة الجيوبلوتكية والجيواستراتيجية فى الإقليم، ثالثاً، فى سياق هذه العملية من التلاشى المركب والممتد تجرى عمليات عديدة من التحور بين وعبر الفواعل والقضايا المختلفة فى العملية الانتخابية بحيث يتم خلق جديد ومتجدد للترتيبات المجتمعية والعالمية المتصلة بمخرجات الهيكلة الإقليمية طالما استمرت العملية الانتخابية، فالفشل فى التوافق على محاور مجتمعية وعالمية للهيكلة بالتأكيد يسبب استمرار الفشل فى جعل الانتخابات ونتائجها مؤشرا للاستقرار الإقليمى فيستمر الصراع الدامى. فى إطار هذه القواعد الثلاث سندرس ما يجرى فى السودان من تلاش ممتد ومركب ومتزامن، الأمر الذى يفرض على مصر دورًا جديداً مختلفاً عما اعتادت أن تقوم به فى تسوية أو تسكين الصراعات فى السودان وحوض نهر النيل والقرن الأفريقى الكبير عبر العقود الماضية، وهو الدور الذى سيستدعى من مصر أن تعيد هيكلة الكثير من مؤسساتها العاملة فى هذه المنطقة الواسعة سواء من حيث القيم أو الممارسات.. ويستمر التحليل.