لن أستفيض كثيراً فى الحديث عن الشعور بالفرحة والفخر، الذى شعرت به، مثلما شعر به ملايين المصريين، لدى فوز المنتخب القومى المصرى لكرة القدم ببطولة الأمم الأفريقية. والفوز والإنجاز فى أى مجال هو أمر يدعو إلى السعادة ويولد الأمل، سواء كان فى الاقتصاد، أو فى البحث العلمى، أو الحرب، أو فى السياسة، أو فى الرياضة ..، وهو غالبا ما يكون نتاج جهد شاق، جماعى وعلمى ومنضبط، أى أنه ليس هناك إنجاز بالمصادفة، أو لظروف عابرة، لأنه إن تم على هذا النحو، فإنه يكون عابراً قصير العمر، ولكن فوز الفريق المصرى لكرة القدم كان إنجازاً حقيقياً، لأنه استند إلى تخطيط علمى، وإلى عمل جماعى، وإلى جهود جادة لقيادات ومسؤولين على قدر عال من الإحساس بالمسؤولية، فضلاً عن الكفاءة العالية، ولذلك، فهو إنجاز سوف يكون –غالبا- مقدمة لإنجازات أخرى فى ميدان رياضة كرة القدم، وربما كان ظهور مصر لأول مرة فى قائمة أهم عشرة فرق على مستوى العالم هو الدلالة القاطعة على أصالة وديمومة هذا الإنجاز، إذا استمرت الجهود فيه على نفس الوتيرة التى أوصلتنا للبطولة الأفريقية. غير أن اهتمامى الأساسى والأول هو السياسة، وأوضاعنا السياسية، وهى مجالات لا تبعث على الرضا والسعادة، مثلما يحدث فى مجال كرة القدم! ولكن الإنجاز الذى تحقق فى هذا الأخير أغرانى بشدة للمقارنة بين الأداء والإنجاز فى المجالين، وهى مقارنة وردت بلا شك على بال كثيرين غيرى، بل أشار بعض الكتاب إليها بالفعل، وسوف أتوغل هنا أكثر فى تلك المقارنة، لكى أثبت أن السبب الأول، والأساسى، للإنجاز الذى تحقق كروياً هو –ببساطة- لأن أمور الكرة تدار بأسلوب «ديمقراطى» لاشك فيه، وأن اتباع هذا الأسلوب هو السبب الأساسى للإنجاز الذى تحقق كرويا، تماما كما أن افتقاده هو الذى يفسر الإخفاق الذى حدث -ولايزال– سياسيا! سوف أقدم المقارنة هنا –ببعض التجاوز- بين قيام النوادى الرياضية بدورها فى مجال كرة القدم، وأداء الأحزاب السياسية فى مجال السياسة، فى ظل وجود تعدد فى النوادى الرياضية يناظر أو يماثل التعدد فى الأحزاب السياسية، على أساس أن الهدف هو الوصول إلى تشكيل «فريق قومى» للكرة، يناظره هدف تكوين «حكومة» فى السياسة. وبالتالى، مثلما توجد لدينا أحزاب الوطنى، والوفد، والتجمع، والناصرى، والغد، والجبهة، والعديد من الأحزاب الأخرى الصغيرة، فإن لدينا أيضاً عدداً كبيراً من النوادى التى يشارك الكبار فيها فى الدورى الممتاز للكرة، ونواد أخرى أقل مكانة.. وهكذا. إن أول أسباب النجاح الكروى، والفشل السياسى، هو أن الفريق القومى «الكروى» لا يحتكره ناد واحد، على عكس الفريق القومى «السياسى»، أى الحكومة التى يحتكرها حزب واحد، منذ ما يزيد على ثلاثين عاما! إن عدد اللاعبين الذين شكلوا الفريق القومى المصرى كان ثلاثة وعشرين لاعبا (يقارب عدد أعضاء الحكومة) ولكن هؤلاء اللاعبين الثلاثة والعشرين ينتمون إلى تسع أندية (الأهلى: 6، والزمالك: 5، والإسماعيلى: 2، وإنبى: 3، والمنصورة: 2، والمصرى: 1، حرس الحدود: 1، بتروجيت: 1، الاتحاد السكندرى: 1). أما لاعبو الفريق السياسى، «الحكومة»، فهم جميعاً ينتمون إلى حزب واحد، وهو أمر مستمر منذ ما يقرب من نصف القرن! وليتخيل معى القارئ حال كرة القدم المصرية، لو أن النادى الأهلى مثلا كان هو الذى يحتكر تشكيل فريق الكرة القومى لأن ذلك كان سيعنى ليس فقط حرمان الفريق القومى من مهارات وقدرات رائعة فى النوادى الأخرى، وإنما أيضا ضعف وذبول تلك النوادى الأخرى كلها، فضلا عن أن النادى الأهلى نفسه سوف يتدهور بالضرورة مع الوقت فى ظل انعدام المنافسة مع الآخرين. ثانى أسباب النجاح الكروى والفشل السياسى هو أن جمهور النوادى ومشجعيها يستطيعون أن يعبروا عن تأييدهم أو معارضتهم لها بحرية، ويذهب إليهم الآلاف، بل عشرات وربما مئات الآلاف لتشجيعهم ومؤازرتهم والهتاف لهم أو ضدهم، وتشكيل الروابط لدعمهم ومحاسبتهم... إلخ، لا يعترضهم ضباط وعملاء أمن الدولة، ولا يستدعونهم فى ساعات الليل المتأخرة لسؤالهم عن سبب تأييدهم لهذا النادى أو ذاك. وإذ اندسوا بينهم، فذلك غالبا على سبيل الاحتياط لئلا يستغل تجمعهم -لا قدر الله– لأسباب أو دوافع سياسية، أما مشجعو الأحزاب وأنصارهم، بل المهتمون عموما بالسياسة (عكس المهتمين عموما بالكرة)، فإن أمن الدولة لهم بالمرصاد. وعندما خرج مئات الآلاف من الشوارع فى مدن مصر جميعاً فى الأسبوعين الماضيين يصيحون ويحرقون الإطارات احتفالا بانتصارات الكرة، لم يتحرش بهم أحد من أمن الدولة، ولكن عندما وصل ثلاثون شابا صباح يوم الجمعة، 15 يناير 2010، إلى نجع حمادى لمواساة أهالى ضحايا العملية الإرهابية ضد المسيحيين هناك، قبض عليهم رجال أمن الدولة ووجهت إليهم النيابة تهمة «تجمع أكثر من خمسة أشخاص فى مكان واحد»، و«الصياح» وتكدير الأمن العام!! ثالث أسباب النجاح الكروى والفشل السياسى هو أنه فى فرق النوادى وفى الفريق القومى ليس هناك، فى الغالب الأعم، إلا معايير الموهبة والكفاءة والمهارات لاختيارات اللاعبين، سواء على مستوى كل ناد، أو على المستوى القومى، ولحسن الحظ أننا لم نسمع أن أمن الدولة قد تدخل لفرض لاعب أو لرفض آخر، أو أن لاعباً اختير لأنه قريب فلان أو علان (وإن حدث فإنه يكون أمراً مفضوحاً ومدانا وغالبا لا يستمر!) ومن حسن الحظ أيضا أنه لا يوجد توريث فى الكرة، وإذا برز ابن أو قريب لأحد اللاعبين أو المدربين أو مسؤولى الأندية أو الاتحادات الرياضية، فإن عليه أن يثبت فعلا كفاءته وقدراته الحقيقية. يرتبط بهذا -رابعا– أن عالم كرة القدم تجرى أغلب أحداثه ووقائعه على مرأى ومسمع من الرأى العام، بل إن الرأى العام كثيرا ما يكون شريكا فى بعض القرارات التى تتخذ بشأن اختيار لاعبين، أو تشكيل أجهزة، أو تقييم لأداء أفراد أو مؤسسات، بل إن مباريات الكرة نفسها لا يكتمل معناها إلا بحضور الجمهور، حيث التأييد والتشجيع جزء لا يتجزأ من اللعبة نفسها، غير أن تلك الشفافية تكون مفتقدة فى النظم السياسية اللاديمقراطية، فالقرارات السياسية يجرى صنعها واتخاذها فى غرف مغلقة، والكثير من الأجهزة والمؤسسات لا يعرف الرأى العام عن عملها وإدارتها شيئاً تحت مبررات كثيرة، مثل المصلحة الوطنية أو الأمن القومى، أو بدون مبررات على الإطلاق! ليفاجأ الرأى العام بتغيرات هنا أو إجراءات هناك. ويرتبط بهذا –خامساً- وجود الحساب و«المساءلة» المستمرة فى عالم كرة القدم، على عكس الحال فى السياسة، فعلى مستوى اللعبة ككل، ومؤسساتها، أى الاتحاد والأندية، تجرى مساءلة ومحاسبة قاسية فى حال الفشل، سواء على المستوى المحلى أو القومى، وكثيراً ما يؤدى إخفاق فريق معين إلى تغيير المدرب أو مدير الفريق، أو مسؤولى النادى، سعياً إلى تحسين مستوى القريق وأدائه، خاصة فى ظل رقابة أعضاء النادى وجمهوره، والأمر نفسه ينطبق على مباريات الكرة نفسها، فالثواب والعقاب يحدثان فى التو واللحظة، بدءاً من الإنذار، وحتى الطرد من الملعب أمام جمهور المتفرجين، وذلك أمر كثيرا ما يفتقد فى السياسة! فكثير من الأخطاء التى ترتكب يجرى التعتيم عليها، أو تجاهلها. والعديد من القرارات الخاطئة، التى تنطوى على إهدار للموارد، أو إضرار بالمصالح العامة، لا تقابل بالمحاسبة الواجبة، والعديد من الملفات يظل مغلقاً لمدة طويلة، وقد يفتح أو لا يفتح لأسباب لا يعرف الرأى العام عنها شيئا. وأخيرا، ألا يلفت نظرنا أن النوادى الرياضية (خاصة النوادى الكبيرة ذات الفرق المتميزة للكرة) تجرى فيها انتخابات حقيقية، وتشهد منافسات حقيقية لانتخابات مجالس إداراتها، وأن تلك الانتخابات تشهد نسبة عالية «للمشاركة» فيها، تختلف جذرياً عن نسبة المشاركة فى الانتخابات العامة، أى أنها –بعبارة أخرى- تنظوى على ممارسة «ديمقراطية» حقيقية لا يمكن إنكارها؟ حقا، إن بعضها يبتلى –أحيانا- بصراعات على المناصب القيادية فيها، وبتدخلات «خارجية»، ولجوء إلى المحاكم لحل تلك الخلافات، ولكنها تظل فى النهاية أهون بكثير مما يجرى فى الأحزاب السياسية، حيث القوى المتربصة تكون أكثر شراسة وضراوة، وحيث يستلزم الأمر جهداً هائلاً للحفاظ على تماسك تلك الأحزاب، وسلامتها التنظيمية! فضلا عن أن تأييد القيادة واحتكار السلطة يبدو وكأنه سمة ملازمة لأغلب الأحزاب المصرية، بما يضع –للأسف الشديد- حدودا صارمة على الممارسة «الديمقراطية» داخلها. فى ضوء هذا كله، هل يبدو غريباً أو مثيراً للتساؤل أن تنجح النوادى الرياضية فيما فشلت فيه الأحزاب السياسية، وأن يكون أداء فريق الكرة القومى المصرى أفضل بكثير من أداء فريق السياسة المصرى، أى النظام السياسى المصرى والحكومة المصرية؟!