نجع حمادى جلسة النطق بالحكم الشمس ساطعة دون دفء يُذكر، البرد يتغلغل فى العظام ويسكن القلوب، الهواء يخالطه دخان وكأنه يحترق، المدينة صامتة وكأنها تتساءل، الشبابيك مفتوحة تُحدّق باستغراب. الطريق المؤدى إلى مبنى المحكمة مغلق بالحشود الأمنية. والكل فى ترقب وانتظار، صمت مُخيم ولكنه يمتلئ بالكلام. أشياء غريبة تحدث اليوم فى نجع حمادى، لكن أحدا لم يبصرها، فالكل ينظر لداخله، مشغولا بعالمه الخاص. لم يشاهدوا الغريب الذى تتبدل ملامحه فى كل لحظة كالشلّال، ويخترق الجدران ويطير فى الهواء. وحين يقترب من باب المحكمة، ويهم الجندى بمنعه، يجده قد تلاشى فجأة وكأنما تبخر فى الهواء. يدعك عينيه مرارا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. القاضى يمسك الورقة كى يتلو الحكم، وفجأة يحدث العجب العجاب: شاهدوا كلهم- كعين واحدة جماعية- الغريب يترقرق كالطيف، سابحا فوق رؤوسهم، ثم يتجسد أمام المنصة، طويلا شامخا، تغمر الظلال وجهه، ويخفى الغموض ملامحه. فى نظراته حزن، وفى حركاته سيطرة. فهيمن على القاعة الصمت وانعقدت الألسنة وهم يسمعون الغريب يُدلى بشهادته أمام القاضى. قال الغريب إنه قادم من عوالم أخرى، خلقُ من خلق الله المبثوث فى الكون، لهم مقاييس مختلفة وأزمنة ممتدة تُقدر- بأزمنة الأرض- بعشرات الآلاف من السنين. قال إنهم يتابعون أحوال أهل الأرض بحزن شديد. لكنهم لا يتدخلون فيما لا يعنيهم، بعد أن علمتهم رؤية الأجيال المتعاقبة، وتعاقب الليل والنهار، أنه لا شىء يبقى على حاله. قال إنه قرر أن يخرق الصمت ويقول أشياء لا يعرفها أهل الأرض، ويكشف عن جوانب فى القضية لا يعرفها أحد. حقائق قد تغير من تكييف التهمة، أو مجرى المحاكمة أو تكشف عن جناة آخرين وضحايا جدد، قد تحكمون بعدها بالبراءة أو الإعدام. قال الغريب إنهم يشاهدون فى أعمارهم الطويلة عشرات الأجيال، ويعرفون المنشأ والمصير، لكنهم لا يعرفون أى شىء عن الغد الذى استأثر بعلمه رب الجميع. قال إن البشر لا يعلمون أن كل تصرف بسيط قد يغير مجرى حياتهم بالكامل، وبالتالى لديهم دائما ملايين الاحتمالات. على سبيل المثال هذا المجرم الذى تحاكمونه الآن لم يكن مقدرا له أن يكون مصريا بعد أن هاجر أجداده منذ ثلاثة قرون. رحلت القافلة بحثا عن رزق أفضل، لكن جده تخلف عن الركب وأدار مقود جمله فى صمت، ثم عاد أدراجه إلى مصر بعد أن عذبه الحنين. حينما بلغ قريته انكب على أرضها يقبلها ويشم ترابها. وهكذا تفرق الإخوة، تزوج وتزوجوا، أنجب وأنجبوا، سلكوا فجاج الأرض لا يدرى أحدهم عن الآخر شيئا. بعض فروعهم الآن فى تركيا وبعضهم فى ألمانيا وبعضهم فى أمريكا، وبعضهم فى كندا. لم تعد تعرف الذرية بعضها ولا يدرون شيئا عن أصلهم المصرى. من هذه السلالة نفسها جاء المجرم الذى تحاكمونه الآن. فى اللحظة التى أدار فيها جده مقود جمله تحدد مصير الحفيد بعد ثلاثة قرون. وبدلا من أن يشاهد- كما كان مقدرا له- روعة الغابات ومصب الأنهار وفسحة الشواطئ، ومتعة التأمل والاسترخاء، والاستمتاع بكتاب جيد، فإنه عاش يكابد الفقر فى مصر، ويشاهد المجارى، ويقفز- كى يصل لباب بيته- فوق تلال الزبالة. وبدلا من أن يصبح مدير بنك، أو عالماً فى معمل، أو مكتشف أمصال، أو عازفا أو شاعرا، فقد صار سائق (توك توك) حياته بائسة، وملابسه بائسة، وطعامه بائس. هو الجانى والمجنى عليه، هو القاتل والمقتول، هو السفاح والضحية. ما الذى تنتظرونه من سائق (توك توك) فى بلد كمصر؟. أيحرص على حياة غيره، هو الذى لم يعرف لحياته قيمة؟!. حاكموه، لا تأخذكم رحمة به، ولكن حاكموا أيضا الذين شدوه إلى الوحل وحرموه من الحياة الكريمة، فهؤلاء هم الجناة الأصليون!. قالها الغريب فى المحكمة، ثم فجأة تلاشى وكأنه تبخر فى الهواء.