«التعليمى يقدم الأسئلة المتوقعة والإجابة النموذجية». كان ذلك هو العنوان البارز فى صدر الملحق التعليمى لصحيفة «الأهرام» فى عددها الذى صدر يوم 12 يونيو الماضى أى مع بدء امتحانات الثانوية العامة الأخيرة، وللحق والإنصاف فإن ملحق «الأهرام» لم ينفرد بذلك العنوان فما أكثر ما طالعناه فى صحف أخرى هذا العام وعبر إعلانات تليفزيونية، بل ما أكثر ما قرأناه وما سمعناه فى العقدين الأخيرين عموما. وفى كل السنوات كان يتم طمأنة الطلبة قبيل الامتحانات، وعلى لسان مسؤولين تعليميين بأن الامتحان من المقرر، فإذا ما جاء أحد الامتحانات وفيه سؤال من خارج المقرر أو لم تتعرض له «برشامات» الإجابة النموذجية التى حفظها الطلاب من قبل فإن نفس الصحف جاهزة بالحل: صور للباكين والآباء والأمهات المنهارين، تعقبها مناشدات للوزير بالتخفيف عن كاهل الأسر وعن «أبنائه» الطلبة وإعادة توزيع درجات المادة الفلانية أو منح درجات رأفة للمادة الترتانية، والطريف والمثير للأسى فى الوقت نفسه أن الجمهور استشعر هذا العام أن وزير التربية والتعليم الحالى -بغض النظر عن الاتفاق أو الخلاف معه- ليس ممن يستجيبون لمثل هذا النوع من النداءات، لهذا توجه أولياء الأمور بمناشداتهم إلى رئيس الجمهورية ذاته يستعطفونه حتى يخفف عن الممتحنين. لن أصف عيوب نظامنا التعليمى برمته، فقد باتت معروفة للذين يريدون امتحانات سهلة ومن المقرر أو الذين يريدون نظاما تعليميا مختلفا، لكن تلك اللحظة توضح أن الجميع فى المنظومة الراهنة من مسؤولين وطلبة وأولياء أمور ومدرسين خصوصيين وحتى الصحاف اختزلوا العملية التعليمية فى إجابات يتم تلقينها تمهيدا ل«دلقها» فى الامتحان الذى يتعين أن يأتى من المقرر. إن عدد الذين تقدموا للامتحان هذا العام (460 ألفا) يفوق عدد سكان قطر أو دبى، وهم ثروة تتمنى مثلها بلاد كثيرة فى زمن أصبح يقيس قوة الأمم بعدد خريجيها من المهندسين والفيزيائيين والكيماويين والمعلوماتيين والبيولوجيين ومدى ما يتمتع به هؤلاء من قدرات على الابتكار والإبداع، فإذا كنا سنلقن هؤلاء الطلبة الإجابات النموذجية ليسكبوها يوم الامتحان ونمتحنهم فقط فيما ورد فى الكتب والمذكرات مع أن ما فيها نقطة فى بحر المعرفة -فإننا بذلك نتخذ قرارا من البداية بإعدام تلك الثروة وبتحويلها إلى عدد فى ليمون طبقا للمثل الشعبى الذائع، وإذا قررنا أن نواصل السير على هذا النهج فقد يكون من الأفضل أن نقوم باختبار قدرة الطالب كل يوم خلال العام الدراسى على التفكير بنفسه وعلى الاعتماد على الذات فى جميع المعلومات من المصادر المتعددة واستيعابها والمقارنة بينها واستخدامها وعلى الإتيان بالجديد ولو كان بسيطا وإدراك نسبية الحقائق، ثم نيسر الامتحانات لاحقا ونزيل عنها هذا التوتر ما دام الامتحان هو عقدتنا. لم نسمع فى تاريخ الأمم عن أن الحفظ والتلقين أديا إلى تقدم أو اختراعات أو زيادة فى قوة البلد الاقتصادية أو فى رخائه، فلماذا نتصور أن الطبيعة ستثنينا من قانون التقدم الذى هو التفكير الحر الخلاق والعقلانى المنفتح؟. لماذا يعتقد بعض الأهالى أن «تساهيل» سنة فى امتحانات الثانوية «مش حتوقع الدنيا» ويطلبون أن نتساهل هذا العام وبعدين نبقى نحبكها وهكذا كل سنة دون انقطاع.. ألا تنهض الأمم بعمل تراكمى يبنيه جيل وراء جيل فما الذى سيبنيه جيل الحفظ والتلقين ليواصل عليه الجيل التالى له بافتراض أننا نخطط لجعله مختلفا؟ لقد أمضيت 40 عاما من عمرى أعمل فى التعليم العالى بعدة دول ولم أسمع فى حياتى عن مناشدة الساسة إعادة تصحيح امتحان أو الرأفة بالطلبة. هناك المدرس أو الأستاذ هو المسؤول عن تقييم الطالب وتصحيح إجاباته دون ضغوط أيديولوجية أو سياسية، وقد تغير العالم وانفجرت ثورة المعلومات بحيث يستحيل أن ينفع أسلوب المذكرات والمختصرات كما أن المعلومات المتفجرة فيها الكثير مما يتعارض بعضه مع بعض فكيف سيواجه طلابنا ذلك بعد أن يتخرجوا اعتمادا على التلقين والرأفة؟ إن سير التعليم حاليا هو كيف نتعلم باستمرار، وكيف نحول المعرفة إلى تطبيقات واختراعات ومنتجات سلعية أو خدمية تنافس فى العالم وترفع مستوى حياة الناس. فهل هو سر فعلا أم أنه معروف للجميع ونحن الذين نصر على تأجيل مواجهة أنفسنا به وكأن الزمن سينتظرنا أو يمنحنا وقتا إضافيا لنستدرك ما فاتنا. من حسن الحظ أنه رغم تدهور نظامنا التعليمى ومخرجاته فإن آلافاً مؤلّفة من المصريين مازالوا قادرين على أن ينافسوا نظراءهم فى أكبر الشركات العالمية وفى أكثر المجالات تعقيدا.. وقد رأيت فى الأيام الماضية خلال حضورى لقاءات الوفد المصرى الذى ترأسه وزير الاتصالات فى واشنطن وبوسطن ونيويورك مدى إعجاب قادة شركات تكنولوجيا المعلومات الكبيرة وعمداء أهم جامعات العالم بذكاء وموهبة المصريين، وقال بعضهم فى حفل غداء على شرف الوزير حضره 450 مدعوا إنهم لم يروا فى أى بلد فى العالم مثل تلك المهارات، وظهر أيضا خلال الإطلاق الرسمى لمبادرة أوباما لريادية الأعمال فى العالمين العربى والإسلامى من القاهرة منذ عشرة أيام مدى تقدير الأمريكيين لطاقات أبناء مصر وشبابها وقد عبر عن الإعجاب ذاته بشبابنا خبراء أجانب عالميون يعملون فى القرية الذكية أو بوادى التكنولوجيا بالمعادى خلال فعاليات إطلاق الإستراتيجية القومية للإبداع والابتكار منذ أسبوعين، وتقدم لنا الحياة كل يوم أدلة جديدة على أن الثروة البشرية المصرية هى ذخيرة مذهلة فى معركة الطموح إلى النهضة وأنها فقط تريد أن نفتح لها الأبواب لتنطلق، فلننتهز اللحظة قبل أن تولى بلا رأفة. * رئيس جامعة النيل