أبدا لا أنسى صورة مواطن بسيط استوقفنى فى الشارع غاضباً منى رافضاً دعوتى لوضع سقف مناسب لأسعار نجوم الكرة فى مصر.. وكنت سأتفهم لو اتهمنى الرجل مثلا بالحقد عليهم لأننى لم أصبح مثلهم وأنال نفس حظوظهم.. لكن المفاجأة أن الرجل اتهمنى بالقسوة وعدم فهم أو احترام لحق النجوم فى هذه الملايين كل سنة لتأمين مستقبلهم واستقرار بيوتهم.. كان الرجل صادقاً جداً وحماسياً جداً وكأنه فى تلك اللحظة كان يترافع فى قضية عمره وحياته، مع أن هيئته وقتها كانت دليلاً لا يقبل الشك على أن المستقبل ممكن تأمينه والإبقاء على البيوت مفتوحة دون ملايين أو حتى آلاف الجنيهات.. كان الرجل مقتنعا بكل كلمة يقولها.. فهو واحد من الملايين فى مصر والعالم من حولنا الذين آمنوا بأنهم ليسوا أكثر من متفرجين.. لا الدنيا ستسمح لهم بأكثر من الفرجة، ولا أحد سيتذكر وجوههم وحقوقهم ومظالمهم.. إنهم المنسيون فى دنيانا الذين ليس مطلوباً منهم إلا أن يعيشوا فقط يصفقون لغيرهم.. يقرأون ويسمعون أخبار غيرهم.. تسعدهم انتصارات أو هزائم غيرهم.. ليس لأنهم فاشلون أو كسالى أو خائبون أو لا يريدون.. ولكنها قيود غيرمرئية والتزامات لا أول لها ولا آخر لم تعد تسمح بأى محاولة أو مغامرة.. وهؤلاء المنسيون هم سر كرة القدم.. فهم يعيشون المتعة المستعارة والفرحة والمشاعر والانفعال الزائف والبطولة المتخيلة والانتصارات أو الانكسارات الوهمية فى ملاعب الكرة ومع نجومها.. هؤلاء المنسيون هم الأبطال الحقيقيون لكل حكاية أو دراما أو مباراة أو مونديال.. ومن بين صفات كثيرة يمكن أن أطلقها أنا وغيرى على المونديال الحالى فى جنوب أفريقيا.. أحب دائماً أن أطلق عليه مونديال المنسيين.. الذين أبدا لن يتذكرهم مسؤولو الفيفا ولا الاتحادات أوالمنتخبات ونجومها ولاعبوها.. لا أحد سيتذكر كل هؤلاء المنسيين فى أرجاء الدنيا رغم أنهم أهم وأجمل ما فى المونديال فقط لمن يتأمل الصورة كلها من بعيد ولا يكتفى بالنظرة العابرة والمخطوفة بهدف هنا أو خطأ هناك.. المصريون الذين حسب استطلاع شركة نيلسن الأمريكية أصبحوا أكثر شعوب الشرق الأوسط متابعة للمونديال، وثانى شعب فى العالم بعد البرازيليين.. ولكن المصريين أجمل من البرازيليين لأنهم يتابعون مونديالاً لا يخصهم ولا يعنيهم فى أى شىء.. هم فيه منسيون تماماً لا دور لهم أو مكان ولا علاقة قرابة أو نسب تربطهم بالمونديال.. الطلبة الجامعيون فى بنجلاديش الفقيرة الذين خاضوا مصادمات دامية مع رجال الأمن لأنهم يريدون إغلاق أبواب الجامعة مؤقتاً للتفرغ لمتابعة المونديال.. أو سكان الأحياء الفقيرة هناك الذين قاموا بمظاهرات نتيجة انقطاع التيار الكهربائى فلم يتمكنوا من متابعة المونديال رغم أنه فى حياتهم ألف دافع آخر للغضب والتظاهر، وهم جميعا نظرياً أهم من المونديال.. ولكنه بالنسبة لهم لم يعد مجرد مونديال.. ولا الصينيون الفقراء أيضاً، المنسيون طول الوقت الذين أصبحت المراهنة بأموالهم القليلة على نتائج المونديال أمتع ما فى حياتهم.. والمنسيون فى شيلى الذين استدانوا وسافروا خلف منتخبهم إلى جنوب أفريقيا، واضطر بعضهم للتنازل وبيع كل شىء ثمناً لطعام أو مكان فى خيمة، ويقطعون مشاوير خرافية لمجرد مشاهدة نجوم منتخبهم عن قرب.. كل هؤلاء منسيون.. من حقى الآن أن أتذكرهم باعتبارهم أجمل وأصدق ما فى هذا المونديال. [email protected]