حيث إن الإعلام هو المؤثر الرئيسي لتشكيل وجدان المجتمع نظرا لأن أكثر من نصف المجتمع لا يجيد القراءة والكتابة، وبالتالي فالتلفزيون على وجه الخصوص هو المصدر الوحيد لديه للمعرفة. أما باقي المجتمع فمعظمه غير صديق للقراءة، وأيضا يعتمد على التلفزيون كمصدر للمعرفة. وعلى التأكد تماما من هذه الحقائق فقد تمكنت الحكومات من السيطرة الكاملة على كل وسائل الإعلام في مصر المحروسة سواء المرئية أو المسموعة أو المكتوبة، وذلك مند أكثر من ستة عقود من الزمن، بحجة الحفاظ على الهوية المصرية وعلى القيم وعلى المبادىء السامية التي توافق عليها المجتمع بجميع أطيافه. ولمنع الاحتكارولمنع وصول أموال غير معروفة المصدر لتوجيه الإعلام لغرض سياسات معينة أو آراء معينة تعمل لحساب أجندات أجنبية تضر بمصالح الوطن، وأيضا تكون الإدارة لكل وسائل الإعلام حكومية أو شبه حكومية، وبذلك أصبحت الملكية والإدارة حكومية مائة بالمائة. وعلى مر الأيام حاولت الحكومة إيهام الشعب بأن وسائل الإعلام لا تتبع الحكومة فمثلا الصحف يملكها مجلس الشورى والإداعة والتلفزيون هيئة مستقلة...الخ ... ثم زادت في التمويه على الشعب بأن سمحت لرجال أعمال من النخبة التي تم صنعها ببث قنوات فضائية أو إذاعة محطات خاصة، وهي جميعا تحت السيطرة، أما معظمها فينفذ سياسات الحكومة التي تقوم بتوجيهها لهم خوفا من الإغلاق أو من منع الإعلانات التي هي روح القنوات الفضائية وماء المحيا لجميع وسائل الإعلام، ومن يخرج من وسائل الإعلام عن الخط المرسوم أو يستضيف شخصا من خارج الصندوق اللعين فينتظره الويل والثبور وعظائم الأمور، وبعد أن كان صاحب الفضائية رجل أعمال سيقف أمام مسجد السيدة زينب ويقول عشانا عليك يارب. وبعد أن دانت كل وسائل الإعلام للحكومة وفرضت عليها سياستها فإذا بالإعلام الذي تم السيطرة عليه تماما بالحجج النبيلة التي ذكرناها سابقا تتغير وتصبح وسائل الإعلام بوقا حكوميا لعمل غسيل مخ للشعب المصري، وخصوصا الطبقات البسيطة التي مصدرها الوحيد للمعرفة هو التلفزيون، فإذا أرادت الحكومة توجيه الشعب للموافقة على موضوع معين ترغب في تنفيده تضغط على زر معين فتنطلق جميع وسائل الإعلام في ترديد منولوج واحد تم طبعه في المطابع الأميرية يوزع على جميع وسائل الإعلام في وقت واحد، وقد ظهر جليا للقاصي وللداني أن معظم سياسات وسائل الإعلام يغلب عليها التعتيم والتضليل والتدليس ولذلك فبعض الطبقات المثقفة والمستنيرة تلجأ إلى متابعة الأحداث عن طريق الفضائيات الأجنبية والعربية بحثا عن الحقائق وهربا من التعتيم والتضليل والتدليس في وسائل الإعلام المصرية. وحتى لا يكون كلاما مرسلا فهذه بعض الأمثلة عن التعتيم، فهناك أحداث طوال العقود الماضية كنا نشاهدها في وسائل الإعلام الخارجية ولا تتحدث عنها وسائل الإعلام المصرية، وأحيانا تتحدث عنها بعد أن يكون معظم الشعب قد عرف بها، وليس أدل من ذلك عندما قامت ثورة يناير 2011 كان التلفزيون المصري يبث صورة النيل الهادىء وحوله شباب الحبيبة وفي نفس الوقت يذيع أن بعض الشباب يقوم بمظاهرة في ميدان التحرير لا يصل عددها إلى المئات بينما وصل أعداد الشباب إلى عشرات الألوف، ويقتلون بالرصاص الحي والخرطوش، ويصابون من جراء قنابل الغاز، وهناك أمثلة كثيرة من التعتيم لا يتسع المقام ولا المساحة لذكرهم. أما عن التضليل فحدث ولا حرج، فلقد قامت بعض وسائل الإعلام بتغيير المسميات بأسماء أخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فتم تسمية الانقلاب العسكري في 23 يوليو 1952 بثورة 52 وتسمية هزيمة 1967 بنكسة 1967، وبعض وسائل الإعلام قامت بتسمية ثورة 25 يناير 2011 بانتكاسة 2011، أيضا تعاون الإعلام مع التعليم في سياسة التضليل بأن انقلاب يوليو 1952 هو الذي أنشأ مجانية التعليم، أما الحقيقة فإن مجانية التعليم الابتدائي تم تنفيدها في 1942 في حكومة الوفد، ومجانية التعليم الثانوي والفني تم تنفيدها في 1950 في حكومة الوفد، أي قبل يوليو 1952. مثال آخر هو أن ثورة يوليو 1952 هي التي أعطت العمال حقوقهم بينما معظم حقوق العمال تم تنفيذها في حكومات الوفد وعلى سبيل المثال قانون عقد العمل الفردي وهو القانون رقم 41 لسنة 1944 الذي ينظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل أصدره فؤاد سراج الدين عندما كان وزيرا للشئون الاجتماعية، وغيره من التضليل أمثلة كثيرة على مدار عقود . أما عن سياسة التدليس فهي إخفاء العيوب في أي موضوع عن الشعب حتي يوافق عليها، والأمثلة كثيرة منها ما صدر عن الببلاوي بأن سد النهضة التي تشيده أثيوبيا الآن لن يؤثر على حصة مصر من مياه النيل، أيضا مثال آخر عندما يصرح مسئول عن وزارة الكهرباء بأن زيادة أسعار الاستهلاك لن يتأثر بها محدودوا الدخل، وبعد قيام ثورة يناير 2011 كنا نظن وبعض الظن إثم، بأن السياسات الفاشلة ستزول إلى الأبد وإلى غير رجعة، ولكن المفاجأة أنها استمرت بل وزادت مساحاتها، وأن نفس الشخوص الذين كانوا في السابق من الأيام يقومون بنفس الأدوار في جميع وسائل الإعلام ويحاولون عن طريق التعتيم والتضليل والتدليس خداع الشعب، وأن هذه السياسات ستوصلنا إلى تقدم البلاد والعباد، بل الحقيقة المرة أنها أوصلتنا إلى الخراب. وإذا استمر الحال على ما هو عليه بنفس السياسات وبنفس الأشخاص الذين أكلوا علي كل الموائد فالدمار قادم. افسحوا المجال في الإعلام لرموز مصر الحقيقية وليست المصنوعة من الأجهزة لتوضيح الحقائق للشعب وخصوصا الشباب الحائر الذي أعيته الحيل لمعرفة الحقيقية وأسدلوا الستار عن التعتيم والتضليل والتدليس، فإن الإصرار على هذه السياسة لن يمنع الثورة القادمة. اللهم اهدنا جميعا إلى سواء السبيل إنك سميع مجيب الدعاء يا رب العالمين.