تتسم اوضاع دول منطقة حوض النيل بالعديد من السمات التي تجعلها ساحة سهلة للتدخل الخارجي، هذا فضلا عن موقعها الجغرافي و الأهمية الاستراتيجية لها و يمكن اجمال أهم هذه السمات فيما يلي: 1- تمزق المنطقة ثقافيا بين (عرب فون) (الصومال- جيبوتي-السودان) و أنجلوفون (كينيا-تنزانيا-أوغندا- جنوب السودان) و فرانكفون (رواندا-بورندي- الكنغو الديمقراطية) و أمهرافون (أثيوبيا) 2- وجود صراعات داخلية إثنية في كل من الصومال المفتتة أصلا و إثيوبيا المعرضة للتفتيت لولا المظلة الأمريكية، كل من رواندا و بورندي إنقسام حاد بين الهوتو و التوتسي، و ذات الوضع في كينيا بين الكيوكو من جانب و باقي الجماعات الاثنية من جانب أخر، و بنفس القدر في أوغندا و الكونغة الديمقراطية و الي حد ما تنزانيا. 3- الانقسام الديني فلا توجد غلبة كبيرة لاتباع دين معين في بعض الدول (إثيوبيا:ملسمون و مسيحيون) (أوغندا : صراعات كاثوليكية بروستانتية فضلا عن حركات اسلامية متطرفة) و (كينيا: حركات اسلامية سنية و شيعية زيدية متطرفة) و الأمهرا في إثيوبيا يزعمون انتمائهم للأسرة السليمانية، في حين ادعاء الدنكا في جنوب السودان الانتساب الي النبي يعقوب عليه السلام ... الخ 4- كل هذه المنطقة تحمل تاريخا عدائيا تجاه مصر و العرب فما زالت إثيوبيا تروج لما تسميه خطر الاستعمار المصري التاريخي، و جنوب السودان و كينيا تروجان لمقولة العنصرية العربية و تجارة الرقيق، و أوغندا يتحدث رئيسها و بعض كتابها أن العرب في شمال افريقيا غزاة قدموا من الجزيرة العربية، بينما يروج التوتسي في كل من رواندا و بورندي انهم احفاد المصريين مما يكدس العداء لمصر من جانب جماعة الهوتو، أما تنزانيا و في زنجبار تحديدا تنتشر مقولة مسئولية العرب عن تجارة الرقيق من خلال فتح احدي قلاع تجارة الرقيق كمزار سياحي مما يدين العرب. و في معظم دول منطقة حوض النيل تروج لرغبة مصرية في الهيمنة و الاستعلاء إزاء رفض كل من مصر و السودان التوقيع علي اتفاقية عنتيبي...الخ كل هذه الاوضاع سهلت علي الدول الخارجة اختراق هذه الدول من جهة، و تحويلها ساحة للصراع بل و الصدام مع العرب، خاصة تلك الدول التي تحمل عداوات للعرب (الولاياتالمتحدة – اسرائيل) الولاياتالمتحدة الآمريكية: تهدف السياسة الامريكية في هذه المنطقة الي تحقيق أهداف استراتيجية بالاساس تنصرف الي السيطرة علي المحيط الهندي و بالتحديد مضيق باب المندب بغية حماية طريق ناقلات النفط من الخليج العربي من جهة، و الاحاطة بالنفوذ العربي من جهة أخري خدمة للمصالح الأمريكية و الصهيونية و يكشف عن ذلك بعض الوقائع: دعاوي وجود قراصنة أمام السواحل الصومالية رغم أن المسالة من بدايتها الي نهايتها عملية أمريكية بالأساس، شارك فيها الرئيس الأسبق للصومال عبد الله يوسف الذي كان يحصل علي نصيبه من الاتاوات من عمليات خطف السفن. إضافة الي اعتماد الخاطفين علي مترجمين اجانب، فضلا عن امتلاكهم لأدوات اتصال حديثة تمكنهم من رصد تحركات السفن عبر المواني. و كان مرجح أن الولاياتالمتحدة قد عجزت عن الهيمنة في البر سواء في أفغانستان أو العراق و تحملت ميزانيتها الكثير من الضغوط، فضلا عن الخسائر البشرية في الارواح، اضافة الي تدهور سمعة الولاياتالمتحدة في العالم، و عليه فقد اختلقت مشكلة ما يسمي "القرصنة" لتتمكن من السيطرة علي أخر ممر بحري –باب المندب- بمنطق الامبراطوريات القديمة. و بالتالي يمكنها رصد كافة التحركات حول و عبر قناة السويس هذا بعد السيطرة علي مضيق بنما و مضيق جبل طارق ثم أن لديها محطة انذار مبكر في سيناء بعد معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية. و اتساقا مع ما سبق فقد تمكنت من كسب درجة من الشرعية الدولية بصدور ثلاث قرارات من مجلس الامن تعزز وجودها في المنطقة، و قامت بنقل قاعدتها العسكرية من الباخرة USSالي جوار القاعدة الفرنسية. و ظلت الولاياتالمتحدة تركز علي حليفتها الاستراتيجية في المنطقة و هي إثيوبيا بشكل مكنها من أن تصبح قوة اقليمية كبري في المنطقة تحت رعاية أمريكية، فقد ساندت إثيوبيا في رفضها الانسحاب من منطقة بادمي في إريتريا رغم صدور حكم محكمة التحكيم بذلك منذ عام 2002 و هو حكم نهائي ملزم، بل شكلت غطاء عسكري للتدخل الاثيوبي المستمر في الصومال.و في ظل وضع كهذا تمكنت إثيوبيا من استجلاب القوات الكينية و الاوغندية و البروندية الي الصومال تحت مظلة الاتحاد الآفريقي!! بحيث باتت إثيوبيا تشكل القوة الاقليمية في المنطقة، و قائدة لدول حوض النيل في موقفها من مصر، فاذا اضفنا الي ذلك أن قوة الافريكوم أصبحت تدرب القوات العسكرية لمعظم دول حوض النيل لأدركنا طبيعة العقيدة العسكرية التي باتت تتبناها جيوش هذه الدول (محاربة الارهاب!!) اسرائيل: من المعروف ان أحد أهم أهداف اسرائيل هو تطويق العالم العربي جنوبا، و شد أطرافه لتحويل انتباهه عن القضية الفلسطينية. و لما كانت لكل من مصر و السودان مصلحة مصيرية تتعلق بمياه النيل، فان اسرائيل اتجهت لتعزيز نفوذها الاستراتيجي في هذه المنطقة من خلال عدة اساليب: الربط الايديولوجي التاريخي مع كل من إثيوبيا و جنوب السودان حيث صنفت الأمهرا نفسها انها شعب الله المختار بزعم امائها للأسرة السليمانية علي نحو شكل قاعدة للتحالف مع اسرائيل، و الدينكا الجماعة الغالبة في جنوب السودان و ما يحمله دلالة ادعائها الانتماء لنسل يعقوب عليه السلام. كذلك الوجود الاسرائيلي المتمركز في شمال اوغندا بعلم أو دون علم الحكومة الاوغندية، ذلك كون منطقة شمال اوغندا منطقة فقيرة هشة لا توجد بها اي سلطة تنظم شؤونها. أما كينيا ففيها أكبر نفوذ صهيوني في شرق أفريقيا من حيث كبر السفارة او نفوذها و نشاطها الرسمي و المخابراتي (حادثة خطف عبد الله اوجلان) فرنسا: باتت تشكل تابعا للسياسة الأمريكية في المنطقة ذلك أنها استضافت القوات الأمريكية الي جوارها في جيبوتي، و باتت تسلم الي حد كبير بانحسار الفرانكفونية في كل من رواندا و بروندي و الكونغو الديمقراطية لصالح الأنجلوفونية. الصين: يبدو أن الصين لا يعنيها في المرحلة الراهنة سوي مصلحتها الاقتصادية فحسب، فهي لم تقف في مجلس الامن و لو مرة واحدة لمساعدة السودان في مواجهة العقوبات الدولية، ثم نها باتت تشكل المقاول الرئيسي لبناء السدود في أثيبوبيا تحت الرعاية الأمريكية ضاربة عرض الحائط بكل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بنهر النيل. و عليه فان الحديث عن تنافس صيني – أمريكي يعد ضربا من الخيال لسببين: السبب الاول أن الصين أثناء الحرب الباردة كانت حليفا رئيسيا للولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي في أفريقيا، حيث لعبت الصين دورا في شق حركات التحرر الأفريقية التي كان يساندها الاتحاد السوفيتي مثل ما حدث في أنجولا من انشاء حركة يونيتا لضرب حركة مبلا التي كان يساندها الاتحاد السوفيتي، و في جنوب أفريقيا قامت الصين مع الولاياتالمتحدة بشق المؤتمر الوطنيعام 1985 حيث تم انشاء مؤتمر الوحدة الافريقية. السبب الثاني كما يجب الا نغفل ان الصين أكبر مشتر لسندات الخزانة الامريكية التي تزيد عن 3 تريليون دولار!!! إيران: بدأت إيران منذ فترة ليست بالبعيدة بزيارات رسمية علي أعلي مستوى لكل من كينيا و تنزانيا و أوغندا و عقد العديد ممن الاتفاقيات مع الدول الثلاث، بهدف دعم الشيعة الزيدية في شرق أفريقيا في مواجهة التأثير السني (الوهابي) و للمساهمة في الضغط علي الدول العربية شمال أفريقيا. أما فيما يخص الدور المصري فانه من الثابت رغم تحول مصر عن التوجه الاشتراكي سياسيا و إقتصاديا منذ اواخر السبعينات، الا أن الولاياتالمتحدةالامريكية ظلت حريصة علي إجهاض أية محاولة مصرية للعب اي دور اقليمي عربي أو أفريقي يشكل قاعدة لمواجهتها أو حتي التوازن مع أثيوبيا. و يجدر الاشارة في هذا السياق الي عدة حقائق: ان منطقة حوض النيل لم يكن بها يا أية حركات تحرر بالكفاح المسلح، اللهم الا الحالة الاريترية و كان لمصر دورا رائدا فيهامنذ عام 1959، غير ان الموقف المصري تجاه اريتريا تبدل اواخر السبعينات فأصبحت مصر ترفض استقلال اريتريا و تنادي بالحكم الذاتي!!! و حتي بعد الاستقلال قام الرئيس الارتري أفورقي بزيارة مصر أكثر من 20 مرة إلا أن الرئيس السابق (مبارك) لم يبادله الزيارة مرة، كما لم يهتم باقامة علاقات ذات بال مع اريتريا علي عكس الحال مع أثيوبيا. و بعد هذا التحول في سياسات مصر اقتصاديا الناتج عن التحول و اتباع سياسة الخصخصة تأكلت شركة النصر للتصدير و الاستيراد و ضاع الخطان الملاحيان لمصر تجاه شرق و غرب أفريقيا. كما تأكل الدور المصري في أفريقيا منذ انهيار الصومال حيث شكلت أكبر قاعدة سنية في شرق أفريقيا، كما ادي الي حدوث خلل في التوازن مع أثبوبيا. أسفر هذا الوضع بعض الثار السلبية العامة علي مصر في القارة الآفريقية نذكر منها: أن اللغة العربية أصبحت في عداد اللغات الأجنبية في القانون التأسيسي للإتحاد الأفريقي بعد أن كانت لغة أفريقية في ميثاقمنظمة الوحدة الآفريقية. كما فقدت الحضارة المصرية مكانها في كونها اصل الحضارة الآفريقية لصالح الحضارة النوبية بالاضافة الي اضافة اللغة النوبية الي اللغات الرسمية في مصر في تقرير الاتحادة الافريقية عام 2004 و هو مؤشر له دلالته. هذا بالاضافة الي استبعاد دول الشمال الافريقية من الكتابات الموسوعية الافريقية، اللهم الا فيما يتعلق بقضايا جنوب السودان و الامازيغ و النوبيون و الأمازيغ و كأن باقي سكان الشمال ليسوا أفارقة. أضف علي أن التقسيم الثقافي للقارة إما أنجلوفوني أو فرانكفوني أو ليزوفوني و مستبعد تماما عربفوني؟؟!!!! و نتيجة للغياب المصري من الساحة الآفريقية، ظلت السياسة المصرية و كأنها فوجئت ذات ليل بكون مصر هي الدولة الوحيدة التي لا تنتظم في تجمع أقليمي في القارة، و لم تتمكن من تغيير ذلك الا عام 1999 عندما وافقت السودان علي انضمامها للكوميسا. و للأسف فقد تراجع الدور المصري في أفريقيا. و للأسف فانه رغم تراجع الدور المصري في أفريقيا الا أن حجم الانفاق المصري زاد عما كان عليه في السابق، إذ يبلغ نحو 2 مليار دولار سنويا تنفقه العديد من مؤسسات الدولة ربما لمصالح شخصية، أو ربما تعتقد أنه عمل من أعمال البر و التقوى لا يفترض تحقيق مصلحة وطنية من ورائه، و مرد ذلك تعدد الأليات و الممارسات دون تنسيق واضح فيما بينها. كما أن رفع الراية الاسلامية في مصر في المرحلة الراهنة يثير الذعر لدي دول حوض النيل، إذ يكفيها في السابق ممارسات النظام السوداني الذي استدعي العديد من الجماعات الارهابية بما فيها بن لادن و ماركوس و الأفغان العرب و دفع بالعديد منهم للقيام بالاعتداءات علي دول الجوار، فاضطرت هذه الدول الي تاييد استقلال السودان علي مضض خشية انتقال عدوى التقسيم اليها. و يكفي الصراعات بين الفصائل الصومالية التي تزعم انتمائها جميعا للإسلام، و قيام بعضها بعمليات داخل دول الجوار. و عليه فان الاستمرار في رفع هذه الراية فقط انما يشكل عائقا أمام سياسة خارجية مصرية نشطة في دول حوض النيل بل و يزيد من تأزيم العلاقات. أما حل هذا الوضع المتردي للدور المصر فيمكن تحسينه عن طريق اقامة علاقات مع الدول التي تسيطر عليها علاقات تاريخية سيئة مثل جنوب السودان و الكونغو الديمقارطية و تنزانيا و رواندا و بورندي من اجل تفكيك العلاقات مع أثيوبيا. أيضا العمل علي خلق توازن في المنطقة عن طريق المساعدة في حل المعضلة الصومالية و تعزيز العلاقات مع إريتريا. بالاضافة الي النص في الدستور علي أن الشعب المصري إفريقي بحكم الجغرافيا و التاريخ و السلالة و عربي بحكم اللغة و الثقافة و مسلم و مسيحي بحكم العقيدة، و بالتالي نحل كافة مناطق الإلتباس مع الاختلافات في المنطقة. ____________ أستاذ العلوم السياسية - معهد الدراسات الافريقية