إنه اليوم الأول من السنة الجديدة 2013 وأتقدم للجميع بالتهاني القلبية مشفوعة بدعوات تحمل السلام والرخاء لجميع البشرية في سبيل بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك وانطلاقاً من كافة المشتركات التي تجمع بني آدم. وإذا سئلت كمتخصص في العلوم السياسية المقارنة والعلاقات الدولية عن الأحلام التي تراودني لمصلحة العالم العربي سأجيب بحلمين يراودانني، وأنا على يقين أنها إذا فعلت ستكون سنة الملاذ والخلاص في المدى القريب والمتوسط والبعيد لعالمنا العربي، وخاصة في المدى البعيد لأننا دائماً ما نأبى التخطيط المستقبلي لمجتمعاتنا العربية. أول الأحلام، هو الحكمة والحكمة هنا هي العلم الصحيح الذي لا يقبل الخطأ (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) وهو ليس فقط في مجال الاقتصاد والاستثمار وإنما أيضاً في مجال العلوم الإنسانية وبخاصة في مجال العلوم السياسية، وهذه الأمور خلال الفترات الانتقالية للشعوب لا تقبل الخطأ وإلا أودت بالبلاد والعباد إلى مستنقع غير منتة من الظلمات والصراعات وتتوقف هياكل الدولة رويداً رويداً اقتصادياً واستثمارياً واجتماعياً بل وثقافياً وهذا طبعاً نقيض الحكمة وعنوان التخلف ومسؤولية تجاه التاريخ وتجاه الخالق عز وجل... فما ذنب الملايين من المصريين والتونسيين الذين يزج بهم في صراعات كان بالإمكان تفاديها، وأخطاء علمية لا تقبل بها العلوم السياسية، ولو طبقت دروس هذه العلوم لنجا الجميع... لم أستسغ يوماً الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لتشكيل المجالس بما فيها النيابية أو تلك المتعلقة بانتخاب سلطات تنفيذية دون وجود قانون سام متوافق عليه. لقد ألفت مع فقيه القانون الدستوري «أندريه كبانيس» السنة الماضية كتاباً عن الدستور المغربي الجديد وقارناه مع أكثر من 25 دستوراً في العالم... وخرجت بنتيجة واحدة: الدساتير الديمقراطية تغترف من ماء واحد وهذا الماء له طعم واحد لا يمكن أن يختلف مذاقه سواء كنت في فرنسا أو بريطانيا أو الولاياتالمتحدة الأميركية... صحيح أن بعض العبارات وبعض البنود تختلف من بلد إلى آخر نظراً للإرث التاريخي أو طبيعة المكون البشري ولكن الأصول تبقى كما هي، هناك اختلاف في الفروع واتفاق على الأصول، فنظام الجهوية الموسعة في إسبانيا مختلف عن النظام الإداري اللامركزي في فرنسا ومختلف أيضاً عن النظام الفيدرالي الألماني والأميركي ولكن اللعبة الدستورية الديمقراطية تبقى كما هي: هناك تناوب، هناك حكم الشعب بالشعب، وهناك وهناك... وإلا لأصبح الماء عكراً لا يصلح للشرب ولا للسقي بل قد يصبح مستنقعاً تتدفق إليه الحشرات والميكروبات... والوثيقة الدستورية إذا لم تغذ بماء الحكمة فسيتوقف المجال السياسي العام إن عاجلاً أم آجلاً... وهذا الذي يقلقني على حال بعض الأوطان العربية... ففي الديمقراطية لا يمكننا رفض النتائج التي أتت عن طريق صناديق الاقتراع... وهذه قاعدة سياسية لا يمكن التنازل عنها... يعني أننا لا يمكن أن نهين دستور بلد بدعوى ربط الأمية بالتصويت، التي كانت أو قد تكون لمصلحة الأحزاب والتيارات الإسلامية، فهذا منافٍ للديمقراطية... ولكن أملنا كان ولا يزال في أن يتشبث من أوصلتهم صناديق الاقتراع إلى سدة الحكم الالتزام بقواعد الديمقراطية العالمية وأن يكون نكران الذات والتفكير ملياً قبل الإقدام على قرارات مصيرية هو الأساس الذي تبنى عليه القرارات... وهذا يتطلب أناساً أكفاء وذوي خبرات وبُعد نظر مثالية... وهذه المرحلة أصعب من المرحلة السلطوية القديمة، لأن التحول الديمقراطي إذا لم تثبت أركانه فقد تتحول الديمقراطية إلى ضامر عرجاء لا يمكن الركوب عليها ويستحسن أكلها في ظل الأزمة المالية الخانقة... وقد تصل المجتمعات إلى سلطوية أخرى عاتية وإلى انفلات أمني غير مسبوق «ترى القوم فيه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية»... هذا هو تخوفي إذا لم يلتزم بناة بلدان ما بعد انهيار ممثلي أعمدة الأنظمة السابقة بالحكمة... وأدعو كل التيارات السياسية التي تحكم في دول كمصر وتونس أن تفكر في هذا الكلام بعناية ودراية وعلمية كبيرة... ولا يظن ظان أن النتائج التي أعطته صولة الحق تكفيه... فبدون توافق في المرحلة الانتقالية وفي عدم خروج جميع المنتخبين إلى صناديق الاقتراع قد يفسد ذلك المجال السياسي العام... وينبغي خلق الثقة بين صاحب الحكم والمعارضة بدل الارتماء في الثقة الشخصية الزائدة عن الحد، آنذاك يمكن للمعارضة أن تقوم بدورها انطلاقاً من معارضة البرامج الاقتصادية والاجتماعية وغيرها... بدل الارتماء في معارضة وجودية عن أحقية الحكم واعتماد قوانين سامية جديدة كان عليها أن تكون جامعة للشمل بدل أن تكون مفرقة. وحلمي الثاني هو عن ضرورة تغيير العقليات وتجديد النخب التي ستقود سفينة التغيير بعد سنوات وبعد عقود خاصة في المجال السياسي. والديمقراطية الحقيقية هي دولة عمل سياسي منظم ومن ثم فإن الطبقة السياسية تتحمل مسؤولية تاريخية لإنجاح الانتقال الديمقراطي أولا في المرحلة الراهنة وإعداد الخلف في المدى المتوسط والبعيد... وشباب ميادين الاحتجاجات في الوطن العربي لا يخرجون إلى صناديق الاقتراع أيام الانتخاب وهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى... وينبغي غرس المواطنة السياسية والحزبية في أذهان أولادنا منذ نعومة أظافرهم وتوعيتهم على المواطنة التشاركية حتى عندما ينزل الحزب السياسي إلى حلبة التنافس السياسي لمقارعة أحزاب المعارضة يكون ذلك عن طريق مجابهة الحجج بالحجج... والذي يقع اليوم في البعد الاستشرافي المحدود للأحزاب العربية هو منطق «المقعد أولا» و«الكرسي قبل كل شيء» كيفما كانت الطريقة التي توصل إليه، فتدمر قيم الديمقراطية وتصبح حلبة التنافس السياسي بدون جمهور، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه تظن القطاعات الوزارية الوصية (كوزارة الداخلية) أنها يجب أن تدخل بقوة إلى الحلبة السياسية لإنقاذ ما يتعين إنقاذه فيبقى المجال السياسي العام في حلقة مفرغة، ولله عاقبة الأمور. (نقلا عن الاتحاد - الامارات)