التباطؤ فى إجراء الإنتخابات البرلمانية يكمن فى رغبة الحكومة في إطراد الاستبداد بالشعب من دون رقيب ولا حسيب المثال الأهم والأكثر إلحاحا في منظور المصريين المطحونين هو تقاعس الدولة عن ضمان العيش الكريم لعامة الشعب المعاناة الحياتية صورة مأساة شباب مصر من غير أبناء الأرستقراطية للغالبية الساحقة من المصريين المستضعفين جمعني طريق طويل مع سائق سيارة أجرة كان إسمه للصدفة "المصري". وهو شاب وسيم ودمث في العشرينات الأخيرة من العمر، متزوج وله طفل حديث الولادة، وكان خليقا به في أي مجتمع سوي أن يكون بشوشا مقبلا على الحياة. ولكن ما إن إتصل حبل الحديث حتى رسمت لي معاناته الحياتية صورة جِد مأساوية عن مصير شباب مصر من غير أبناء الأرستقراطية العسكرية–المالية الحاكمة، والظالمة بفداحة للغالبية الساحقة من المصريين المستضعفين. يقيم المصري وعائلته الصغيرة في سكن ضيق بحي شعبي مكتظ بسكانه ولا تتوافر فيه خدمات السكن الصحي.، كادت زوجته تفقد حياتها لخضوعها لعملية ولادة قيصرية في واحدة من السلخانات التي تسمى زيفا وخداعا مستشفى خاصا، وإنتهت على الرغم من التكلفة الباهظة بالتهاب وتسمم نفاسي لافتقاد السلخانة لأساسيات الرعاية الصحية السليمة. وكثيرا ما لا يجد المصري المال الكافي لتغذية طفله كما يحب أو لوجبة واحدة جيدة في اليوم مع زوجته.إلا أن اشد ما يعذّبه هو معاناة وليده لأحد الأمراض التي يتعرض لها الأطفال حديثي الولادة من دون أن بمتلك المال اللازم للطبيب والدواء. ولتكتمل الصورة، فإن المصري يعمل قرابة العشرين ساعة في اليوم سائقا لسيارة في زحام القاهرة وضجيج المرور فيها، ما يجلب له الضيق والإرهاق البالغ ويفقده التركيز أحيانا بل والرغبة في الحياة. ومع ذلك لم يكن يحصل على دخل ثابت من عمله إلا 600 جنيه في الشهر، ولكن حتى هذا الدخل المتواضع لم يدم إذ أنقص الرأسمالي الإستغلالي الصغير، صاحب الشركة التي يعمل بها مرتبه إلى 500 جنيه فقط بعد زيادة أسعار البنزين، على الرغم من انه أيضا رفع أسعار إستئجار السيارة على العملاء. وعندما تقع الواقعة وتصاب السيارة في حادث سير يخصم صاحب الشركة تكلفة إصلاحها من مرتبه ما قد يفضي إلى أن يعمل شهرا كاملا أو أطول بلا أجر على الإطلاق، ولا يتاح له لقضاء حاجات أسرته الصغيرة إلا ما يجود به الركاب فوق الأجرة المحددة من صاحب العمل التي لابد له أن يوردها كاملة. ولا يستطيع المصري التذمر من قسوة العمل وقلة الأجر أو تركه، تحت ضغط قلة فرص العمل ووفرة الراغبين فيه، كما أنه قد وقع كشرط للحصول على الوظيفة، تحت ضغط الحاجة، "إيصال أمانة على بياض" لصالح صاحب الشركة يمكن أن يُسجن بمقتضاه فورا. ولزيادة الطين بلة، تلقى المصري خطاب إستدعاء للخدمة في القوات المسلحة بعد إعلان تدخل مصر الرسمية في اليمن، ولك أن تتخيل ماذا سيكون مصير زوجته ووليده إن سافر للقتال من أجل الرجعية العربية في اليمن. ***** هذه الصورة المأساوية لواحد من عامة المصريين الكادحين غير المسنودين بمال أو رتبة عسكرية، حالية او سابقة، توجز ببلاغة ما يعانية سواد شعب مصر من ظلم فادح من قطيع الذئاب البشرية المفترسة التي تحتكر المال والسلطة في البلد المنكوب بالحكم التسلطي الفاسد والتي تتكالب على تحقيق أقصى منافع ذاتية لها ولو بنهش القليل الباقي من لحم المصريين الغلابة وسحق عظامهم. أكبر قطيع الذئاب البشرية هذه وأشدهم جرما هو حكومة الرئيس العسكري الحاكم، أي الرئيس والوزارة التي عينها ويصر على الإبقاء عليها في الجوهر، ولو غيّر بعض الوجوه مع الاحتفاظ بالسياسات الظالمة أو أمعن الاشتداد فيها، على الرغم من ثبوت فشلها في جميع المجالات. المخزي حقا في حالة الذئب الأكبر والأشرس هذا هو أنه مُستأجر من الشعب الذي يدفع مرتبات موظفيه ويتحمل المزايا الضخمة التي يحصلون عليها بدون وجه حق. والأصل أن الشعب يراقب أداء هؤلاء الأجراء من خلال ممثليه المنتخبين في إنتخابات حرة ونزيهة، وله ان يعفيهم حال فشلهم في صون الصالح العام وصيانة ما إستأمنهم الشعب عليه من ثروات البلد وحسن تقديم الخدمات العامة التي يمولها الشعب من حصيلة الضرائب التي يتكبدها عموم الناس. ولكن السلطة التنفيذية الراهنة قد إستمرأت الحكم بلا سلطة تشريعية ورقابية منتخبة. وتجر أرجلها ثقيلة في إنجاز الخطوة الأخيرة من خريطة المستقبل التي أعلنتها المؤسسة العسكرية في 3 يولية 2013. ويكفي دليلا أن تعليمات رئيس الدولة المعلنة تباهيا بالانتهاء من تعديل قوانين الإنتخابات البرلمانية في موعد أقصاه شهر من حكم المحكمة الدستورية- الذي كان متوقعا أصلا- بعدم دستورية بعض موادها، هذه المهلة قد انقضت من دون متابعة من الرئاسة أو الحكومة ما يشي بتباطؤ متعمد في عقد الإنتخابات البرلمانية. فلو كان في مصر برلمان يستحق الإسم لأقال مثل هذه الحكومة فورا. لماذا تتباطأ الحكومة في إجراء الإنتخابات البرلمانية الواجبة؟ اظن أن الإجابة تكمن في رغبة الحكومة في إطراد الاستبداد بالشعب من دون رقيب ولا حسيب، شاملا إغتصاب سلطة التشريع والتهرب من رقابة السلطة التشريعية المقررة دستوريا لضمان التوازن بين سلطات الدولة المدنية الحديثة الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). ****** ولو أردت تفصيل نواحي نهش ذئب الحكومة لسواد شعب مصر لتطلب الأمر كتابا وليس مقالا, فلأكتف إذن ببعض أمثلة بارزة وفاجعة. في المنظور التاريخي، تفرط الحكومة في ملكية أرض مصر للأجانب تحت دعوى جذب المستثمرين. وليس التصرف في أصول البلد مما يأتمن أي شعب عليه حكومة زائلة حتما. الشعب أصولا يوكل للحكومة إدارة أصول الوطن بما يضمن الصالح العام خلال فترة حكمها ويحاسبها على ذلك، من خلال السلطة التشريعية- الرقابية، والإنتخابات الدورية لرأس السلطة التنفيذية . إلا أن المثال الأهم والأكثر إلحاحا في منظور المصريين المطحونين هو تقاعس الحكومة عن ضمان العيش الكريم لعامة الشعب. فلا هي طبقت حدا أدنى معقولا للأجور مربوط بمعدل غلاء الأسعار، ولا هي ضبطت سعر الجنيه في مواجهة العملات الأجنبية حتى تستقر الأسعار في الاقتصاد المصري المعتمد على الخارج إعتمادا حرجا، ولا هي ضبطت الأسواق والأسعار بما يحمي مصالح المستهلكين من ذئاب أصحاب الأمول الإستغلاليين والإحتكاريين،. وزادت على كل ذلك أن إنتهجت سياسة إذكاء غلاء الأسعار، برفع الدعم عن السلع الأساسية التي يعتمد عليها غالبية العامة في معاشهم اليومي ما أدي إلى جحيم أسعار مشتعل إواره أبدا. ويرتبط بتراخي الحكومة عن كل واجباتها الأصولية أن حكومة الظلم الأفدح هذه قد أكدت عزمها على إذكاء نيران الظلم الاجتماعي بالإستمرار في تقديم الدعم لإستهلاك كبار اصحاب الأموال الكثيف للطاقة، وبالتقاعس عن تطبيق قانون الحد الأقصى للأجور التي تتالت الإستثناءات منه إلى إن ترددت مؤخرا تصريحات وزارية عن النية لإلغائه تماما بقرار رئاسي، وبالتعديلات الضريبية التي تخفف العبء الضريبي على كبار اصحاب الأموال بينما تزيد من وقعه على الكادحين من خلال الضرائب غير المباشرة (المبيعات والقيمة المضافة). وحيث تدعم الحكومة الراهنة نمط الاقتصاد السياسي القائم على الرأسمالية التابعة، والإستغلالية بل والإحتكارية، التي تفرز بالضرورة، في سعيها لجني أكبر أرباح والحفاظ عليها بدون وازع من حق أو أصول، مظالم فجة يقاسيها العاملون في مشروعاتها الاقتصادية وعموم الناس من المستهلكين لمنتجاتها، فقد اصطّفت الحكومة الظالمة دوما مع أصحاب الأموال ضد العمال المتضررين من سوءات الرأسمالية الإستغلالية وعموم الناس من المستهلكين. وينقلنا هذا التفارق في موقف الحكومة الحالية بين الدعم غير المشروط لأصحاب الأموال والقسوة المفرطة على الكادحين إلى الشريحة الثانية من قطيع الذئاب، والمتحالفة بقوة بالطبع مع مع الشريحة الأولى في القاعدة السياسية للحكم العسكري الراهن، أي أصحاب الأموال. وتسعى الحكومة الظالمة دوما لجلب أصحاب الأموال الأجانب تحت زعم الاستثمار في مصر من دون شروط تكفل الصالح العام، بل بتنازلات غير مجدية وتعاكس جهود التنمية الحقيقة ومهينة للشعب والوطن. ويحضرني هنا تمهيد الرئيس الحاكم لاستيراد العمالة الأجنبية بواسطة شركة إماراتية للعمل في مشروع العاصمة الجديدة الهلامي بحجة رفض الشباب المصري العمل فيها والتي أظنها مكذوبة بسبب تحرق الشباب االعاطل في مصر للحصول على أي فرصة عمل جيد. وليس الغرض من ترويج الرئيس لإستقدام العمالة الأجنبية لهذا المشروع، إن قام، إلا للتسهيل للشركة الإماراتية لتبني نمط العمل المعتادة عليه بإستقدام العمال الأسيوية الرخيصة والذلول، بالتغافل عن مواجهة معاناة عامة المصريين، خاصة الشباب، من إستشراء البطالة، المدخل الأوسع للفقر في بلد كمصر. وقد قدمت الحكومة لأصحاب الأموال جميع التسهيلات للنشاط الرأسمالي المنفلت من دون أن تقوم بدورها في ضبط الأسواق وضمان المنافسة بمحاربة الإحتكار، وهي شروط الكفاءة في التنظيم الرأسمالي السليم. فكان لابد ان يفرز هذا التنظيم المشوه للمجال الاقتصادي جميع سوءات الرأسمالية المنفلتة ومغارمها الهمجية، من استشراء البطالة والفقر والتعاسة البشرية، وهي بالضبط المظالم التي إستدعت إندلاع الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011. ****** ومن هؤلاء الرأسماليين الفُجّر من أفسحت لهم الحكومة الظالمة ميدان تقديم الخدمات الأساسية في مجالي التعليم والصحة، عادة بتكاليف باهظة لا يقدر عليها إلا القلة من أصحاب الأموال أنفسهم، مع أن تقديم هذه الخدمات يُفترض ان تكون من مسئولية الحكومة الرشيدة لقاء الضرائب التي تجبيها من الشعب. والنتيجة الحتمية أن يحرم أبناء الشعب من الكادحين من القدرتين البشريتين الأساس الصحة والمعرفة ما يوقعهم في درك أدنى من الفقر والفاقة. وهكذا تكون المحصلة النهائية لتكالب قطيع الذئاب المفترسة على نهش أجساد سواد المصريين الضامرة أصلا من طول معاناة القهر والإفقار، هي قسمة المجتمع المصري إلى فريقين منفصمين: قلة أرستقراطية مرفهة من تحالف العسكر- أصحاب الأموال، وغالبية ساحقة من أشباه العبيد المطحونين بالفقر والمرض والجهل، الذين يسهل التلاعب بهم في إطار من الديمقراطية الشكلية والزائفة لتدويم سيطرة الأرستقراطية العسكرية- المالية الحاكمة. لكن هذه ليست إلا مواصفات للظروف الموضوعية المثالية لإتدلاع موجات تالية من الثورة الشعبية ستطيح بالظالمين، ولو طال بهم الأمد. من العدد المطبوع من العدد المطبوع