في مثل هذه الأيام - كثيرا ما نحن - فلدينا طاقات غاضبة بفعل الإحساس بالخيبة الكبيرة - أو الخيبات - التي تظلل حياتنا، في مثل هذه الأيام يصبح الجاني بطلا، والمجرب مجالا للسخرية، ففي مثل هذه الأيام لا حقيقة سوي الانسحاب بلا مواجهة أو تحليل حقيقي لما نعيشه، وقد اندهشت للهجوم غير المبرر علي أحد الألبومات الغنائية الجديدة، والصادر باسم (أبوالليف - الجزء الأول)، وعادت عبارات أين زمن الغناء الجميل، (فين أيام سيد درويش)، و«منيرة المهدية» و«ثومة» وكما لو كان «أبوالليف» ارتكب جرما كبيرا جعلنا نتمسك بعقدتنا القديمة (ياه.. أين زمن الغناء الجاد) - فكان من الطبيعي أن أبحث عن هذا الألبوم الذي استطاع أن يفجر هذا الجدل الكبير، في وقت تصدر فيه أعمال فنية وإبداعية مهمة دون أي إشارة، وبالفعل وجدت الألبوم بعد بحث طويل، وللوهلة الأولي شعرت أنني أمام صدمة حقيقية، فمن أول الغلاف أو ال carer تبدو هذه الصدمة جلية وحاضرة، فالغلاف يقدم صورة لشخص «خارج من طاحونة»، أو عائد من غزوة، وقد جردته الحياة من أشياء كثيرة، فلم يعد لديه سوي هذه القطعة من الخيش، وهذا الحبل الرابط حول جسده، فجميع ماكان يملكه ذهب في غزوات الحياة، كما احتفي الغلاف بصور أخري تبدو بهلوانية لنفس الشخص، الذي أصر أن يظهر في صورة الإنسان البدائي، والغريب أن يتحول الطبيعي إلي صادم، والواقعي إلي شاذ وخارج علي العرف والمجتمع، لقد تم تجريم «نادر أنور» والملقب ب«أبوالليف» بسبب بعض المفردات، التي تعامل معها الكثيرون بما فيهم من مبدعين ومجربين علي أنها استكمال لموجة هايفة في الغناء، وأنا اعتقد أن هناك خلطاً في المسألة، نتج عن مشكلة الاستقبال من قبل هؤلاء المتلقين، إذا تم استقبال «أبوالليف» علي أنه مطرب دوره كدور أي مطرب يقدم الأنغام الرصينة والكلمات المتماسكة والصوت المطرب العميق، إلا أن «أبوالليف» وحده كان يفهم ما يريده، إذ عرف أنه جاء ليقدم صورة ل«مونولوجست» لديه نظرة تتعلق بالمجتمع وما ينصرف عليه ذاته من تبعات هذا المجتمع، ف«أبوالليف» لم يقدم نفسه علي أنه «عبدالحليم» أو «فريد الأطرش» أو «عبده الحامولي»، لا سمح الله، ولا حتي «محمد منير» أو «مدحت صالح» أو «علي الحجار»، وإلا ما كان يظهر بهذه الصورة، الصادمة في وقت يطلع المطرب علي الناس كما يقولون بالبلدي «علي سنجة عشرة»، إلا «أبوالليف» الذي انحاز إلي الناس لا طبقة «البدل» فاختار أن يغني لهم بوصفه منهم، وأنا أظن أن وراء هذا ال«أبوالليف» تجربة حياة قاسية جردته من الصورة الحضارية التي اعتدناها، ومازلنا نلعب أدوارنا خلفها، وحده «أبوالليف» خلع كل شيء وراح يقابل ذاته بعيدا عن كل الصور والمساحيق الكاذبة. «أبوالليف» (أول) جاء ألبوم «أبوالليف» دون أي عنوان، فقط الإشارة إلي اسمه، والألبوم يتكون من (10) أغنيات كتبها الشاعر «أيمن بهجت قمر» في خروج عن المألوف، ولحنها ضلعه الثاني في التجربة «محمد يحيي»، وكانت الأغنيات من توزيع «توما» فقط هناك أغنية واحدة لم يكتبها «أيمن بهجت» هي أغنية (قبل ما أنام)، التي كتبها الشاعر «حسن عطية»، وفي الألبوم يعلو صوت (الناقد الاجتماعي)، إذ أن أغلب أغنياته جاءت كحالات مونلوجية تقدم صورا مرفوضة لكونها تتعدي علي محيط القيمة الاجتماعية، ويظهر ذلك في افتتاحية الألبوم بأغنية (بومبة) التي تستعرض إلي أي مدي انهارت علاقاتنا الاجتماعية، وذلك من خلال بطل الحكاية الذي يشكو من انهيار علاقته بآخر أو محبوبة، التي فاجئته في اتصال تليفوني كماجاء في بداية النص (ألوه - أبوالليف - أنا أسفة جدا مش هانقدر نستمر مع بعض)، ومن التالي نكتشف أننا أمام حالة (وقيعة) بين شخص ومن يحب، كان السبب فيها شخصاً ثالث، (البنت الفاضلة اللي اخترتها علشان تتجوزني- فيه حد موقع بيني وبينها- فيه حد مهمزني)، (والمهموز) هنا تفيد أن هناك (مقلب) ناتجاً أما عن (وشاية) أو (اختلاف)، ودون أن نقف طويلا أمام النص، فالنص ابن المدرسة الزجلية في شقي الأداء (مبني- معني) وقد استحضر «محمد يحيي» في صياغته للجمل الشعرية حالة الراصد دون أن يحمل الكلمات أكثر من طاقتها باللجوء إلي التطريب أو الإنشاء، فراح يلقي الكلمات ببساطتها كما لو كان يدير حوارا بينه وبين شخص آخر، كذلك جاء الايقاع في الصياغة التي وضعها الموزع الموسيقي «توما» متواءما مع حالة اللحن دون خروج عن الخط اللحني أو تجاوز لغته. كله بينفسن في ثاني أغنيات الألبوم (كله بينفسن) يحاول فريق العمل أن يؤكد أو يتواصل مع المعني المطروح في الأغنية السابقة، وقد يظهر ذلك من اسم الأغنية (كله بينفسن) و(ينفسن) هنا تشير إلي (الحقد) والنص لا يرحم أحداً فالكل يحقد بحسب النص، الذي يتعرض لما وصلت إليه مستويات الحقد في المجتمع (ياما م الناس ياما ياما- كله بينفسن- والندالة دي حالة عامة- امتي نتحسن- دا اللي في الوش بان جيلبك- يلف ويأسفن) ويتناول النص ما يكفي للتأكيد علي الانهيار الكامل في الهرم الاجتماعي (أخ واطي قوي مع اخوه وأخته/ ابن قسي علي أبوه ميل بخته) إلي آخره من صور أخري لأباء قاموا بتشريد ابنائهم- وأشخاص استطاع الإدمان أن يستعبدهم) والنص ابن الاتجاه ذاته (النقد الاجتماعي)، ولقد قدم «محمد يحيي» لحنا أقرب إلي البكائيات، فمن بداية اللحن نجد صوت ضحك ملئ بالسخرية الممزوجة بالحزن، استكملها اللحن بصورة درامية أقرب إلي النحيب، كذلك لم يخرج الموزع عن دراما اللحن، إذا جعل الايقاع كخلفية لا تقود اللحن، بل ظهرت الجمل الموسيقية بدراميتها وصوتها الشعبي الملئ بالسخرية. تاكسي كما أشرت في البداية، أن «أبوالليف» اختار أن يخرج عن المألوف، كما خلع كل المساحيق والألوان، وظهر بوجهه الحقيقي دون أن يخفي أي شيء، أملا في أن يقترب من الناس، أو يدخل إلي قلوبهم دون أي واسطة، وذلك ما حاول أن يؤكده من خلال أغنية (تاكسي)، وهي أيضا للشاعر «أيمن بهجت قمر»، ولحنها «محمد يحيي»، والأغنية تقدم (نموذجا) يحاول أن يشقي في حياته حتي يصل لصوته، ويبدأ «أيمن بهجت» بجمل تقترب من الطرافة إذ يقدم صورة لشخص «البطل» يقوم بدور (مغني)، فيستعرض مسيرته الغنائية في حس كوميدي شعبوي، إذ يلتقط من الواقع نموذجين لمطربين من المفترض أنهما من أنجح أبناء جيلهما، وهنا أعني (أنجح) وليس من الضروري أن يكون أفضل (أنا اللي كان فارسني باغني من تالته ابتدائي- من قبل «تامر حسني» وقبل «محمد حماقي»)، ثم يشتبك مع هذا التعليق بتأكيده علي ذلك لكونه سيدخل إلي قلوب المستمعين دون واسطة (تاكسي- عديني يا اسطي- كله الاسطي - أهلي - أصحابي - كل جيراني- هادخل قلبكوا من غير واسطة) صحيح أن النص قام بتحديد من سيقتحمهم هذا الصوت (أهلي صحابي كل جيراني)، إلا أنني أري أن ذلك الصوت سيدخل إلي قلوب الكثيرين علي المستوي البعيد، يستعرض «أيمن بهجت قمر»، رحلة «أبوالليف» الحياتية والغنائية عبر النص ويقدمها «محمد يحيي» في ايقاعات أقرب إلي صورتها الحقيقية بلا زيادات، وأنا أرجو أن يستمع الناس إلي هذه التجربة جيدا ولاسيما السادة (النقاد) الذين استفزهم منظر «أبوالليف» الصادم. كينج كونج نأتي إلي أغنية (كينج كونج) التي كانت عنوان الحملة الانتقادية التي شنها الكثيرون علي فريق العمل في تجربة «أبوالليف»، لقد قامت الدنيا في وجه هذه التجربة لأجل بعض المفردات، التي رأها الكثيرون هبوطا وانحطاطا دون وعي بأن النقد الاجتماعي يستوعب أكثر من ذلك، لقد كانت جريمة التجربة ولاسيما هذه الأغنية أنها قدمت ألفاظا رأي الكثيرون أنها جارحة ومسيئة للأدب، وتعد هبوطا فنيا، من بين هذه الألفاظ لفظ (خرونج) وهي كلمة عامية شائعة تعني (مغفل) أو (ساذج) أو أي معني يقترب من قلة الحيلة والخبرة، وكانت المشكلة المشار إليها كيف تظهر مثل هذه الألفاظ في أغانينا، وراح الجميع يترحم علي زمن عظماء الموسيقي والغناء من أمثال العظيم «سيد درويش» والعظيمة «أم كلثوم» وكذلك زمن «منيرة المهدية» أو سلطانة الطرب، وأنا أعتقد أن الكثيرين ممن هاجموا الألبوم قد اكتفوا بسماع مفردات مثل (خرونج) وانتزعوها من سياقها، دون أن يهتم أحدهم بالتجربة ككل، فالألبوم يقدم ما يعرف بأغاني الاحتجاج، ويقوم بتشريح واقعنا الاجتماعي بلا أي تجميل، فالتجربة التي قدمها كل من «أيمن بهجت قمر» و«محمد يحيي» «وتوما» و«نادر أنور» أو «أبوالليف» تعد امتدادا لتجارب «محمود شكوكو» مع الشاعر الكبير «فتحي قورة»، وكذلك «إسماعيل ياسين» مع «أبوالسعود الإبياري»، وتجارب أخري كثيرة، وعن أداء «أبوالليف» فاتحدي من يقول إنه يغني دون صوت أو امكانيات، فهو يعرف جيدا ما يقدمه وهو صوت سليم غنائيا ويتمتع بجماليات أداء تميزه، وعن مفردات (خرونج) و(كاوركي) و(يحموك في كنكة) ومفردات أخري، فأنا أعد القراء الاغراء أن أقدم لهم في مقالي القادم كاستكمال لهذا النقاش مفردات أصعب وأقسي من هذه المفردات وردت في أغنيات عظمائنا من المطربين والملحنين أمثال الرائد «سيد درويش» والعظيمة «أم كلثوم» وسلطانة الطرب «منيرة المهدية» والراحل الكبير «عبداللطيف البنا»، وأسماء أخري، وليس وحده «أبوالليف» الذي بدأ بكسر القاعدة أو التجرؤ علي قاموسنا الغنائي والاجتماعي.