لم يحدث في تاريخ القارة العجوز " أوروبا " أن كان صوتها خفيضا أو خفيا في الشأن العالمي كما هو في الوقت الراهن ، حتي لتبدو وكأنها انكفأت علي نفسها ، أو أنها دخلت في مرحلة من العزلة الاختيارية ،مبتعدة بمحض إرادتها عن مشكلات العالم الخارجي ، إلا فيما ندر . وعلي خلاف ما كان متوقعا منذ عقد أو عقدين من تصاعد للدور الأوروبي (عالما) مع استمرار نجاحاتها علي خط "الاتحاد " اقتصاديا وسياسيا ، فإن الشواهد تؤكد أنه حتي علي مستوي المناصب الجديدة التي جاءت ضعيفة ، فإنها كانت بدورها من أسباب إثارة نزاعات حول السلطة بين رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو ، ورئيس الاتحاد الأوروبي الجديد هيرمان فان رومبوي ، الأمر الذي اثبت بجلاء أن القارة المخضرمة تشهد في المرحلة الحالية مشاكل قيادية حتي علي مستوي الاتحاد برمته . وإذا كانت نظرة العالم إلي الدول الأوروبية ، بإطارها التضامني الممثل في " الاتحاد الأوروبي " تميل إلي اعتباره " قوة عالمية " كأحد أطراف النظام الدولي ، فإنه مما لا شك فيه أن الدور العالمي للقارة الأوروبية ، ومدي تفاعلها مع مشكلات وأحداث وتطورات المجتمع الدولي ، تبقي في نهاية الأمر رهنا بنظرة الأوروبيين إلي أنفسهم ، وما يمكن أن يعتبروه من صميم مسئولياتهم علي النطاق العالمي . وهنا تحديدا يبدو سبب حالة الانكفاء الذاتي التي تمر بها أوروبا . فالقارة التي تشترك ثقافيا مع الولاياتالمتحدة ، القطب الأوحد المهيمن حتي الآن علي مقدرات العالم ، حيث يرفع الجانبان لواء الدفاع عن قيم الحضارة الغربية ، هذه القارة ، أي أوروبا ، تعتبر أن كل ما يجري في عالم اليوم من مشكلات وأحداث ، هو شأن أمريكي محض . ويبدو أن هذه النظرة آخذة في الاتساع ،حتي أنها باتت تشمل حتي ما يعتبر من صميم قضايا الأمن الأوروبي . الهروب من الزعامة بالنسبة لأوروبا ، ترتبط مشكلة القيادة بأزمة الصوت الأوروبي تجاه العالم . وكما يقول الكاتب استيفان ثل إنه علي الرغم من أن ألمانيا ، وهي أكبر وأغني دولة أوروبية تبدو مؤهلة لتولي قيادة أوروبا ، فإن الأمر المدهش أن ألمانيا نفسها راضية عن حدود دورها الحالي ، ولا تبدي أية رغبة في تولي زعامة القارة . وهنا يبدو التساؤل المنطقي: كيف لدولة هذا حالها أن ترنو إلي الحصول في يوم من الأيام علي مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي ؟ ومع ذلك يظل السؤال ماثلا : إلي متي تظل ألمانيا زاهدة في مركز الزعامة الأوروبية ، لقد سبق أن أقنعت الصين العالم بأنها لا تطمح إلي أي دور قيادي عالمي ، ولكنها اليوم تشرع في نشر قلوعها في العالم ، شرقا وغربا . إن الموقف الراهن في الساحة الأوروبية ينذر بتطورات تفرض علي الجميع سرعة التجاوب والبحث عن حلول جذرية . فهاهي الأزمة المالية اليونانية تنشر أجواء غير متفائلة علي الإطلاق . ولأنها أزمة غير تقليدية تهدد بإعلان إفلاس دولة أوروبية ، فقد تحركت الأقطاب الأوروبية بالفعل ، واتخذت إجراءات سريعة لمساعدة اليونان ، لكن مرة أخري ، تبدي ألمانيا ، ومستشارتها انجيلا ميركل ، تحفظا ، وعدم رغبة في تزويد اليونان بمساعدات مالية مباشرة فيما اعتبره الكثيرون نكوصا عن موقف " التكافل القيادي " الذي كان حريا بألمانيا أن تتبعه . ويبدو الأمر مثيرا للمناقشة ، فالشواهد تؤكد أن ميركل وهي وجه أوروبي مقبول ومؤهل للقيادة ،علي خلاف الفرنسي ساركوزي ، البريطاني جوردون براون ، والاسباني ثباتيرو ، ولكن تبدو ألمانيا الحريصة كل الحرص علي دولة الرفاه ، والمصنفة القوة التنافسية السابعة علي مستوي العالم ، تغلب مصلحة ألمانيا المباشرة علي مصلحة الاتحاد الأوروبي ،حتي ولو كان الأمر يعني ما يعتبر " عزلة ألمانية " وبالتالي " عزلة أوروبية " . وبالرغم من أن لألمانيا قوات في أفغانستان ، إلا أن الشعب الألماني ليس مؤيدا لهذه الخطوة ، وفي الأحاديث العامة ، يبدي الألمان تحفظات علي كل ما يمكن أن يعيد إليهم ذكريات الماضي الأليمة . البنية الاتحادية المعقدة بعد ما يقرب من عقد من المفاوضات والمعاهدات والمؤتمرات دخلت معاهدة لشبونة حيز التنفيذ في الأول من ديسمبر 2009 ، وبالرغم من المستحدثات المؤسسية كمنصب الرئيس الدائم للمجلس الأوروبي ومدة ولايته عامان ونصف العام ، بالإضافة إلي منصب الممثل الأعلي للاتحاد للسياسة الخارجية والأمن ، واستحداث جهاز أوروبي للأنشطة الخارجية ، فإنه لايبدو أن الهندسة الجديدة للكيان الاتحادي قادرة علي مساعدة أوروبا للتوصل إلي حالة الانسجام في سياستها الخارجية . ويقول فيديريكو سانتو بينتو الباحث في مجموعة الأبحاث والإعلام حول السلام والأمن في بروكسل ، إن كل مؤسسة تشكل بحد ذاتها بنية معقدة ، فالمفوضية الأوروبية مثلا عندما تتدخل في شئون الخارج تنقسم إلي ست إدارات عامة يديرها أربعة مفوضين مختلفين دون احتساب رئيس المفوضية . أما المجلس فإن تمثيله لا يتم فقط عبر الممثل الأعلي للسياسة الخارجية والأمن ، بل أيضا عبر الدولة التي تضطلع كل ستة أشهر بمهام الرئاسة الفصلية، وهي رئاسة اعتبرت مصدرا للتفكك وانعدام التواصل ،وهكذا يبدو أن بنية الاتحاد تضيف ضعفا وليس قوة للقارة الأوروبية . أزمة أوروبا .. والعالم كثير من الأوروبيين لاينظرون بأي قدر من التفاؤل لأزمة المديونية التي تمر بها بعض الحكومات الأوروبية ، والتي كشفت عن حالة انشقاقية عميقة داخل الاتحاد الأوروبي ، وتحديدا منطقة الدول ال ( 16 ) التي تستخدم اليورو كعملة مشتركة . والحقيقة ان الموقف المتأزم لا يقتصر علي اليونان ، بل هناك احتمالات امتداده إلي دول اخري هي اسبانيا والبرتغال وايرلندا وايطاليا ، ولايبدو ان حال الدول الأوروبية الغنية مثل فرنسا والمانيا بأحسن من ذلك كثيرا . والملاحظة هنا أنه ليست هناك روح "المشاركة "أ و "التكافل " أو التقدم للقيادة وحل الأزمة ، بين هذه الدول لمساعدة بعضها بعضا . وكان القلق من خطر الإفلاس قد دفعها لخفض قيمة اليورو مقابل الدولار بنسبة 10 % . ويحذر الخبير الاقتصادي الفرنسي جاك أتالي في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور من أنه إذا أدت الأزمة إلي سقوط النظام المصرفي اليوناني ، فإن دولا أوروبية أخري يمكن أن تتأثر أو تنهار أنظمتها ، ويبدو من استعراض الأحوال العالمية ، مع استمرار تداعيات الأزمة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة ، أن انهيار منطقة اليورو قد تمتد آثاره إلي أسواق المال العالمية ، التي تحاول بالكاد التعافي من أزمتها الطاحنة . ومن المعروف أنه في الأحوال الأوروبية التي تكون فيها السوق الأوروبية موحدة ومتكاملة، فإن السياسة التجارية للاتحاد الأوروبي تكون أكثر تطلعا ومبادرة ، لكن عندما تتعرض السوق الأحادية لضغط من الحمائية الداخلية ، تتحول السياسة التجارية للاتحاد الأوروبي إلي " الانكفاء علي نفسها " وتفسح المجال للحمائية ضد الغرباء ،وهذا هو الوضع الحالي اليوم تقريبا . ويمكن القول إنه من أهم الخسائر التي ترتبت علي قوس الأزمات داخل الاتحاد الأوروبي ، هو نسيان جدول أعمال لشبونة ، لإصلاحات السوق ، وتعزيز القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي .