بالصدفة كنت أتحدث مع أحد أصدقائي عن المطرب «وجيه عزيز»، وعن لماذا لم يأخذ «وجيه» حقه، ولاسيما أن «وجيه» قد اخترع طريقة في التلحين والغناء تخصه هو وحده، وظللت عهدة هذا الهاجس، إلي أن هاتفنيشخص يدعي «جوني»، لم يكن لي سابق معرفة بهذا الاسم، ودهشت لكون «جوني» مطربا ولم أعرفه، كما أنني احترمت رغبة «جوني» في أن أستمع إلي تجربته، ولأنني تعودت علي أن المطربين يجلسون في أبراج عاجية، وعلي أي شخص أن يبحث عنهم، إلي أن فاجأني «جوني» باتصاله وبالفعل التقيته وأهداني أولي تجاربه الغنائية، وهي ألبوم غنائي باسم (مطر عطشان) ولقد جذب انتباهي اسم الألبوم، وقد يسألني أحدكم ما علاقة «وجيه عزيز» بكل هذا الفيلم، فأقول إن العلاقة موجودة ومؤكدة ف«جوني» ابن هذه الحالة الخاصة التي ينتمي إليها «وجيه عزيز» حالة الغناء لا التظاهر به، حالة البحث عن جديد في ظل التكرار الذي أصبح طوقا خانقا حول الكثير من أغنياتنا. مطر عطشان(1) كما أشرت في البداية أن «مطر عطشان» هو اسم الألبوم الأول ل«جوني» ويبدأ الألبوم بأغنية (اشتقتلك) من كلمات وألحان «أنطونيوس نبيل» ووضع لها التوزيع «أمير ذكري»، الأغنية تحاول أن تطرح بديلا للمفردات العادية التي تقدمها أغلب أغنيات الحب هذه الأيام، فالكلمات تعتمد علي الصياغة الشعرية التي تستفيد من العامية بطاقاتها، (اشتقتلك/ ووهمت روحي وقلت بعدي بتقتلك/ اشتقتلك/ خبيت جروحي في عز خوفي ندهتلك/ وسبقت جوايا الحنين/ مع اني تايه من سنين/ ورجعتلك واشتقتلك) - فالمتأمل للمقطع الأول علي الفور سيتذكر الحالة الغنائية في الثمانينات والتي كانت تتميز بمفردات مختلفة عن الحب - الحنين - الفقد، فالبطل هنا يصنع وهمه بذاته(ووهمت روحي إن بعدي هايقتلك)، هذا يعني أنه يعلم أن الحقيقة عكس ذلك، ولما لجأ إلي (وهمت روحي)، ربما أراد أن يخترع هربه الخاص من تلك الحقيقة، حقيقة أن أثره في الآخر لم يكن بحجم تقديره له، فالعلاقة انتهت وآلت إلي إلي مجموعة من الذكريات يعيشها وحده (فاكرة اللي كان بينا زمان/ لو مانستيش يبقي مافيش ولا حاجة تاني تهمني/ دانا لسه باحلم كل ليلة بالحنان/ اللي في عينكي خدني ليكي وضمني) ويكفي لتأكيد أن هذه الحالة يعيشها (الراوي) وحده أن نرصد المقطع الآتي (قلبك سألني إنت مين/ مديت إيديا المجروحين/ وضحكت لك) فمن الواضح أن تفاصل الحكاية بكاملها قد سقطت من ذاكرة (الآخر) أو الطرف الثاني فيها، أو ربما يتجاهلها وهذا هو الأصعب، الفيصل في الحكاية (الوهم) الذي أكده الشاعر «أنطونيوس نبيل»، والذي عاشه من خلال تلحينه للنص، فلأنه كاتب النص ويمتلك أدواته كملحن، استطاع أن يخرج بنا عما ألفناه من ضجيج عبر لحن رائق ومنساب في نعومة ميزته، فالتقطيع اللحني قائم في الأساس علي العلاقات الشعرية ومعانيها، فمنذ بداية المقطع الأول (اشتقتلك) وحتي (ورجعتلك) - أي نهاية المقطع ونحن نعيش مع تقطيعات لحنية منصفة للجمل الشعرية وغير زائدة، أي أن اللحن كتب مصاحبا للنص الشعري، فكلاهما ابن حالة ايقاعية واحدة ورتم أدائي واحد، فما إن يبدأ اللحن وينتهي حتي نشعر أن الملحن استطاع أن يقبض علي الحالة بكاملها، دون خروج عن محيطها، كذلك قدم «أمير ذكري» رؤية موسيقية للحن كانت عادلة إلي درجة كبيرة، فمنذ البداية نشعر أننا أمام موزع يطابق رؤيته باللحن الأصلي، فيطرح اللحن في قالب جمالي لا يخفي روح اللحن، ولقد اختار أن يجعل خلفية اللحن أقرب إلي جدول ماء منساب بعذوبة وحنان تلقائيين. كرسي القهوة تأتي أغنية (كرسي القهوة) لتختلف في صورتها ومعانيها عن الأغنية السابقة، فالشاعر يختار أن يصنع من (كرسي القهوة) بطلا في حكايته، فالكرسي هنا محور النص (كرسي القهوة قعدت عليه/ والبرد الحافي بيكويه/ وكراسي كتير من حواليه/ ما قدرش زحامها يغطيه)- وهنا نحن بصدد لغة أخري ومعان مختلفة، فلربما كان (كرسي القهوة) رمز إلي شخصيته (الراوي) أو هناك ارتباط شرطي بينهما، وقد اعتمد الشاعر «أنطونيوس نبيل» في صياغة علي علاقات الاستحالة فيما بين المفردات ولتنظروا معي إلي جملة (البرد الحافي بيكويه) فالعلاقة بين البرد والكي عكسية في ظاهرها، إلا أنها ممكنة في باطنها، لقد حاول الشاعر أن يضعنا أمام نموذج مختلف عما نسمع (الكرسي اللي بقاله زمان/ مستحمل طعم الأيام/ مش خايف لا الجرح ينام/ ويزوق بالحزن عينيه)- فنحن أمام (كرسي) صاحب تجربة في الحياة، وقد لجأ «أنطونيوس نبيل» بصفته ملحن الأغنية إلي الايقاعية في تقدير اللحن، فالجمل تسير من أسفل إلي أعلي بشكل تدريجي، ومن شكل اللحن يمكننا التعرف علي حالة مونولوجية صوتية تعتمد علي الايقاع التراكمي، وهو ما تأكد من خلال رؤية (سامو) موزع الأغنية، والتي ارتكزت علي الايقاعات بشكل واضح، ربما أراد فريق العمل أن يخرجنا من الحالة العاطفية التي ادخلنا فيها في أغنيته الأولي والتي مرت كالحلم . ذكريات حلم تأتي أغنية (ذكريات حلم) لتتواصل مع الخط الدرامي في (اشتقتلك)، إلا أن في الثانية نحن بصدد آخر له وقع السحر علي (الراوي) أو صاحب الحلم أو القضية، فالراوي يفترض آخر مستحيل، لما له من قوة حضور وتأثير في ذات البطل الحاكي (كل كلمة بتنطقيها بينسي فيها القلب كبته/ كل نجمة بتحضنيها حلم في عنيكي ارتكبته/ حلم في عنيكي البريئة/ من غيوم الليل سرقنا/ نفسه يبقي في يوم حقيقة بس خايف من فراقنا)- لقد اعتمد الشاعر علي الصورة المركبة هذه المرة (حلم في عنيكي ارتكبته)، لنري كيف انتقل بالحلم في صورته إلي فعل الجريمة (ارتكبته) وهي كلمة دالة علي معان كلها تتعلق بالوقوع في خطأ (ارتكبته - جريمة - ذنب - مصيبة) إلي آخره، فهي لا تلحق إلا بمثل هذه المعاني، فقط استطاع «أنطونيوس نبيل» أن يعلقها بذيل الحلم، فبدا الحلم وكأنه جريمة، وعن اللحن فارتكبه «أنطونيوس نبيل» علي حد تعبير في النص المكتوب، وهو لحن أقرب إلي التصويرية، فمنذ الوصلة الأولي نشعر أننا أمام مقطوعة موسيقية في الأساس، علي الرغم من الحالة المليودية الظاهرة في التقطيع اللحني للجمل، فاللحن يبدأ في إطار «بطيء»، والمتابع لحركة اللحن يكتشف أننا أمام جمل تتلمس صياغاتها اللحنية، كما أنها لا تقدم طاقات غنائية بالقدر الكافي، بل كان التعبير هو الهدف الرئيسي في اللحن، كذلك جاء التوزيع الموسيقي للموزع «أمير ذكري» ابن الحالة الغنائية في أبعادها، إذ لم يلجأ إلي الإفراط في توظيف آلة علي حساب الأخري، كذلك جاءت متابعته لحركة اللحن أكثر دقة، لذا جاءت الصياغة النهائية في مكانها الطبيعي دون شك. مطر عطشان هي الأغنية التي اختارها «جوني» لتكون عنوان الألبوم، والأغنية كتبها ولحنها «أنطونيوس نبيل»، بحكم أنه كاتب وملحن الألبوم بالكامل، وقد صادفتني ألبومات كثيرة كان من الممكن أن يكتب الألبوم شخص واحد، أما أن يلحن الألبوم ملحن واحد فقط، إما أن يكتب الألبوم ويلحنه، فهذه الحالة لم تتحقق سوي في تجربة كبيرة ومهمة هي تجربة «زياد رحباني»، ولا أجد أي علاقة هنا بين «أنطونيوس نبيل»، و«زياد» إذ إن «زياد» قد ذهب بالموسيقي إلي آفاق بعيدة ومتجددة، وفي أغنية (مطر عطشان) حاول الشاعر أن يتكئ علي المفارقة الشعرية (إحساس وكأنه عطشان) وتكمن المفارقة في علاقة المطر بالعطش، فجميعنا يعرف أن المطر يروي العطش لا يحياه، (إحساس وكأنه مطر عطشان/ مراياته حيطان حابسانا وحابسة النور في عينيه/ لاطاوعنا وقال للحلم مافيش/ ولا سابه يعيش/ ولا سابنا نموت يمكن نلاقيه) وقد لا تعود كل هذه المعاني علي المطر في الأساس، بل تعود علي الإحساس الذي شبهه الشاعر بالمطر العطشان، فعلي الرغم من كونه مليئا بالحياة إلا أنه يفتقدها، ولقد قسم الشاعر النص إلي حالتين، الأولي ترصد الإحساس الذي وصل إليه بطلا الحكاية، ثم يطرح في النصف الثاني من النص سؤاله الذي قامت عليه الحالة ككل (طب نعمل إيه؟/ ولقانا وداع بنأجل فيه)- هنا تكمن القصة (لقانا وداع) وتنظروا معي إلي العلاقات (لقانا وداع) (بنأجل فيه)، فطرفا العلاقة يعيشان حالة من الخوف، الخوف من أشياء كثيرة لم يكن في يد أي منهما حل لها، ومن هنا استطعنا أن ندرك سبب هذا الإحساس الذي طرحه الشاعر في البداية، (إحساس وكأنه مطر عطشان)، فطرفا القصة لديهما مفردات الحياة بما تعنيه هذه الحياة من معان، إلا أنهما يستشعران خطرا ما قادما، وقد يتعلق هذا الخطر بمسألة (المجهول) ولاسيما أن الظرف التاريخي الذي تعيشه هذه الحالة لم يقدم ولو مفردة واحدة تدفع إلي الاطمئنان. إن النص يمتلئ بالحيوات المؤجلة، والمفردات ذات الوجهين (ده لقانا وداع بنأجل فيه/ مطر عطشان) والغريب في الأمر أن التيمة الايقاعية التي اختارها «أنطونيوس نبيل» لتكون قائد اللحن، جاءت أكثر تعبيرية عن حالة التوجس والقلق اللذين في النص، لقد قسم «أنطونيوس» اللحن إلي صورتين، الأولي جاءت كتمهيد للثانية، فمن الجمل (الإيقاعية) الأقرب إلي أداء «الريستاتيف) إلي الجمل المتغيرة عبر دافع تحريضي بدءاً بجملة الاعتراض أو السؤال، وهي جملة القوة في اللحن (طب نعمل إيه) والذي أكدهااللحن بإعادتها أكثر من مرة، كما أدهشني في ذلك اللحن الطربية التي يؤدي بها، ويذكر للموزع الموسيقي «سامو» أنه استطاع أن يخفف من المعني الكارثي الذي طرح في الأغنية، إضافة إلي مرونة اللحن، ما جعل «سامو» لا يجد أي صعوبة في وضع رؤية له، فجاءت الأغنية من الأغنيات التي لا تمل من سماعها. أداء «جوني» كان لدي رغبة في الكتابة عن أغنيات أخري كثيرة في الألبوم كأغنية (رصيف روحي) وهي من الأغنيات المهمة في التجربة، كذلك أغنية (رهاف) والتي وزعها الموهوب الرائع «هاني شنودة» صاحب النقلة المهمة في الأغنية المصرية، إلا أن قوانين المساحة ظالمة، بقي من الألبوم أداء «جوني» الذي جاء بسيطا وجميلا يخلو من أي افتعال، فلا هو يحتفي بطاقات غنائية تطريبية هائلة، ولا هو من الذين استسهلوا المسألة فراحوا يغنون بأظافرهم، بل اختار أن يغلب إحساسه جماليا علي الصوت العالي، أنا شخصيا سعدت بسماعي لألبوم (مطر عطشان) للمطرب الجديد «جوني».