الوحدة.. العزلة.. الطريق ...العودة.. الحب.. الشوق.. الشغف.. القتل.. الحرب.. الموت.. العدم.. الهروب.. الاحباط.. الأمل.. جميعها معان يفجرها فيلم " طريق العودة " لإيهاب حجازي هذا الشاب المصري الذي طار لروسيا لدراسة السينما ليعود ويبهر العالم بفيلمه "طريق العودة ". التناول الأدبي إن قيام عمل سينمائي مستند علي عمل أدبي خاصة لروائي مثل " تشارلز ديكينز " هو في ذاته سلاح ذو حدين لأنه يمكن أن يضع المبدع داخل نظرة العمل الأدبي لا أكثر ويحد من ابداعه ورؤيته، وهناك مبدع آخر يضعه العمل الأدبي في تحد ليصل من خلاله لرؤيته الخاصة وبهذا يصبح العمل الأدبي مجرد وسيط بين المبدع ورؤيته، وهذا ما فعله حجازي خلال اقتباسه من قصة ديكينز . يستقي إيهاب حجازي عمله من خلال فكرة النص الادبي للروائي البريطاني " تشارلز ديكينز " وقصته " قصه طفل " والتي توافق فكرة العودة والطريق كما يسلكه حجازي في فيلمه، فلابد من إلقاء نظرة عميقة بعض الشئ علي العمل الأدبي لديكينز . لا يمكن حجر فكرة لأحد عن الآخر ولكن ديكينز يعبر عن الأنسان من خلال رحلته في الحياة، حبكة العمل تقوم علي مسافر يجوب الأقطار باحثا عن اللاشيء لكنه يلتقي أشخاصا أولهم طفل يدعوه لللعب لكن بعد وقت يختفي الطفل وثانيهم صبي كل ما يفعله هو الحب فيلتقي فتاة أحبها ولكنهما اختفيا أيضا في يوم واحد، يسير بعد ذلك ليري رجل في منتصف العمر ليسأله ماذا تفعل؟ أجاب أعمل هنا دائما، لتعمل معي وجاءت زوجته وأولاده ليساعدوه في العمل ولكن في لحظة اختفي كل هذا من حول الرجل ليتحول شعره للرمادي لكنه يظل يعمل لأنه لا يمكنه التوقف، تركه وسار فوجد رجل عجوز يجلس علي شجرة فسأله ماذا تفعل ؟ فأجاب: أتذكر لكن الأمر لم يدوم . يستخدم ديكنز تيمة عالمية وهي فصول السنة من خلال لقائه يعبر ديكينز عن مختلف مراحل الحياة التي يحياها الانسان فيبدأها باللهو واللعب في الصغر ويسير ليجد الشباب والحب لكنه لا يدوم طويلا ليأتي بعده الجهد والكدح وينتهي مع الشيخوخة ولا يتبقي من الحياة سوي الذكريات ، فصول السنة هذه التيمة العالمية تضفي علي العمل بعدا إنسانيا عميق ومن هنا استقي حجازي مما هو عالمي ليحوله لرؤية خاصة محلية بدولة كروسيا إلي جانب احتفاظه بالبعد الإنساني من خلال رصد مراحل حياة شاب روسي. تقنيات سينمائية تناص حجازي مع النص الأدبي لديكينز وأوضح ذلك سواء علي المستوي الضمني المفهومي وكذلك علي المستوي البصري، فعلي المستوي الضمني كما ذكرنا سابقا تيمة الفصول، كذلك فكرة السير ورحلة الحياة، فالطريق مشترك ما بين البطلان - القصة والفيلم- فكل منهما يبدأ من النهاية، كذلك كذلك كل منهما هائم علي وجهه في الأرض ولا يعرف مكانه .. فقط الطريق هو مكانهما . مسألة الطريق هي من أهم العناصر النتاص خاصة لأن العمل لدي حجازي قائم علي العودة وهي طريق في ذاته، لهذا يظل يسير إلي ما لا نهاية وهذا ما يصدره في الفيلم في النهاية فطريقه مازال طويلا وغير واضح المعالم. كذلك يوضح حجازي مسألة الزمن واللعب به بشكل بارع من خلال التداخل الزمني والذي ينفي صفة الترتيب المنطقي للحدث لكنه يخلق في النهاية رؤية متكاملة وخاصة، فيمزج بين الماضي والحاضر في انتظار مستقبل مجهول، كذلك هو حال بطل قصة ديكينز . فيتلاعب بالسرد بما يتوافق مع فكرة الاستياق من الذاكرة بحسب الحدث المناسب لها . لكن هناك فرق يختلف في التناول السينمائي وهو الراوي الذي استعان به حجازي في عمله، فالراوي هنا هو البطل ذاته، وبهذا نحن بصدد رؤية ذاتية وخاصة فنري بعين البطل ونسمع بأذنيه وبهذا فهو يضعنا داخل خياله وذاكرته لانها ذكرياته الخاصة . قضايا وموضوعات تطرق حجازي للعديد من الموضوعات ، لأن ديكينز يتناول الحياة بمنظور تشاؤمي من خلال التأمل في الوجود الإنساني، فحجازي ينظر للإنسان في إطار المجتمع المحيط به ومدي تأثيره عليه، لهذا لابد من التواصل مع المجتمع الذي يدور في فلكه، فيطرح شخصية شاب روسي ومراحل حياته بما تحويه من تقلبات، نتيجة لما طرأ علي المجتمع الروسي من ملامح جديدة كالعولمة والاحباطات السياسية وتراجع دورها عالميا مما انعكس بدوره علي المواطنين فظهرت ملامح عدة منها انعدام الهوية والبطالة وحقد والجريمة، ليظهر مجتمع مشوه بالنهاية فماضيه تلاشي وحاضره تحطم ومستقبله مجهول . وحتي نقرأ الفيلم بشكل صحيح وكامل لابد من معرفة الظروف التي نشأ بها هذا الشاب ونبدأها من نهاية الحرب علي أفغانستان والتي عاد والده من حرب دامت عشر سنوات من 25 ديسمبر 1979 : 15 فبراير 1989، نتائج هذه الحرب غيرت ملامح خريطة العالم وبالتالي دوله كروسيا، في هذا الوقت كان يطلق عليها "الاتحاد السوفيتي" ولم تكن هزيمة الروس في الحرب علي الافغان هي اللطمة الأخيرة لكنها كانت بداية طريق النهاية لهم والذي أنتهي في 25 ديسمبر 1991 بتفتيت الاتحاد السوفييتي . كما يسرد البطل يعود الأب من حرب دامت عشر سنوات وهو لا يعرفه فمن خلال الحرب يطرح قضية هامة وهي العزلة ما بين الحيل الأول - الاباء- والجيل الثاني - الأبناء- وبهذا تقتل أي صلة فيما بينهم وتصبح علاقة متوترة لا يعرف فيها كل منهما الآخر، وهنا يفقد الابن التوجيه الأبوي، فيظل وحيدا وكذلك دور الأب لديه فارغ دائما . كذلك يعود الأب محمل بروح الهزيمة وذكريات بائسة ينغلق عليها، فلا أمل أو عمل وكما ما لديه هو ذكريات وبذلته العسكرية والتي تعزله عن العالم وحينما يصدم بالواقع ينهار وينكمش داخل عالمه الصغير لأنه يكتشف غربته عنه ويتسأل إين بلادي وحياتي ؟، لهذا يتمسك اكثر بماضيه وهذا ما تبقي له . أما الابن فنجده تائها في عالم كبير منهار يدفعه دفعا للجريمة فالبطالة هي الطريق أمامه ولا مجال للحب لأنه يعد من الرفاهيات لهذا يتجه للجريمة وتظل هي السبيل الوحيد والذي يذكره البطل أنه كالمستنقع كلما نزلت به تغرق ولا مجال للعودة . فتولد عن هذه الظروف نموذجان من المواطنين الأول عاجر عن الفعل لهذا يهرب وينغلق علي ذاته وتصبح حياته مجرد ذكريات في محاولة منه لعدم الانغماس في الواقع المألم، وآخر يهرب للواقع ويغرق به حتي لا يكون هناك مجال للعودة، وفي الحالتتين هما شخصان محطمان لا يمكن بناء مجتمع صحيح من خلالهما، فلا العزلة أو عالم الجريمة هو طريق لبناء المجتمعات. من أهم القضايا التي يطرحها حجازي في الفيلم هي قضية الإيمان والاعتقاد التي يقع بها المجتمع الروسي، فلم يكن تفتيت الاتحاد السوفيتي فعل سياسي فحسب وإنما أثر علي جميع مناحي الحياة وكذلك الأفعال، فبعد العيش في عام لا يعترف بإله إلي عالم يصبح الإله جزءا منه، لا يمكن لشخص أن يسير علي درب ويغيره في لحظة، مما يخلق ازدواجيه بداخل هذا المجتمع، فرغم محاولات الثبات لكن المعوقات كثير . لا ينظر حجازي لروسيا كدولة في مصاف الدول الكبري وإنما ينظر للمواطن الروسي وما آل إليه في هذه الظروف، لهذا تبرز معاناته ورحلته في الحياة والتي تمثل رحلة ضياع وليست حياة، فالضباب يغيم علي هذه الحياة كما هو حال البطل . كذلك كما طرح ديكينز بطله دون أسماء لتدعيم البعد العالمي فعل حجازي مع بطله فلا أسماء أو ألقاب لا سوي هو ذاته وبهذا فهو يعكس حال جميع مواطني روسيا وليس فرض بعينه . قضايا واقعية برؤية سيريالية رغم الغرق في الواقعية وطرح قضايا معاشة داخل المجتمع ولكنه يضفي عليها لمسة فنية تلائم ما يطرح فالرؤية السيريالية في ذاتها تهتم بالذات والنفس التي تعبر عن ما بداخلها وهذا ما فعله حجازي . من خلال خلق حالة الحلم والتذكر والغرق في الذاكرة عن طريق مواقف غير متصلة بخط زمني واحد لكنها مكملة لبعضها فيخلق في النهاية كولاج للوحة لا نفهمها حتي نجمعها، ولم يتوقف الأمر حد السرد وإنما تطرق لجماليات الصورة المرئية، فاستخدم أسلوب الرسوم المتحركة غير الواضحة في بعض الأحيان مما يدعم الغموض والترقب طوال العمل، فهناك دائما مجهول. اتسمت الصورة بالتجانس والتناغم فاللعب بالألوان خلق حالة تلائم كل لحظة فهناك مشاهد تغيم العتمة عليها وتدعم حالات الترقب وكذلك مشاهد الجريمة ، وأخري بها الألوان زاهية خاصة في مرحلة الطفولة ومشهد البحر، مما يعكس البهجة والتي تتلائم مع هذه المرحلة. اتسمت الصورة بالحساسة الشديدة خاصة في استخدام الكاميرا وتنوعها في اللقطات والتي عبرت وأوضحت كل المشاعر التي تحملها المشاهد . تضافر هذا مع عمل المونتير وربطه للمشاهد معا والذي لعب دورا هاما في تحديد إيقاع العمل، رغم قصر مدة العمل وهي 38 دقيقة لكنه طرح موضوعات مهمة وكثيرة استعرضها بشكل عميق ومكثف . استخدم حجازي جزء من الفولكلور الروسي وهو "الغجر" وغنائهم ويوظف عملهم المشتهرين به وهو التبصير في مشهد مهم لحظة قراءة الغجرية طالعه ونعرف في النهاية أنها والدته ليس إلا . لكن عودته لهم تعد عودة للجذور والأصول. لا يمكن إغفال التمثيل في العمل والذي كون روح العمل ككل بالتضافر مع عناصر العمل كاملة، بداية من الراوي والذي كون خلفية للحدث المرئي، لعب "إيهاب حجازي" دور البطولة ونجح في عبور حواجز اللغة م خلال عملية الدوبلاج والذي تضافر مع عمل الممثليين، كما حدث في دور الأب والذي لعب دوره " أشرف سرحان " وهو ممثل مصري، رغم تنوع جنسيات القائمين علي العمل لكنه أوضح البعد الإنساني وعمقه أكثر . يتسم العمل بلحظات مميزة وهي لحظات الصمت والتي تزيد من حالة الترقب والتأمل في اللحظة الحالية والتعمق بها وكذلك تدعم خيال المشاهد لما يراه أمامه . لعبت الموسيقي ل"فيكتور أجرانوفيتش " دور مهم رغم عدم وجودها كثيرا وهذا يدعم التفكير وتحفيظ عقل المشاهد لكنها كانت مؤثرة في لحظاتها وتنوع استخدام الالآت بحسب المواقف والحالة فمثلا في لحظات الطفولة استخدم الآت وترية مرحة، علي عكس الالآت الإيقاعية في مشاهد الترقب والجريمة . لا نستمع لأصوات خارجية فنحن داخل ذاكرة البطل التي تتذكر الحدث ذاته وليس ما يحيطه من أجواء . إنجازات يعد حجازي من الوافدين الجدد علي العمل السينمائي فرغم حبه للفنون منذ الصغر وتخرجه بعد ذلك كلية الفنون الجميلة جامعة الاسكندرية عام 1999 بعد التخصص في الفنون التعبيرية للسينما والمسرح، لم يكتفي وسافر لروسيا لدراسة الأخراج السينمائي علي يد المخرج الروسي الشهير " فلاديمير خوتينينكو" . قهو مخرج ومنتج وكذلك بطل العمل الذي نحن بصدده ألآن " طريق العودة" لكنه حقق الكثير من الأمور وهذا يظهر في الجوائز التي حصدها العمل ومنها جائزة ابتكار في السينما من قصر السينما في مصر في مايو 2011، إيضا حصل علي الجائزة الفضية في مهرجان كاليفورنيا في أطار مسابقة أفلام الطلاب، إلي جانب مشاركته في أطار مهرجان جوته للسينما المستقلة مايو 2011، وإيضا غلين روز السينمائي في تكساس بالولايات المتحدةالأمريكية في سبتمبر 2011 . مع اللحظات الأخيرة التي نشهدها بالفيلم نظل نفكر هل سيصل البطل لطريق لعودته فعلا ؟ هل سينجح في العودة؟ ما الخطوة الأتية؟، الفعل هي أسئلة هامة تطرأ علي عقلية مشاهدة الفيلم كما هو حال السينمائيين الذين يتسألون ما هو الآتي من إيهاب حجازي، خاصة بعد البداية القوية التي شهدتها السينما بفيلمه "طريق العودة".