ما إن يهل هلال مهرجان القاهرة السينمائي حتي تتكاثر الأسئلة من عشاق السينما وفضوليها عما يجب أن يري.. وأن يسعي إلي مشاهدته من ال450 فيلما الذين يعرضون في التظاهرات المختلفة. ويشعر الناقد بالحرج الكبير في اختيار اسماء هذه الأفلام والدعوة لرؤيتها علي مسئوليته لأنه يعرف مدي اختلاف الأذواق وتضاربها .. ومدي تأثير الأفلام الأمريكية التي يراها طوال العام والأفلام العربية علي ذوقه وتحديد اختياراته، لذلك لا يبدو لي هذا الفضول السينمائي والرغبة في اكتشاف سينما جديدة في مواضيعها وأسلوبها ورؤيتها المميزة أمراً يسعي إليه بقوة. مشاهدة غير شرعية ولكن رغم هذا التحفظ نجد من واجبنا الإشارة إلي عدد من الأفلام المهمة التي قدمها المهرجان من خلال تظاهراته المختلفة من مسابقة رسمية إلي مسابقة عربية إلي مسابقة ديجتال إلي معرفي عيون العالم إلي دور المهرجانات العالمية، وقد يكون الوقت قد فات حقا علي القارئ.. عند نشر هذا المقال.. ولكن عليه أن يسعي إلي رؤية بعض هذه الأفلام لو كان مقتنعا برأي الناقد .. وهذا من الأمور التي أصبحت متاحة بسهولة الآن .. مع شيوع الإنترنت والتسجيلات الكثيرة «الشرعية منها والمسروقة». إذا نظرنا بادئ الأمر إلي المسابقة الرسمية.. فإن أول ما يجب أن نقوله هو الثناء من القلب علي مجموعة الأفلام التي اختيرت للتسابق .. حتي وإن غاب الفيلم الأمريكي عنها، هناك أفلام كالعادة من إيطاليا وفرنسا وروسيا.. تجاورها أفلام من بلغاريا واليونان والمجر وإيرلندا وبولندا وسويسرا وتركيا. ومن الجانب الآسيوي هناك فيلم من الفلبين فقط وغابت الصين واليابان لتظهرا في مسابقات الديچتال.. وفي مهرجان المهرجانات، حيث حظيت الأفلام الآسيوية بمقام كبير تستحقه. المسابقة الرسمية ضمت إذن فيلما مجريا لسيد السينما المجرية «ميكلوس ياتشكو» وهو واحد من أعظم سينمائيي العالم الأحياء .. الفيلم يدور في الأجواء المعتادة التي يعيش فيها إبداع هذا المجري الكبير.. الأعياد القومية وحروب الاستقلال.. والعادات الفولكلورية .. والرقص الذي يتداخل مع الدراما في نسيج مدهش ومؤثر. اسم الفيلم « من أجل العدالة» ويحمل في مضمونه كل ما كانت تهتف به أفلام ياتشكو الأخري «الدفاع عن كرامة الإنسان وحس الاستقلال الوطني .. وعشق الجذور والعودة إليها والتمسك بها .. سواء من خلال المشاهد الملحمية التي تتميز بها أفلام «ياتشكو» أو هذه الشاعرية الدافئة المؤثرة في الصورة والتكوينات. وهناك الفيلم الايرلندي - البوسني المشترك «كما لو كنت هنا» والذي يعالج مأساة مدرسة شابة تعين في مدرسة بعيدة في البوسنة وتواجه احتلال القوات الصربية لهذه المدينة في اليوم التالي لوصولها، والقبض علي جميع رجالها من قبل الجيش الصربي.. وإعدامهم جميعا .. فيلم يذهب بعيدا جدا في صراحته وصرامته وشاعريته .. ويعتبر شهادة لا تنسي عن هذه الحرب الوحشية. قفزة جديدة « رسالة لا تنتهي» الهندي قفزة جديدة في السينما الهندية التي تخرج عن عاداتها الثابتة «الميلودراما والرقص والغناء» لتخوض باثنسيه ممثلة تقدمت في السن وتحاول التلازم مع أنواع الحياة التي تسبقها. انه بشكل أو بآخر تنويعة شرقية هندية علي ما قدمه «جوزيف مانكفتشي» في فيلمه الشهير «كل شيء عن حواء» الذي مثلته وأبدعت فيه بيتي دافيز. ممثلنا المصري الشاب «عمرو واكد» يلعب دورا نفسيا معقدا في الفيلم الإيطالي «الأب والغرباء» ويثبت قدرة ممثلينا علي الوقوف نداً لند مع كبار ممثلي أوروبا .. دور يحتاج لعمق خاص ورقة في الأداء مع عمق في التعبير استطاع «واكد» أن يجمع بينها كلها بطلاقة وموهبة. أما الفلبين .. فتقدم علي طريقتها فيلما استعراضيا واقعيا «أمير» يخلو تماما من الحوار والذي استبدله الفيلم بالغناء .. كما فعل المخرج الفرنسي «جاك ديمي» بفيلمه الشهير الذي حاز علي السعفة الذهبية في مهرجان كان «مظلات شربورج». التحفة السينمائية الحقة تأتينا من سيناريو روسي عبقري باسم «من أنا» والذي يتفنن كاتبه في خلق جو التيه البوليسي المعقد.. ويغرقنا بأمواجه المتلاطمة حتي لا نكاد نلتقط أنفاسنا. إنه بعث حقيقي لسينما روسية منطلقة تخلت عن «كوابيسها» واتجهت نحو أفق أكثر رحابة وتطلعا. سويسرا تقدم في «المتوحشة» صورة شديدة القسوة عن السجون التي توضع فيها النساء المهاجرات غير الشرعيات والموقف الحكومي المتعسف تجاههن والذي يخلو تماما من أية رحمة أو إنسانية. بينما تقدم السينما الفرنسية نجمتها الكبيرة إيزابيل هوبير في فيلم واحد يجمع بينها وبين ابنتها. أما مصر فتلتقط أنفاسها في فيلم خالد الحجر الأخير «شوق» الذي ربما يكون خير أفلامه حتي هذا التاريخ والذي يمنح سوسن بدر فرصة عمرها في دور أم .. تفعل المستحيل كي تزوج بناتها.. دور لن يدهش أحداً.. إذا أدي بها إلي الفوز بأحسن ممثلة في هذا المهرجان الدولي. فيلم «شوق» يقودنا إلي مسابقة الفيلم العربي .. حيث يشترك أيضا مع مجموعة من الأفلام الأخري من ضمنها فيلم «ميكروفون» لأحمد عبدالله الذي فاز بالجائزة الكبري في مهرجان قرطاچ لهذا العام «أول فيلم مصري يفوز بهذه الجائزة منذ عشرات السنين ومنذ فيلم الاختيار ليوسف شاهين إذا لم تخني الذاكرة». مصر لها أيضا فيلم ثالث شديد الطموح هو «الطريق الدائري» لتامر عزت والذي يتحدي نجومه الشباب وميزانيته المتواضعة .. الأفلام التجارية المصرية الكبري. فيلمان من العراق وتشترك العراق في هذه المسابقة العربية بفيلمين الأول هو «ابن بابل» الذي حصد أكثر من جائزة في أكثر من مهرجان قبل أن يصل إلي ضفاف النيل.. وفيلم آخر شديد الشاعرية والقسوة معا هو «حمي الغربان» الذي يقدم فيه مخرجه حسن علي خدعا سينمائية مبهرة تشابه خدع هيتشكوك بفيلمه الشهير «العصافير». المغرب .. تقدم تنويعة أخري إن لم أقل تتمة لفيلم «البحث عن بازوليني» لمخرجه داوود أولاد سيد من المخرج نفسه الذي يناقش فكرة هدم جامع أقيم كديكور للفيلم السابق، ولكنه أصبح فعلا جامعا يؤمه الناس للصلاة.. يحق لصاحب الأرض هدمه بعد أن انتهت خدمته الفيلمية، فيلم يناقش من خلال الكوميديا أموراً تمس الدين والمجتمع وموقف الناس منها سلبيا وإيجابيا. ولا أظنني سأكون شديد الحماس للفيلم السوري «مرة أخري» للمخرج جواد سعيد والذي كان بأكثر من مهرجان عربي قبل أن يصل إلينا وإن كنت أفضل عليه بكثير الفيلم السوري الخاص «2/1 نيكوتين» للمخرج الشاب محمود عبدالعزيز لما يتميز من جرأة وابتكار وكسر مدروس للتابوهات الأخلاقية والدينية، كذلك الأمر في فيلم «آخر ديسمبر» التونسي الذي يحاول أن يلقي نظرة جديدة علي العلاقة بين الشرق والغرب، من خلال قصة حب تنقصها الجدة والطرافة. أرض الاكتشافات فيما يتعلق بمسابقة الديجتال التي أعتبرها «أرضا للاكتشاف» لظهور مخرجي المستقبل والتي تحمل في طياتها كل بذور الأمل في سينما جديدة ومستقلة وبعيدة عن تأثير النجوم الكبار والحس التجاري المبتذل الذي بدأ يسيطر بقوة علي إنتاجنا السينمائي. هناك فيلم «الباب» المصري لمخرجه محمد عبدالحافظ والذي يستطيع بمهارة المحترفين الكبار أن يرسم عالما بوليسيا غامضا له اصداء ميتافيزيقية محسوسة وأن يمسك بانتباه المتفرج خلال ساعتين تقريبا معتمدا علي ممثلين فقط - وعلي ديكور صغير لا يتغير. مغامرة سينمائية شجاعة تحسب لصاحبها بقوة وتجعلنا نأمل كثيرا منه في أفلام قادمة إلي جانب فيلم فلبيني بعنوان «المجندون» يروي مأساة شديدة القسوة عن مجموعة من الشباب يتم اختيارهم وتدريبهم تدريبات شاقة للقيام بعملية «إرهابية» لا يعلمون عنها شيئا، وعندما تتغير الخطة يواجهون مصيرا غامضا مأساويا . فيلم مدهش سيثير الكثير من الجدل والنقاش.. لرموز السياسة وروح التحدي التي تملأ مشاهده. قصص الجانب الشرقي وهناك أيضا الفيلم المجري «قصص من الجانب الشرقي» الذي يقدم أربعة اسكتشات مختلفة لأربعة مخرجين كل منهم يحاول أن يدافع عن تيمة اعجبته وآمن بها.