علي الرغم من معوقات الرقابة ومحدودية الإمكانيات استطاعت السينما الإيرانية أن تفرض نفسها علي ساحة السينما العالمية بقوة منذ عقدين من الزمان. بل وأصبحت تتمتع بخصائص محددة وشخصية فريدة مؤثرة تجعلها أشبه بامتداد للموجة الجديدة الفرنسية، التي أثرت في السينما عالمياً في الخمسينات والستينات. وأصبحنا نسمع كل يوم عن إنجازات ونجاحات وتكريمات لها. فالفيلم الإيراني أصبح منافساً خطيراً في مختلف المسابقات الدولية للمهرجانات الكبري. تصيبنا هذه المكانة التي تحققت لسينما شرقية بإحساس بالقلق علي الفيلم المصري الذي مازال وجوده علي الساحة العالمية محدودا بنجاحات فردية وجهود بالغة دون إنجاز يتناسب مع تاريخه العريق. وعلاوة علي هذا قد يري البعض أنه في ظل السيطرة المتوقعة للأحزاب الدينية علي الساحة في مصر يصبح من الواجب استلهام التجربة الإيرانية والنظر إلي ما حققته في ظل التجربة الإسلامية. فهل من الممكن أن تطرح السينما الإيرانية حلولا للفيلم المصري في مواجهة ظرف جديد من المتوقع أن يكون متشددا؟ قبل الخوض في تاريخ الفيلم الإيراني علينا أن نعلم أن للسينما المصرية وضعاً في منتهي الخصوصية بين السينمات العالمية تسويقيا وإنتاجيا. فهي صناعة كادت أن تكون احتكارية في المنطقة لأكثر من نصف قرن. ولا شك أن هذا ساعدها لتلعب دورا مؤثرا في تشكيل وعي الجماهير في حدودها وخارجها بامتداد وطن عربي كبير تسيطر عليه الأمية. وبهذا بدت السينما المصرية كسفير فوق العادة للفن المصري في المنطقة مع أجيال متلاحقة من مواطني أوجه شبه، أما الفيلم الإيراني فعلي الرغم من رواجه التجاري في أسواقه المحلية وغزارة إنتاجه وجوائزه ونجاحاته في المهرجانات الدولية إلا أن توزيعه التجاري لم يتجاوز في معظم تاريخه حدود بلاده. وإذا كان الفيلم الإيراني يتيح بأسلوبه الواقعي الموغل في المحلية الفرصة لأي مشاهد في العالم للتعرف علي هذا المجتمع المنغلق عبر العروض الثقافية ، إلا أن الممول الأساسي لهذا الفيلم يظل مواطنيه الذين تجمعهم حدود واحدة ودولة واحدة. ولكن رغم هذه الاختلافات تظل هناك بعض أوجه الشبه التي تجمع بين أفلامنا وأفلامهم. يقول الناقد الفرنسي جي هونيبال في كتابه عن السينما العالمية إن الإنتاج السينمائي يوجد منذ القدم في إيران وعرف الازدهار في أواسط الأربعينات حين كانت توجد أكثر من 540 قاعة عرض تقدم إلي متفرجيها مختلف أصناف الأفلام بما فيها الثمانون شريطا التي كانت تنتجها الشركات المحلىّة . ويري المؤلف أنها كانت رديئة من جميع النواحي إذ هي أنتجت لمتفرّجين جلّهم من الطبقة الشعبىّة التي تبحث عن الإثارة سواء الأفلام المثيرة عن بطولات صبيانىّة تثير الاستهزاء لبلاهتها أو العاطفىّة الغارقة في الميلودراما. وهذه السينما تشبه في تصميمها العام السينما المصرية التي عاصرتها إذ لابدّ من إقحام ثلاث أو أربع رقصات شرقية في الفيلم مهما كان صنفه، ذلك أن البطل مهما كانت مهنته لابدّ أن يدخل المرقص حتي وهو في طريقه لتنفيذ أخطر عمليات الأخذ بالثأر. الجار الهندي وقد تأثرت السينما الإيرانية كثيرا في بداياتها بالسينما الهندية بحكم الجوار وقوة الانتشار والتشابه في بعض العادات والتقاليد كمجتمعات شرقية تجمعها ثقافات متقاربة. ولكن الفيلم الإيراني سرعان ما استطاع أن يحقق لنفسه شخصيته المستقلة، وإن كانت هذه الشخصية قد اصطبغت بالطابع الغربي نتيجة لانفتاح الشاه علي الجانب الآخر من العالم وعلي أمريكا تحديدا. كانت السينما هناك تبدو اقرب للنمط العصري وللنموذج الأمريكي الذي كانت تسعي للتشبه به في مختلف المجالات، لكن في ظل هذه الظروف أيضا ظهرت موجة جديدة من المخرجين الإيرانيين الذين ابتدعوا تقنيات جديدة في السينما ولم يخشوا من النقد الاجتماعي. ومن أهم أفلام هذه الفترة، فيلم "البقرة" 1969، الذي أخرجه داريوش مهرجوئي والذي تم منع عرضه في إيران لعرضه صورة من الواقع لم ترض النظام. حققت السينما الإيرانية حتي منتصف السبعينات أفلاما راقية المستوي، كان من أشهرها فيلم بهرام بايزائي "أكثر غربة من الضباب" 1975 وبعد سنوات التألق شهد الفيلم الإيراني حالة من التراجع فنيا ربما لأسباب تتعلق بالتشدد الرقابي وكبت الشاه للحريات والقيود الشديدة علي الأفلام في التعبير السياسي أو النقد الاجتماعي. بعد الثورة ومع قيام الثورة الإيرانية في عام 1979بدا الخطر علي السينما أكبر، مع تعالي صيحات المتشددين الرجعيين باعتبار هذا الفن رمزاً من رموز النظام السابق ونتاجاً رديئاً للانفتاح علي الغرب، لما تضمنته هذه الأفلام من عري مفرط وما كانت تحفل به من مشاهد عاطفية ساخنة. ونتيجة لذلك تم إحراق أكثر من 180 دار عرض سينمائية مات خلالها أكثر من 400 شخص في موجة غضب عارمة. علي التوازي تزايدت أيضا الرقابة وتشددت في موانعها الدينية والأخلاقية إلي حد اختفاء النساء من المشهد السينمائي إلي حين . في خلال اشهر قليلة فرض النظام الجديد مجموعة من القواعد غير المكتوبة: يجب الاّ يتعاطف المشاهد مع المجرم او مرتكب الخطيئة، عدم تصوير تهريب المخدرات اطلاقا، احترام الزواج والعائلة، عدم التطرق الي الخيانة الزوجية، تحريم الحركات الملتبسة، لا تلامس بين الرجل والمرأة (حتي بين الزوجين)، تفادي المواضيع "المبتذلة" او "المزعجة"، منع الشتائم منعا باتا، عدم تصوير رجال الدين بصورة مضحكة او غير مستقيمة. ولكن إصرار فناني السينما هناك علي الاستمرار رغما عن هذه القيود أدي إلي ظهور بعض الأفلام المتميزة التي عادت للظهور علي استحياء مع بداية الثمانينات كفيلمي بهرام بايزائي "نشيد من تارا عارمة " 1980، و"موت يازديجيرد" 1982، وفيلم أمير نادري "البحث" 1982، وإن كانت هذه الأفلام قد حظر عرضها داخل البلاد. فلم تشكل القيود إلا دافعا للسينمائي الإيراني لمواجهة الأزمة والإبداع في إطار هذه المستجدات والقيود الملزمة. دعم إسلامي لا تقل أهمية تجربة الفنان الإيراني مع السينما بعد الثورة عن أهمية دور الدولة في دعم هذه الصناعة. والخطير في الامر أن التيار المدني امكنه هنا مقاومة هذا الزحف الديني وتطويعه لخدمة مشروع سينمائي حضاري. أنشأت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران «مدينة سينمائية» جندت لها كل الطاقات ورءوس الأموال، ووفرت لها أحدث المكتشفات التقنية والتكنولوجية المتطورة كما هو الحال في استوديوهات هوليوود، بذلك تكون وزارة الثقافة قد أعدت الأرضية اللازمة للسينما الإيرانية خلال السنوات التالية، كما أنها أتاحت الجو اللائق للمخرجين حتي يبدعوا في انتاجاتهم وفتحت وزارة الثقافة هذه المدينة لكل المخرجين الإيرانيين من دون استثناء وبأرخص الأثمان في العالم. ويقوم بالإنتاج السينمائي المخرجون بصفتهم منتجين منفذين ويحصلون علي الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها، وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الدولة بتوزيع الأفلام داخلياً وخارجياً وأسست أرقي وأكبر عدد ممكن من دور السينما، ففي طهران وحدها أكثر من 100 قاعة سينمائية. وأبرع ما في ذلك أنها تعتمد في تصوير الكثير من الأفلام علي كاميرا الفيديو الرقمية المحمولة علي الكتف (أغلب الأفلام الإيرانية تنتج بأقل من 200 ألف دولار وتحصد الأرباح الكثيرة مثل فيلم (أطفال الجنة) الذي حقق أرباحاً تتمثل في المليون دولار من أمريكا وحدها!). الخلاص من النجوم الثورة السينمائية الأصعب في إيران كانت في القضاء علي نظام النجوم. فأهم ما يميز السينما الإيرانية اليوم أنها ليست سينما نجوم، فمعظم أبطالها ليسوا ممثلين محترفين. وأصبح المخرج هو القائد الحقيقي دون اي تدخل في عمله او خضوع لشروط يفرضها النجم أو غيره. وأصبح السيناريو هو البطل الذي يحظي بالعناية والاهتمام الأكبر. فيجري تطوير الدراما علي مهل لتحمل الصورة عمقا فكريا وثراء بصريا. وتعبر عن استيعاب لأحدث الأساليب الفنية مع استلهام لتراث وثقافة فكرية محلية عظيمة ، فهي دراما تقف علي أرض صلبة وخلفية فكرية تناسب أمة أنجبت حافظ الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي. تكشف السينما الإيرانية في العديد من افلامها لنا عن معين لا ينضب من الإبداع الجميل ومن القدرة علي تقديم حكايات وموضوعات مبتكرة أوأفكار قديمة بمعالجات جديدة. سينما تقترب من الإنسان وتتغلغل في عمق مشاعره وأحاسيسه كما تعبر الصورة عن جمال الأشياء والأماكن رغم بساطتها ودون الاعتماد علي أي تقنيات معقدة أو أساليب مبهرة ..إنه جمال الحياة والكون والمخلوقات والإنسان الذي كرمه الله كما كرمته هذه السينما المدهشة. حصاد وافر جوائز دولية يصعب حصرها ومنها الاوسكار التي حازها المخرج مجيد مجيدي 1998 والتي عادت إيران لتحصدها مؤخرا عن الفيلم التحفة انفصال لأصغر فرهادي. كما سبق أن اهدي مهرجان آن السينمائي جائزتة لعباس كيرو شامي لفلمه طعم الرز. وحصلت افلام إيرانية عديدة علي جوائز دولية منها. النمرالذهبي في مهرجان لو ارنو في 1997م لجعفربناهي عن فيلم (المرآة).. أفضل فيلم في مهرجان القارات الثلاث في نانت بفرنسا في 1996 للمخرج أبوالفضل جليلي عن فيلم (قصة واقعية). جائزة الأميرا الذهبية في مهرجان آن السينمائي الفرنسي في 1995 للمخرج جعفربناهي لفيلمه (البالون الأبيض). جائزة روبرتو روسوليني في مهرجان أن السينمائي الفرنسي وأيضا جائزة فرانسوا تروفو في مهرجان فيلم جيفوني الإيطالي في 1992 لعباس يارستمي تكريما له علي مجمل اعماله السينمائية. لا نرجو للسينما المصرية أن تعاني القيود الرقابية التي تعانيها السينما في إيران. والنموذج الإيراني بالتأكيد هو ليس النموذج الملزم للفيلم المصري الذي سبقت الإشارة إلي ظرفيته الخاصة. ولكنه بالتأكيد احد النماذج الجادة والملفتة في حركة السينما في العالم التي تكشف عن وجودها بقوة أيضا في تركيا واليونان والعديد من دول أوروبا الشرقية. هذه السينمات التي استطاعت أن تنفض عن نفسها غبار الفيلم الامريكي وثقافته وسيطرته علي الفكر والصورة والخيال في طمس مستفز لتراث الأمم وعاداتها وتقاليدها. ولكن مما لاشك فيه أن هناك دروسا كثيرة في التجربة الإيرانية علي وجه الخصوص يمكن الاستفادة منها سواء في إجبارها للفنان علي تجنب المشهيات التقليدية والبحث عن إبداع اصيل وصادق أو في اساليب الإنتاج والاقتصاد والاعتماد علي الإنتاج قليل التكلفة بكاميرات رقمية أصبحت تجتاح العالم. والاهم من هذا في دور الدولة التي امكنها في احلك الظروف المتشددة أن تدرك قيمة فن السينما وأن تدعمه دعما حقيقيا عن إيمان صادق بأهمية دور هذا الفن وضرورة توظيفه في خدمة نهضة حديثة. هذا إذا كانت هناك نية صادقة في هذا.