عباس شراقي يكشف أسباب الزلازل المتكررة في إثيوبيا    غداً.. انطلاق الأسبوع التوظيفي ل جامعة عين شمس    وزارة البترول تكشف أسباب زيادة أسعار البنزين والسولار    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 19 أكتوبر 2024    حكومة نتنياهو ستصوت على مقترح يتعلق بتوزيع شركات أمريكية الطعام بشمال غزة    "حزب الله" يستهدف قاعدة "فيلون" الإسرائيلية بصلية صاروخية    بيونج يانج : عثرنا على حطام مُسيرة عسكرية كورية جنوبية    مائل للحرارة والعظمى على القاهرة 29.. حالة الطقس اليوم    اليوم.. محاكمة إسلام بحيري لاتهامه بصرف شيك دون رصيد    مشهد صادم للجمهور.. اختراق هاتف إعلامي مصري على الهواء مباشرة (تفاصيل)    تكريم الفنانة بدرية طلبة خلال حفل افتتاح مهرجان المسرح العربي    الشيخ أحمد كريمة يوجه رسالة لمطرب المهرجانات عمر كمال    حرق الدهون: 10 مشروبات تساعد على إنقاص الوزن سريعًا    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف سالي فؤاد.. طريقة عمل سلطة الفاصوليا الخضراء    موعد مباراة نادي قطر أمام الوكرة في الدوري القطري والقنوات الناقلة    أسعار الذهب في مصر تقفز لأعلى مستوى منذ فبراير    أسعار الحديد اليوم السبت 19 أكتوبر 2024 في مصر.. طن «عز» يسجل 42 ألف جنيه    6 سنوات عمل سياسي| «التنسيقية».. استراتيجية جديدة للانتشار والتفاعل وزيادة الكوادر    في أول مشروع لمراكز الادخار المحلية.. نجحت «ميت غمر» وفشلت روسيا وأمريكا!    تفاصيل مقترح قانون جديد لمكافحة المراهنات    إجازة 10 أيام.. مواعيد العطلات الرسمية في شهر نوفمبر 2024 للموظفين والبنوك والمدارس    المخرج عمرو سلامة لمتسابقة «كاستنج»: مبسوط بكِ    رئيس شعبة البيض: البيع بالمزرعة يتم حسب الوزن.. ونطالب بوضع معادلة سعرية    ما هو مكر الله؟.. الإفتاء تحذر من وصفه تعالى به وتوضح 7 حقائق    ترامب يعلق على اغتيال السنوار.. ماذا قال عن «بيبي»؟    ملف يلا كورة.. الأهلي إلى نهائي إفريقيا لليد.. استعدادات أندية السوبر.. ومجموعة قوية لسيدات مسار    تجمع «بريكس» يدعم إنشاء تحالف للطاقة النووية    موعد فولهام ضد أستون فيلا في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    دونالد ترامب: موت السنوار يجعل آفاق السلام أسهل في غزة    الاستعلام عن صحة شخص سقط من قطار بالبدرشين    شباب السوالم يفوز على الرجاء بهدفين في الدوري المغربي    التقديم في سند محمد بن سلمان بالسعودية 1446    «مينفعش الكلام اللي قولته».. إبراهيم سعيد يهاجم خالد الغندور بسبب إمام عاشور    بسبب الأجرة.. ضبط سائق تاكسي استولى على هاتف سيدة في القاهرة (تفاصيل)    أحمد سليمان: طريق الأهلي أفضل.. ولكننا نحب التحديات    بلومبيرج: توقعات بارتفاع ناتج حصاد الكاكاو في كوت ديفوار بنسبة 10%    بعد إرتفاع سعر أنبوبة البوتاجاز.. حيل لتوفر50% من استهلاك الغاز في مطبخك    وزير الخارجية التركي يعزي حركة حماس في استشهاد السنوار    دورتموند يعود لطريق الانتصارات بفوز على سانت باولي في الدوري    كيف تطور عمر مرموش مع آينتراخت فرانكفورت؟.. المدير الرياضي للنادي الألماني يوضح    تامر عاشور ومدحت صالح.. تفاصيل الليلة الثامنة من فعاليات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية    الصور الأولى من حفل خطوبة منة عدلي القيعي    منتج عمر أفندى يكشف حقيقة وجود جزء ثان من المسلسل    برج القوس حظك اليوم السبت 19 أكتوبر 2024.. حافظ على صحتك    عودة قوية ل آسر ياسين في السينما بعد شماريخ    عمرو أديب عن واقعة الكلب على قمة الهرم: نازل كإنه بيتحرك في حقل برسيم    وزير الخارجية اللبناني: استمرار إسرائيل في سياسة المجارز سيؤدي إلى مزيد من التطرف    ليلة لا تُنسى.. ياسين التهامي يقدم وصلة إنشادية مبهرة في مولد السيد البدوي -فيديو وصور    أفضل 7 أدعية قبل النوم.. تغفر ذنوبك وتحميك من كل شر    إسكان النواب تكشف موعد إصدار قانون البناء الموحد الجديد    ستاندرد آند بورز تعلن أسباب الإبقاء على نظرة مستقبلية إيجابية لمصر    اللواء نصر موسى يحكي تفاصيل ساعة الصفر في حرب أكتوبر    موسكو: خسائر القوات الأوكرانية على محور كورسك تبلغ 505 عسكريين خلال 24 ساعة    رهاب الطيران..6 طرق للتغلب عليها    أشرف عبد الغني: الرؤية العبقرية للرئيس السيسي حاضرة وقوية وتدرك المتغيرات    تطابق ال«DNA» لجثة مجهول مع شقيقه بعد 30 يومًا من العثور عليها بالتبين    ماذا نصنع إذا عميت أبصاركم؟.. خطيب الجامع الأزهر: تحريم الخمر ثابت في القرآن والسنة    عالم أزهري: الإسلام تصدى لظاهرة التنمر في الكتاب والسنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مبارك ورث النرجسية من عبدالناصر والسادات.. وحافظ علي ديكتاتورية «الشخصانية والجيش والحزب الواحد»
نشر في القاهرة يوم 13 - 03 - 2012

كان حسني مبارك صريحا جدا في جوابه رداً علي الانتفاضة الشعبية علي نظامه في يناير 2011، وليس الأمر إقصارا في القول، وإنما هو حقيقة سريرية يعرفها اخصائيو الطب النفسي ب «الادعاء الارتكاسي بالموت»: يرد الشخص الذي يعيش تجربة صادمة، أي حدثا يبدو أنه يهدده بالإصابة أو بالموت، بالخوف والامتناع، وإذا كان الشخص، كما في حالتنا هذه، زعيما سياسيا، فإن مثل هذه المواجهة مع حدث خارج تماما عن تجربته العادية ويهدد استمرار وجوده السياسي لن تنتج الخوف فحسب بل الشعور بالعجز أو الرعب، وربما خضع المرء لسلسلة من ردات الفعل في استجابته لهذا الحدث غير المتوقع أبدا الذي يفرض مطالب تفوق قدرته علي معالجة التجربة، وسيحاول أولا، بتصرف نابع من الخوف الهروب ويصاب بالشلل- «الادعاء الارتكاسي بالموت»، وقد يعمد المرء، في ردة فعل انهيارية، إلي الانطواء علي نفسه أو يتملكه الغضب، علي أن يختبر بعد ذلك شعورا بالإعياء والاستسلام، وتتضمن ردة فعل ممكنة ثالثة، توصف بالهيسترية، الانسحاب إلي مسافة ما بالتزامن مع محاولة لتبرير سلوكه، ويسيطر الغضب والسخط علي الشخص الذي يظهر من ثم شكلا من أشكال الانفصام. ظهرت في حالة مبارك، العدة الكاملة لردود الفعل السريرية هذه، وقضت ردة فعله الأولي بالهروب من عواقب ميدان التحرير والاحتماء بملجئه علي شاطئ شرم الشيخ، حيث بقي متحصنا هناك وفي منأي عن أنظار العامة، واستغرق الأمر أربعة أيام من التظاهرات التي لم يسبق لها مثيل، استخدمت فيها الشرطة القنابل المسيلة للدموع ومدافع المياه ومن ثم الذخيرة الحية وقتلت ما يقدر بمئة شخص وجرحت ما يزيد علي الألف، ليتمكن من استجماع قوته النفسية للتوجه إلي شعبه، وأعلنت الصحافة أن ثمة بيانا وشيكا للرئيس، غير أن مبارك أبقاهم منتظرين لساعات، ثم تحدث عبر التلفزيون بعد منتصف ليل التاسع والعشرين من يناير محاولا تبرير أفعاله، قال: «أسفت كل الأسف علي ما أسفرت عنه من ضحايا أبرياء من المتظاهرين وقوات الشرطة»، وادعي، متجاهلا الصور التليفزيونية التي شاهدها العالم عبر الإنترنت، أن الحكومة اتبعت «تعليماته» بالسماح للمواطنين بالتعبير الحر عن الرأي: «لقد التزمت الحكومة هذه التعليمات وكان ذلك واضحا في تعامل قوات الشرطة مع شبابنا وقد بادرت إلي حمايتهم.. قبل أن تتحول هذه التظاهرات إلي أعمال شغب»، وقبل ذلك بيوم واحد اعتقل 20 عنصرا من عناصر الإخوان المسلمين بعدما اتهمتهم وزارة الداخلية بزرع الفوضي. وحدد مبارك، في مكان آخر من خطابه، أسباب الاضطراب في مطالب المصريين ب«الإسراع في محاصرة البطالة وتحسين مستوي المعيشة ومكافحة الفقر والتصدي بكل حزم للفساد»، وتجاهل تماماً أن الشعب لا يطالب بالإصلاحات في ذاتها بل باستقالته، لم يعوقه الأمر وتعهد «بمواصلة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي من أجل مجتمع مصري حر وديمقراطي»، وأعلن في الوقت نفسه أن وراء الاحتجاجات «مخططا أبعد من ذلك لزعزعة الاستقرار والانقضاض علي الشرعية»، والإجراء الملموس الوحيد الذي أعلنه هو حله الحكومة بالرغم من أن مئة مصري قتلوا حتي ذلك الوقت في المواجهات. مرت الأيام وتواصلت التظاهرات وتضخمت أعدادها بالرغم مما أمرت به الحكومة من قطع للاتصالات الهاتفية وللتواصل عبر «الفيس بوك»، وانضم الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، قبل خطاب مبارك الأول، إلي الاحتجاجات، وتجمع في 31 يناير ما قدر بربع مليون شخص في ميدان التحرير وأصدر الجيش بيانه الرسمي الأول يعلن فيه «أن القوات المسلحة لن تلجأ إلي استخدام القوة ضد شعبنا العظيم»، في ضمان منه لحرية التعبير، وشكل هذا بالنسبة إلي مبارك، وهو من الناحية الرسمية القائد الأعلي للقوات المسلحة، حدثا صادما ثانيا، وهي خطوة أذنت بقرار الجيش الانضمام إلي الحركة، وسبق ذلك بيومين أن عين مبارك رئيس استخباراته، عمر سليمان، في منصب نائب الرئيس غير أنه استمر متمسكا بمنصبه، وقد فسر عن حق امتناعه علي مر السنين عن تسمية نائب للرئيس بأنه تعبير عن نيته البقاء رئيسا مدي الحياة. ملأ مليون متظاهر ميدان التحرير في الأول من فبراير عندما تحدث مبارك للمرة الثانية، وواصل محاولة تبرير موقفه وقال متهما إن التظاهرات «بدأت بشباب ومواطنين شرفاء مارسوا حقهم في التظاهر السلمي.. سرعان ما استغلهم من سارع إلي إشاعة الفوضي واللجوء إلي العنف»، وأعلن أنه كلف نائبه الجديد إجراء الحوار «لكن هناك قوي سياسية رفضت هذه الدعوة إلي الحوار».. ولهذا يتوجه بملاحظاته الآن «مباشرة لأبناء الشعب.. مسلميه وأقباطه»، شارعا في سلسلة من الأكاذيب صيغت كلها لتبرير رفضه المستمر لمواجهة الواقع والتنحي. وزعم: «إنني لم أكن يوما طالب سلطة» قبل أن يخوض في الثناء علي نفسه في إنجازاته العسكرية «حربا وسلاما»، مضيفا: «إنني رجل من أبناء قواتنا المسلحة وليس من طبعي خيانة الأمانة أو التخلي عن الواجب والمسئولية»، وأصر بالقول: «لم أكن أنوي الترشح لفترة رئاسية جديدة، وقد قضيت ما يكفي من العمر في خدمة مصر وشعبها»، وأضاف عدة إشارات توضح أنه لن يستقيل: «لكنني حريص الآن علي أن أختتم عملي من أجل الوطن»، و«سأعمل في خلال الأشهر المتبقية من ولايتي الحالية»، الخ. تعهد مبارك حفظ النظام العام والتحقيق لمعرفة المسئولين عن الفوضي، ومع ذلك شنت في اليوم التالي عصبة من مؤيديه المسلحين بالسكاكين والهراوات، بتنظيم من أعضاء في الحزب الوطني الديمقراطي، هجوما مسعورا علي ظهورالأحصنة والجمال في قلب ميدان التحرير، وأفادت «رويترز» عن سقوط ثلاثة قتلي وألف وخمسمئة جريح، وتحدث مبارك إلي ال«آي. بي. سي»، في الثاني من فبراير، ليقول علي نحو قاطع إن الخيار أصبح الآن بين النظام والفوضي. واستمر العنف وتصاعد مع توسع التظاهرات، وقدرت الأمم المتحدة عدد القتلي حتي الخامس من فبراير بثلاثمئة، وحاولت الحكومة رمي الفتات إلي الحشود الجائعة معلنة زيادة 15 بالمئة علي الرواتب والمعاشات، كذلك أطلق سليمان وعودا عامة بإصلاحات تشريعية ودستورية، إلا أن ذلك لم يؤد إلا إلي تصعيد الضغط الشعبي علي مبارك للتنحي وقد ترافق ذلك مع دعم من النقابات والعمال المضربين. وأظهر مبارك مرة جديدة، في سياق هذا الاضطراب كله، «الادعاء الارتكاسي بالموت»، منسحبا هذه المرة لتسعة أيام! وفي العاشر من فبراير، وفيما ملأت أعداد غير مسبوقة من المصريين شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس وساحاتها متوقعين أن يسمعوه وهو يعلن استقالته، ظهر مبارك علي التليفزيون في حالة انفصامية بعض الشيء وعرض المزيد من الشيء نفسه فقط، أشاد بخدمته «علي مدي أكثرمن 60 عاما حربا وسلما»، وأخبر الجيل الأصغر سنا في بلاده بأنه كان فتيا مثلهم عندما «تعلمت الشرف العسكري والولاء والتضحية»، و«أمضيت حياتي مدافعا عن الأرض والسيادة»، و«عشت أيام الانكسار وأيام النصر والتحرير، وكانت أسعد أيام حياتي عندما رفعت علم مصر فوق سيناء»، وأوضحت إشاراته المتكررة إلي «سبتمبر» وإلي مبادراته في التهيئة لعملية انتقال السلطة أنه ليس مستعدا للتزحزح. هناك ثلاثة إعلانات، فيما سيصبح خطابه الأخير، تكتسب أهمية خاصة من وجهة نظر علم النفس، أولها نكرانه الملح بأن «الأمر ليس متعلقا بشخصي، بحسني مبارك، بل بمصر»، بحاضرها وبمستقبل أبنائها، وقد حاول هنا تحرير نفسه من النزاع، ونكران دوره الشخصي في الأزمة، ويقرأ علم الطب النفسي المتخصص هذا علي أنه من عوارض الهستيريا حيث يحاول الشخص داخليا التملص من أي مسئولية، وثانيها ادعاؤه: «أنني لم اسع يوما إلي السلطة أو شعبية زائفة، وأثق أن الأغلبية من الشعب تعرف من هو حسني مبارك»، ويمكن هنا لمعالج نفسي محترف أن يري المزيد من الدليل علي فقدان الارتباط بالواقع، ويشكل ما أعقب ذلك من بيان اعترافا بأن شعبه، في النهاية لا يحبه بالفعل: «يؤلمني رؤية كيف أن أبناء بلدي يعاملونني اليوم»، ومن شأن التحليل السريري أن يري هنا بيانا صادقا تلفظ به شخص يعاني بالتحديد كونه غير محبوب. لابد أن حسني مبارك أدرك، بعدما أخذت الأحذية تتطاير في ميدان التحرير وتصيب صورته المعروضة علي شاشة عملاقة، أن الوقت قد حان بالفعل لتوديع شعبه، والمعبر في الأمر هو أن سليمان أعلن نبأ الاستقالة وليس الرئيس نفسه، فالأحداث دمرت أنا مبارك إلي حد عجز معه عن مواجهة كاميرات التلفزة والقول، أنا أتنحي، أي إنني في النهاية اعترف بالواقع، وبدا أنه بلغ المراحل الأخيرة التي جري وصفها في الأحاديث عن «الادعاء الارتكاسي بالموت»، وهي: الاعياء والاستسلام والخمول. ما الذي حمل مبارك علي الاستقالة؟ لقد تعرض، كما أسر بذلك في خطاباته إلي الضغوط الدولية التي انهالت عليه، وأقسم في خطابه الأخير أن: «ما لم ولن أقبله أن استمع إلي إملاءات خارجية تأتي من الخارج أيا تكن مبرراتها أو ذرائعها»، وتم بالفعل توثيق أن رئيس أركان الجيش، سامي حافظ عنان، كان عند نشوب الأزمة في الولايات المتحدة للتشاور وسرعان ما لحقه وزيرالدفاع حسين طنطاوي، وأرسلت الإدارة الأمريكية، في سياق الثورة، مبعوثا إلي القاهرة ليقترح علي مبارك الاستقالة. وهاتف الرئيس باراك أوباما شخصيا مبارك، وكذلك اتصل كل من وزيرة الخارجية كلينتون ونائب الرئيس جو بايدن بنظيرهما المصريين، وفي خلال تلك الفترة تلقي ضباط أمريكيون من المستويات والفروع جميع تعليمات بإعادة فتح اتصالاتهم المصرية من الموظفين العسكريين الذين تلقوا تدريباتهم في الولايات المتحدة أو درسوا فيها. ويمكن نظرا إلي الدعم السياسي، وأيضا المالي، اللذين قدمتهما الولايات المتحدة لمصر علي مر العقود، إدراك مدي فاعلية الضغط الذي تمارسه. النرجسية والفراعنة من الدقة توصيف سلوك مبارك في خلال عملية الثورة بأنه «الادعاء الإرتكاسي بالموت» وبالإنكار السريري، سوي أن ذلك لا يقدم تشخيصاً كاملاً لمشكلته النفسية، لأنه يبدي للعيان أيضاً سمات كثيرة يتميز بها اضطراب الشخصية النرجسية. ويمكن للمرء القول بطريقة ما أن مبارك «ورث» النرجسية ليس من أهله بل من سلفيه عبدالناصر وأنور السادات، وهو علي عكس القذافي لم ينشيء بنفسه دولة ديكتاتورية بل، وباتفاق المؤرخين، ورث شكل الدولة الذي أنشأه عبدالناصر ومعها مؤسساتها الرائدة، استمرت بنية المؤسسات الأساسية بالرغم من خضوعها لبعض التعديلات في ظل السادات، فتولاها نائبه مبارك إلي جانبه إرثه السياسي بعد موته اغتيالاً في 1981، صاغ كل من عبدالناصر والسادات عبادة الشخصية من حولهما بوصفهما قائدين أعليين، وبدا الأمر كما لو أن مبارك بانتقاله إلي موقع الرئاسة، نما ليصبح زعيماً نرجسياً، إلا أنه توجب برأي المحللين النفسيين، أن يمتلك التركيبة الشخصية ليتمكن من تقمص مثل هذا الدور. للظاهرة تاريخ طويل في الثقافة المصرية تعود إلي الأزمنة القديمة حين رمزت شخصية الفرعون إلي سلطة الدولة، وذكر ان السادات قال لمحمد هيكل: «أنا وجمال آخر الفراعنة العظام في تاريخ مصر»، وأكثر من ذلك فقد كررها ذات يوم للرئيس جيمي كارتر وان كان قد طور النظرية، إذ قال لكارتر: «إن الناس ينظرون إلىّ علي أنني خليفة جمال عبدالناصر، وذلك ليس صحيحاً، فأنا لا أحكم مصر طبقاً لأسلوبه، ولكن أحكمها طبقاً لأسلوب رعمسيس الثاني، وقد أعطي المصريون منذ زمن طويل اللقب نفسه إلي مبارك، وقد وفر كتاب حديث عنوانه «آخر الفراعنة: مبارك والمستقبل غير المؤكد لمصر في الشرق الأوسط المتقلب» The last Paraoh Mubarak and the Uncertain Future og Egypt in the Volatile Midde East مادة مفيدة تؤكد هذا الزعم، ويلاحظ المؤلف علاء الدين الأعسر أن زعماء القرن العشرين المصريين الثلاثة من المعجبين بنوع خاص بالفرعون رعمسيس الثاني، ولسبب وجيه: فبحسب الأسطورة عاش رعمسيس الثاني حتي عمر التاسعة والتسعين، وحكم مصر لستة وستين عاماً من تلك السنين! وأمر بتشييد عدد هائل من المباني الضخمة والتماثيل والمعابد، بما فيها أبوسمبل والرامسيوم، وقد نقل مبارك في 2006 واحداً من تماثيل رعمسيس هذه من إحدي الساحات المركزية إلي المتحف. أعطي النظام الذي أقامه عبدالناصر للجيش دور الجزء لا يتجزأ من الدولة فتولي ضباطه المناصب الحكومية والدبلوماسية والأجهزة الاستخبارية والأمنية ووسائل الإعلام التي جري تأميمها، وألغي الأحزاب السياسية القائمة من قبل ورسخ
الاتحاد العربي الاشتراكي «الذي أعاد السادات تسميته الحزب الوطني الديمقراطي» حكم الحزب الواحد، ولما رفض مئات القضاة الانضمام إلي الحزب طردهم عبدالناصر في عملية باتت تعرف بمجزرة القضاة. صنفت ديكتاتورية عبدالناصر التي ورثها مبارك بوصفها «التهديد الثلاثي» أي أنها ديكتاتورية تجمع بين ثلاثة عناصر من ثلاثة أنواع الشخصانية: «حيث تتركز السلطة في شخص واحد» والجيش وديكتاتورية الحزب الواحد. حافظ الجيش علي دوره الطليعي في المؤسسات الاجتماعية وفي الاقتصاد إلا أنه لم يمكن الاعتماد عليه في خدمة مصالح النظام أو قائده فوق مصلحة الشعب لأنه لايزال جيشاً من المجندين، وهو ما أثبت علي أنه كعب أخيل مبارك في ثورة 2011 . بيد أن قوي الأمن الداخلي وجهاز الأمن وهما الاستخبارات التي يخشي منها عن حق بقيت تحت سيطرته المباشرة وقد استخدمها من دون رحمة ضد الأعداء المزعومين أو الفعليين جميعاً واشتهرت المخابرات المكروهة التي جلت في 15 مارس 2011 بوسائل تعذيبها الوحشية بالمقارنة بتلك التي اعتمدها جهاز أمن الدولة «ستازي» في ألمانيا الشرقية الشيوعية، وأوقف المواطنون لأتفه الأسباب بموجب قانون الطوارئ وتعرضوا لتحقيقات عنيفة تخللتها عمليات التعذيب، وأذكر صديقي الراحل عادل حسين رئيس تحرير صحيفة «الشعب» المعارضة الذي تعرض للتعذيب في أحد السجون المصرية ولما جاء إلي الولايات المتحدة ودعاه أصدقاء لي إلي العشاء، برزت التأثيرات اللاحقة الطويلة الأمد لتجربته الصادمة. امتلك الأصدقاء كلباً، وبالرغم من كونه جروا أليفاً جداً يهز ذيله انفعل عادل كما لو أنه يشكل تهديداً قاتلاً، وتبين أن السلطات المصرية استخدمت الكلاب لتعذيبه. حافظ مبارك مع الحزب الوطني الديمقراطي علي عرف حكم الحزب الواحد الذي أقامه عبدالناصر، وقد سمح من الناحية الرسمية بوجود أحزاب «معارضة» أخري لكن تم التلاعب بقوانين الانتخاب إلي درجة تمنع أي منها، أو أي ائتلاف بينها، من تحدي احتكار الحزب الوطني الديمقراطي للسلطة، أما بالنسبة إلي الانتخابات الرئاسية فلم تظهر إلي الوجود حتي 2005، إذ كان مبارك يسمي نفسه بوصفه المرشح الوحيد ويدعو الناس إلي «انتخابه» في استفتاء يجري مرة كل ست سنوات، وفاقت نسبه المئوية دوماً التسعين بالمائة. وطد مبارك سلطته الرئاسية علي مؤسسات الحقبة الناصرية ليتبني بعدها تدريجاً البهارج الخارجية التي تليق بحاكم مطلق، تيقن شخصياً من عدم تعرض شخصه أو صورته العامة للتلطيخ من وجهه النظر الصحفية المناوئة فعين بنفسه رؤساء تحرير الصحف اليومية المصرية الرئيسية وأبقي علي السيطرة الحكومية علي الطباعة والتوزيع، ونصت بنود في قانون الجزاء وقانون الصحافة علي عدم جواز «الحط من كرامة رئيس الدولة» وطبقت تطبيقاً شديداً، وأدين سعد الدين إبراهيم من مركز ابن خلدون لدراسات التنمية بتهمة التشهير وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. سعي مبارك تماشياً مع حاجات النرجسي ليس إلي درء الانتقاد السلبي وحسب بل أيضاً إلي تمجيد شخصه، وإلي مراكمة المراكز الرسمية والألقاب الخفرية منها والحقيقية، وحاز أكثر من حصته منها فهو رئيس الحزب الوطني الديمقراطي والقائد الأعلي للقوات المسلحة والحاكم العسكري، ورئيس قمة مجموعة الدول ال 15 ورئيس القمة العربية ورئيس منظمة الوحدة الإفريقية والأمين العام لحركة عدم الانحياز وغيرها، وفاقته زوجته سوزان في تجميع الألقاب وكلها تتعلق بانخراطها الظاهري في البرامج الاجتماعية وللائحة وقعها في النفس: راعية لسلسلة الأطفال التليفزيونية «عالم سمسم» وهي النسخة المصرية ل«سيسمي ستريت Sesame Street» وهي «الرئيسة الفخرية لنوادي الروتاري في مصر.. ومؤسسة ورئيسة الجمعية المصرية للطفولة والتنمية البشرية والمبادرة ومؤسسة مركز توثيق وبحوث أدب الأطفال، ومؤسسة متحف التاريخ الوطني للأطفال ورئيسة المجلس الاستشاري للمجلس القومي للطفولة والأمومة، ورئيسة اللجنة المصرية القومية للمرأة ورئيسة المؤتمر القومي الأول والثاني للمرأة وصاحبة المبادرة في القانون الموحد للطفل، ورئيسة القس المصري للمجلس الدولي لكتب الشباب، ورئيسة الجمعية المصرية للهلال الأحمر وصاحبة المبادرة في الحملة القومية للنقل الآمن للدم، ونائبة رئيس الكومست Comest ورئيسة المجلس القومي للمرأة، وهذا غيض من فيض» ويستخدم الكثير من الألقاب الفخرية في الواقع لتغطية النشاطات التي تبغي الربح المادي والتي ساهمت في مضاعفة المقتنيات المالية الهائلة لمبارك وعشريته، و يقدر ان السيدة مبارك استحصلت علي خمسة مليارات دولار في السنة من خلال مثل هذه الأنشطة الخيرية، واتهمت السيدة مبارك في 2011 بالإثراء غير المشروع من خلال الاستيلاء علي أموال الدولة، وتنازلت عن أموال وتنازلت عن أموال وعقارات بقيمة 2.8 مليون يورو لتحصل بذلك علي إخلاء سبيل مؤقت. سارعت السلطات إثر سقوط مبارك، إلي إزالة الإشارات التذكارية له ولزوجته من الأماكن العامة وجاء في موقع الهيئة العامة للاستعلامات التابعة للدولة المصرية علي الإنترنت في 22 إبريل ان محكمة القضايا المستعجلة في القاهرة اتخذت قراراً يقضي «بإزالة اسميهما عن كل المنشآت العامة والساحات والشوارع والمكتبات». يبقي ما بلغه حسني مبارك وزوجته سوزان وابناهما علاء وجمال من ثروة سؤالاً مفتوحاً أقله إلي أن تتمكن سلطات ما بعد حكومة مبارك من إكمال تحقيقاتها وتنقل التقارير الصحيفة عن مصادر موثوق بها تقديراتها لحجم ثروة عشيرة مبارك واحتسبت «إي.بي.سي.نيوز» في الثاني من فبراير ومبارك لايزال رسميا في السلطة ان أصول عائلته تتراوح ما بين 40 ملياراً و70 مليار دولار، ويأتي معظم هذا المال من أعمال مشتركة مع شركاء خارجيين يضمن فيها للشريك المصري نسبة 51 % أضف إلي هذا كله الأموال التي تختلس من برامج المساعدات الخارجية والهبات إلخ، ناهيك ربما بالمليار ونصف المليار دولار اللذين تحصل عليهما مصر ك«مساعدة» من الولايات المتحدة، وقيل إن آل مبارك يملكون عقارات في نيويورك ولوس أنجلوس ولندن إلي جانب البحر الأحمر. رحبت القاهرة بإعلان الولايات المتحدة والسلطات الأوروبية بأنها ستجمد حسابات عائلة مبارك في الخارج وتصادرها سوي أن قوي الثورة أصرت أيضاً علي رفع قضايا قانونية ضد زعماء النظام السابق وفي العاشر من إبريل «طلب» المدعي العام «وأصر» علي أن يخضع مبارك وابناه للاستجواب فيما يتعلق بالمسئولية عن قتل مدنيين «قدرو حتي ذلك الحين ب 846» وبالنشاطات المالية غير المشروعة، والمذهل في الأمر ان مبارك نفي كل شيء، وأعلن في تسجيل صوتي أعد مسبقاً ليذاع في ذلك اليوم من علي شاشة «العربية» انه شعر «بالكثير من الألم» بسبب «الحملة الظالمة» عليه وهي حملة ملئت «بالأكاذيب والتشويهات والتحريض» وأنه سيدافع عن نفسه حيالها، وتعهد التعاون التام مع الحكومة والسلطات القضائية «في الطلب من أي حكومة في العالم بالكشف عن أصولي في الخارج منذ أن توليت السلطة» وأضاف: «أريد التأكد من معرفة الشعب المصري بأنني أمتلك أصولاً في حساب مصرفي داخل هذا البلد لا غير»، ومن شأن الأطباء النفسيين الممارسين تأكيد أن هذا النوع من السلوك شائع بين المصابين باضطراب الشخصية ممن ضبطوا في نوع من المسعي الإجرامي، وسيسعون إلي التشبث بصورة الذات البريئة كوسيلة لتحقيق استقرارهم الداخلي، وقد أصيب مبارك نتيجة تنحيته عن السلطة بنوع من الانهيار الداخلي ظهر أيضاً في مؤشرات المرض الجسدي كما تؤكد ذلك التقارير عن إقامته في العيادة وعن مشكلاته القلبية. وقد اتهم علي المستوي القضائي باختلاس أموال الدولة وبالإثراء غير المشروع وبعد ذلك بعشرة أيام وجهت التهم إليه وإلي ولديه بالمسئولية عن إصدار الأوامر بقتل المتظاهرين وتدهورت صحته منذ الأول من يونيو كثيراً إلي درجة أن أطباءه أعلنوا انه غير قادر علي مغادرة سرير مستشفاه. صدمة الطفولة ليست لحسني مبارك صدمات طفولية موثقة مشابهة لصدمات معمر القذافي سوي أنه عاني عقد نقص حادة نظراً إلي أن عائلته عاشت في حالة من الفقر المدقع، يخجل بوالده ولم يتحدث قط عن عمله حاجباً في محكمة بنها ليكسب أقل من خمسة جنيهات في الشهر، وقد صب مبارك الأب جام غضبه علي ابنه وعامله بقسوة شديدة وأخذ يضربه بسبب ومن دون سبب كما أنه اجبر ابنه علي العمل في الحقول منذ كان في السادسة ليضع في جيبه كل ما يجنيه حسني من مال، وبدا أن خجل الرئيس المقبل ببداياته المتواضعة بلغ حداً قطع معه أي علاقة بعائلته الكبري في مسقط رأسه كفر المصيلحة في منطقة دلتا النيل، وهو علي عكس التقليد القائم لم يزر أياً من أعضاء عائلته الكبري ولم يعد إلي مسقط رأسه إلا مرة واحدة في 2005 عندما شرع في اسكتشاف إمكان إجراء استفتاء من أجل مزيد من التمديد لولايته. وشرع أفراد من عائلته الكبري منذ إطاحته في التعبير عن شكواهم هذه بصراحة فاضحة عبر التليفزيون المصري فحسني لم يعد إلي الديار للمشاركة في المناسبات العائلية المهمة مثل الأفراح أو الأتراح، بل انه لم يزر قبل والده وهذا واقع يثير التساؤلات عن طريقة تعامله نفسياً مع وفاة أبيه. وأدي نزوع مبارك في مدرسة المصيلحة الابتدائية إلي رواية القصص الخيالية إلي إكسابه لقب «الكذاب»، كما دعاه رفقاء صفه أيضا ب«السارق»، وعرف في مدرسة بنها الثانوية ب«حسني الخباصة»، مثير المشاكل الذي بكذبه المزمن أثار الخلافات بين أصدقائه وحرص علي سوء التفاهم، وهذه السمات كلها نموذجية للنرجسي الشاب، ولا عجب أن يخفي مبارك هذه المعلومات كلها عن حداثته وألا يطلع أحدا علي مسودة سيرته الذاتية التي أعدتها الهيئة المصرية العامة للاستعلامات. وقيل إن زوجته سوزان، وموقعها في السلم الاجتماعي أرفع من موقعه، منعته من القيام بأي زيارات إلي الديار ورفضت دعوة أي من أقارب زوجها الريفيين إلي زفاف ابنهما علاء، كما أن سوزان ثابت وهي ابنة طبيب مصري وممرضة من ويلز، ارتادت أفضل المدارس في هليوبوليس، حيث أتقنت الانجليزية وتابعت دراساتها بعد زواجها بحسني، وحازت شهادتها الجامعية قبل دخولها المعترك بوصفها السيدة الأولي، وكانت سلفها جيهان السادات هي التي علمتها أصول التصرف كسيدة أولي، وقيل إنها كانت خير تلميذة. ولطالما شعر حسني مبارك بالحرج في حضور أشخاص من مرتبة اجتماعية أرفع، سواء كانوا الأرستقراطيين منهم والأكاديميين، وسعي - بما أنه يتحدر من عائلة فقيرة - إلي الالتحاق بالجيش، ونجح بجهده واستخدم أوراق اعتماده العسكرية في فتح أبواب السلطة السياسية، غير أن شخصيته أضحت مدار تساؤل حتي في تلك المرحلة من حياته المهنية، فقد اكتسب، وهو في سلاح الجو، شهرة متسلق السلم الاجتماعي. والأخطر من ذلك اتهامه بالخيانة لأنه تجسس علي رفقائه وأبلغ رؤساءهم بنشاطاتهم وتقول بعض الروايات إنه أدين بقبض الرشوة وهو ضابط عسكري، غير أن هذا الاتهام يفتقر إلي الدليل الثابت. صناعة النرجسي ورث مبارك مؤسسات ديكتاتورية أدامها علي صورته بدلا من تفكيكها، وشكلت تلك عملية تدريجية عزز عبرها عبادة الشخصية التي تليق بالسادات وبعبدالناصر أو برعمسيس الثاني، وتقول عدة روايات إن أسلوب زعامته تميز ب«الرزانة» و«العملية» أقله في خلال سنوات ولايته العشر الأولي، وقد تحاشي في الواقع الجلبة الإعلامية التي استمتع بها السادات وزوجته، بل إنه أمر الصحافة حتي بعدم تغطية أية أخبار عن زوجته أو ابنيه أو نشر صورهم». تغير هذا كله بصورة جذرية بعد 1990 كحد أقصي فعند هذا الحد أصبح مبارك منهمكا كليا بذاته ومتصلبا في إحلال حكم الرجل الواحد والحزب الواحد. وشرع في وضع أمنه الشخصي فوق كل اعتبار آخر، محددا ذلك بوصفه المسئولية الرئيسية الملقاة علي عاتق الجيش والحرس الجمهوري، وبات مثلا علي المواطنين العاديين إعادة تنظيم خطط تنقلهم في المدينة طبقا لخط سير الرئيس، فإذا اقتضي الأمر أن ينتقل مبارك من مقر إقامته الذي يقع علي الطريق المؤدي إلي المطار إلي مكان ما في وسط المدينة، فسيتم وقف كل حركة السير في القاهرة علي شعاع يبلغ عشرين كيلومترا للسماح بالمرور الحر لموكب الرئيس الذي يبدو أنه لا ينتهي، وتبقي طرق السيارات المعنية مقفلة لما يصل إلي ساعتين أو ثلاث تسبق مرور موكبه إلي المطار علي سبيل المثال، وإذا لم تتمكن المرأة في التاكسي المشرفة علي الولادة أو الرجل المصاب بنوبة قلبية
من بلوغ المستشفي بسبب قطع الطرق فإنه لأمر يؤسف له لكنه في الأساس غير ذي صلة، وقد تم العمل بممارسة شل حركة السير في القاهرة لمرور الرئيس، وقد بُررت رسميا بأنها احتراز من الإرهاب، قبل وقت طويل علي محاولة اغتيال مبارك في 1995 في الخارج. وتمتعت السيدة الأولي، أينما ذهبت، بمستوي مرتفع مماثل من الأمن، وأذكر في خلال رحلة لي إلي القاهرة، عندما أردت المرور في المدينة القديمة، أن الحراس المسلحين أوقفوني في مكاني لمدة ساعة، وقد نشر الجنود علي كل مئة متر وتمركز القناصة علي كل سطح كما لو أنهم يتوقعون مواجهة مع الإرهابيين الإسلاميين. وتبين أن زوجة مبارك، وهي تعرف شعبيا باسم «ماما سوزانا»، في طريقها إلي حفل استقبال تقيمه إحدي الجمعيات النسائية. تميز أسلوب مبارك الجديد في الزعامة بالغطرسة المطلقة، وخصوصا في علاقته بشعبه، أي بالمواطنين العاديين وهو الذي يفترض به أن يمثلهم ويحميهم. وهذا نموذجي لدي الشخصية النرجسية، وبدا في خطاباته العامة متنائيا جدا، ونتج ذلك في جزء منه من اعتماده الكلي علي القراءة من نص مكتوب، وكما اتضح في خطاباته الأخيرة فإنه تلفظ بالكلمات من دون أن يعطي أي تلميح إلي وجود اقتناع، ناهيك بانفعال من وراءها وتعوّد - في حال اضطر في مناسبة ما إلي التحدث بحرية من دون أي نص أو ملاحظات - اعتماد لغة فظة، إذا لم تكن سوقية الأمرالذي صدم من يستمعون إليه، وفي أحد خطابات عيد العمال، علي سبيل المثال، خرج عن النص الجاهز وانطلق في خطبة مسهبة عنيفة حمل فيها علي مواطنيه واتهمهم بأنهم جشعون ويفرطون في الاستهلاك، حرص علي تحميل الشعب مشكلات مصر، قائلا: إن سبب تدهور مستويات المعيشة يعود إلي النمو السكاني الذي لا ضوابط له. ومفاد الرسالة أن علي المصريين إنجاب عدد أقل من الأولاد، ويدل هذا علي فقدان التعاطف وعلي احتقار للناس الذين يعتبرهم من الدونيين، وهذا نموذجي لدي النرجسي. يلقي الكثيرون من الشخصيات السياسية خطاباتهم المعدة مسبقا، وهي في معظم الحالات من وضع كاتب الخطابات وليس المتكلم، لكن أن يحصل ذلك مع مبارك فلأمر أعظم، فمثلا عقب خطاب ألقاه في جامعة القاهرة جمع الأوراق وسلمها بغطرسة إلي مساعده قائلا: «هذا خطابك فخذه». شهد من يعرفون الرئيس السابق شخصيا بأنه - بتنميق العبارات - ليس بالمفكر العميق، ووصفوه بأنه سطحي، مضيفين أنه لطالما واجه مشاكل في القراءة، ويعني هذا أن في وسعه القراءة والكتابة، لكنه يواجه صعوبات في قراءة نص والتقاط مغزاه، واجه مشكلة في فهم الأفكار وهو ما يتضح من عدم استعداده للخوض في نقاشات طويلة. ويتضح هذا عندما يخبره أحد مساعديه بمشكلة طارئة متوقعا منه الرد بالطريقة المناسبة، وعندما أطلعه وزير الري الدكتور محمد نصر الدين علام علي فحوي النقاشات في المؤتمر الإقليمي لوزراء الري، وعلي جدول أعماله مشكلة النيل المعقدة، لم يخصص له سوي عشر دقائق من وقته وقال إنه يعتقد بإمكان التعامل مع المسألة «في المستقبل». ويتجه في مثل هذه اللقاءات إلي الحديث بمقتضي السلطة نابحا بالأوامر والأحكام كما لو أنها نازلة من «سلطة عليا» وتشكل بالتالي تجسيدا للحقيقة، وقال لي أحد المثقفين المصريين، وقد التقي مبارك في مناسبتين، إنه يبدأ المحادثة وسبابته مرفوعة وموجهة علي نحو تهديدي إلي محاوره ليطلب إليه فعل هذا الأمر أو ذاك، ويفتقر مبارك إلي كاريزما عبدالناصر، ويعتمد بالتالي علي اسقاط سلطة مكتبه. وحوّله مثل هذا السلوك إلي شخصية سخيفة وأضحوكة في نظر شعبه، وأحد أشهر ألقابه كان «البقرة الضحوك»، الذي استوحي من تشبيه بالمنتج الفرنسي للحليب ومشتقاته الذي يحمل الاسم نفسه «La vache qui rit». واشتهر أيضا بعناده ومشاكسته، ويرد بعض المحللين السياسيين في مصر رفضه استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران إلي عناده، كما عرف عنه القيام أيضا من باب العناد المحض، بعكس ما تقترحه الصحافة، وهكذا تعود الصحفيون كيل المديح للشخصية السياسية إذا أرادوا التخلص منها لأنهم تصوروا أن مبارك سيقوم بالعكس تماما. صدمات جماعية إذا أُعفي مبارك من أي صدمات رئيسية وهو ولد، فإنه حاز بالتأكيد نصيبه منها وهو بالغ، وهذه صدمات جماعية، وليست شخصية، لكنها تركت بصمة لا تمحي علي شخصيته النرجسية، وجاءت الصدمة الأساسية الأولي في 1967 مع الهزيمة المذلة في حرب الأيام الستة ضد إسرائيل، وقد صُعق العالم العربي بأسره، وخصوصا مصر زعيمة العرب في ظل قائدها الكاريزمي عبدالناصر، قدم عبدالناصر استقالته ولم يبق في السلطة إلا تحت الإلحاح الجماهيري الشديد، وأصبح مبارك - كجزء من إعادة التنظيم التي قام بها عبدالناصر بعد الهزيمة - مدير مدرسة الطيران ورقي بعد ذلك بسنتين إلي رئيس أركان سلاح الجو. شكلت حرب 1967 صدمة اندمجت في أسطورة المعاناة العربية من القوة الإسرائيلية بما يشبه من بعيد صدمة هزيمة الصرب في 1389، وقدمت حرب أكتوبر 1973 الرد التعويضي الجماعي الذي لن تتأخر الأسطورة الشعبية في تخليده، وشكلت حرب 1973- التي استردت مصر من خلالها سيناء- هدية سياسية للسادات ولمبارك، وشكلت المادة التي ستمكن من حياكة نسيج البطولة، وكان أداء مبارك بوصفه قائدا لسلاح الجو جيدا وهو ما أدي إلي ترقيته في 1974 إلي رتبة فريق طيار في سلاح الجو المصري. لكن إذا قرأ المرء أمور حرب 1973 من وجهة نظر مبارك فسيعلم أن الغارة الجوية الأولي التي شنت في السادس من أكتوبر هي التي قررت مصير الحرب، فالجنود والمدفعية ووحدات الدبابات واللوجستية وما عداها لم تشكل إذا جاز التعبير إلا دعائم ثانوية علي المسرح، فرجال مبارك الذين يوافقونه دوما في الرأي حيوه بوصفه «بطل الضربة الجوية»، وهو ما وفر له أوراق الاعتماد اللازمة للاحتفاظ بالحكم الرئاسي من خلال استفتاءات هزلية تجري مرة كل ست سنوات. وظهر أحد وزراء الإعلام عبر التليفزيون الوطني ليعلن أن أداء مبارك البطولي في حرب 1973 أكثر من كاف للسماح له بالبقاء رئيسا لمدي الحياة، وسيشحذ مبارك مبالغته في كل عام، في الخامس والعشرين من إبريل، في ذكري تحرير سيناء. وتحدّث في 2006 علي سبيل المثال عن «يوم خالد في تاريخ مصر ويوم عظيم للشعب المصري وقواته المسلحة» وهو اليوم الذي «تم فيه طي الصفحة الحزينة لهزيمة 1967، وأنه مع استعادة هذه البقعة العزيزة من أرض مصر، استعيد أيضا كرامة البلاد وعنفوان أبنائها». وبدأ منذ إطاحة مبارك التشكيك الصريح في أسطورة دوره البطولي الأساسي، وفي 19 فبراير 2011، أعلن محمد هيكل، مساعد عبدالناصر والعارف ببواطن أمور النظامين اللاحقين، من علي شاشة التليفزيون أن وظيفة سلاح الجو في 1973 كانت بدرجة كبيرة نفسية، وقضت بتوفير الغطاء للقوات البرية، وإضافة إلي ذلك وجهت ابنة رئيس الأركان السابق سعد الدين الشاذلي «الذي توفي في العاشر فبراير في اليوم الذي استقال فيه مبارك» اتهاما علنيا إلي مبارك بالكذب في شأن الحرب وذلك بغية تعظيم شأنه، ونقلت عنها «المصري اليوم» في 26 فبراير 2011، اتهامها مبارك بأنه قام حتي بتزييف صور وغيرها، من الوثائق لتعزيز دوره في حرب 1973 في مقابل دور والدها، وقالت إنها تنوي اتخاذ الإجراءات القانونية حيال ذلك، ومثل هذا الكذب لمصلحة تعظيم الذات نموذجي في الشخصية النرجسية. شرع السادات، بعد سنوات ليست بالكثيرة علي حرب 1973 التي ردت الاعتبار لصورة مصر في رحلة لا عودة منها: زيارته التاريخية للقدس وخطابه الذي دعا فيه إلي السلام، وما أعقب ذلك من اتفاقات كامب ديفيد التي وقعت في 17 سبتمبر 1978 في واشنطن مع الرئيس جيمي كارتر، وأدي ذلك إلي إخراج مصر من جامعة الدول العربية ووضع السادات علي لائحة المطلوب تصفيتهم، وشكل اغتياله في 1981 حدثا إضافيا صادما اختبره مبارك عن قرب، وأثارت أخبار الصحافة المصرية، منذ سقوط مبارك في العاشر من فبراير، فرضيات مفادها أن مبارك قد يكون ضالعا في خطط لاغتيال السادات، أو مطلعا عليها، وهو أمر كان لا يمكن التفكير في إثارته في ظل النظام السابق، وسواء صح ذلك أم لا، فالواقع هو أن مبارك استغل اغتيال السادات كذريعة لإعادة العمل بقانون الطوارئ الكريه الذي طالب متظاهرو ميدان التحرير بإلغائه. أكسب كامب ديفيد مصر أيضا دفقا ثابتا من المساعدة المالية الأمريكية بما يصل إلي 5.1 أو ملياري دولار في السنة، وقد تكون موافقة مبارك علي الانضمام إلي الحرب التي قادتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة علي العراق في 1991 مرتبطة إلي حد كبير بوعد الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج بمكافآته من خلال مسامحته بدين ضخم بقيمة 20 مليار دولار كعربون شكر علي دعمه، واعتبر نتيجة ذلك، علي غرار السادات من قبله، بوصفه خادم المصالح الأمريكية، ولن يؤدي مسلكه حيال الفلسطينيين بعد 2000 إلا إلي تأكيد وجهة النظر هذه، فهو لم يكتف بدعم الحظر المفروض علي غزة عقب انتخابات 2006 التي جاءت بحماس إلي السلطة، بل شرع أيضا في بناء جدار تحت الأرض بغية إقفال الأنفاق المؤدية إلي غزة، وقد أُبلغ في أواخر 2008، في إبان زيارة وزيرة الخارجية الإسرائيلية يومئذ تسيبي ليفني بخطط إسرائيل شن الحرب علي غزة، وأكدت تقارير سربتها «ويكيليكس» لاحقا أنه لم يكتف بالموافقة علي الهجوم بل حث عليه. ومع ذلك أدام مبارك خرافة أن مصر تشكل الحليف الثابت للفلسطينيين في سعيهم إلي الدولة المستقلة والسلام، والخرافة الأخيرة التي نشرها هي أنه سيبقي رئيسا لمدي الحياة، وأن تلك الحياة قد لا تنتهي أبدا، وهاكم إحدي النكات الشعبية المنتشرة في شأنه: استدعي الله منذ بضع سنوات الرئيس الأمريكي كلينتون والرئيس الروسي بوتين والرئيس المصري مبارك، ونقل إليهم رسالة مفادها أن العالم سينتهي بعد يومين ظهر كلينتون علي التليفزيون الوطني ليعلن أنه يحمل نبأين أحدهما طيب والآخر سيئ، والنبأ الطيب أولا هو أن الله موجود بالفعل، أما النبأ السيئ فهو أن العالم سينتهي في غضون أيام، وتوجه بوتين إلي مواطنيه قائلا: إنه يحمل نبأين سيئين: الأول هو أن الله موجود ما يعني أن البناء العقائدي الماركسي - اللينيني برمته سينهار، والثاني هو أن العالم سينتهي قريبا، وتحدث مبارك إلي شعبه بنبرة مبتهجة ناقلا إليه تطورين إيجابيين: الأول هو أنه أنهي توا اجتماعا ناجحا مع الله، والثاني هو أنه أيقن أنه سيبقي زعيما علي مصر حتي نهاية الأزمنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.