أجمل ذكريات عاشتها الأجيال المعاصرة سوف تجد العديد من الأفلام التي وثقت لثورتنا أو سعت للتعبير عنها دراميا. ولكنك لن تلتقي كثيرا بفيلم قصير في مستوي «برد يناير» الذي فاز بجائزة مهرجان الإسكندرية عن جدارة. فمن أول لقطة سوف تتنبه لهذا الإبداع السينمائي الفريد والموهبة النادرة للمخرج روماني سعد الذي صنع من كل لقطة ونقلة وكلمة وإيماءة معني. أما علي مستوي العمل ككل فقد شيد بناء نموذجيا مشبعا بالمشاعر ومثير التأمل ولا تغيب عنه روح الصراع بأنواعه ولو للحظة واحدة. كأي سينمائي موهوب متمكن يصدر روماني شريطه بلقطة سينمائية من الطراز الأول مصاحبة لعنوان الفيلم. فالكادر تشغله مساحات من الظلال والأضواء المموهة الغامضة ويلوح لك علي مهل مع اتضاح محدود للصورة دخان حريق يتصاعد في عمق الكادر. بعدها تتوالي العناوين مع لقطات قصيرة ومتنوعة ومترابطة بجهد مميز للمونتيرين بيشوي ورفيق جورج وباختيار استهلالة في أجواء ضبابية فجرية حتي تتلاءم مع التصدير. ظل ونور ننتقل إلي زمن أكثر إشراقا مع استمرار اللقطات العامة القصيرة لجموع المتظاهرين مع هتاف " تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية". وتنتقل الصورة بحسابات دقيقة تدريجيا إلي إظلام الليل مع لقطة للدخان الذي يتصاعد حتي تكتشف أنها إعادة توضيحية أقرب لشرح أو تفسير للتصدير الأول. وهكذا مع نهاية العناوين يتضح هذا السعي الحثيث نحو التعبير بلغة الفيلم وبتعاون مثمر بين المخرج الذي يدرك ما يريده والمصور فادي سمير القادر علي الوصول بخيال الصورة ورسمها بالأضواء والظلال بديناميكية ودرامية لتحقيق هذا الهدف، بل وبإلهام الفنان نحو التحليق إلي آفاق أبعد في توظيف مختلف العناصر الفنية. وهو ما يتبدي في ختام هذه المقدمة حيث تتصاعد مع أجواء حريق الدخان أصوات الأنين لتصنع علامات استفهام سوف تجبرك علي التأمل والتلهف علي مشاهدة المزيد. من حرارة النيران التي تشبعت بها الصورة ننتقل إلي برد الحجرة الفقيرة التي تكاد تخلو من الأثاث حيث ننتقل من التسجيلي إلي الدرامي. مع لقطة بانورامية نكشف عن المدخل الذي يخلو من الباب بينما تتكرر شكوي الطفلين من البرد. فلا تجد الأم بدا من الخروج للسطوح بحثا عن حل.. نتابعها وهي تتلفت في المكان ثم تتوجه نحو السور وتخلع لوحة وتضعها مكان الباب. لنكشف انها صورة مبارك المقيتة في حملته الانتخابية المستفزة. الأب الغائب لا تكفي الصورة لسد فراغ الباب كله ولا ينسي المخرج الذي لا تفوته تفصيلة أن يجعل الأم تضع الصورة بالمقلوب. ومع لقطات أفقية ورأسية تستعرض صورة مبارك ويتوالي الحوار عن الاب الغائب لتمتزج صورة مبارك مع إنفعال الأم " أبويا!.. ماسمعش حد فيكوا يقول ابويا تاني.. اللي باع العفش حتة حتة ما فكرش في ولاده ما يتقالوش ابويا.. اللي ساب ولاده من غير باب يحميهم في عز برد يناير ما يتقالوش ابويا". لن ينتهي المخرج سريعا من هذه المقاربة الرائعة. فيعقب الليل فوتومونتاج نهاري، فنعود من جديد للقطات التسجيلية والأرشيفية، حيث صور البؤس العادية جدا والوجوه الشاردة في الشارع المصري، بلا مبالغة أو مباشرة. مع خطاب قديم لمبارك في فاصل من أكاذيبه المفضوحة. يعود روماني للدراما من جديد لنري الأم تلجأ لصاحب كشك الجرائد يؤدي الدور بحنكة المخضرم كمال سليمان- طلبا للمساعدة. يختزل السيناريو بمهارة الكثير من الثرثرة والتكرار حيث تشير الأم لأعلام مصر الموضوعة فوق الجرائد وهي تتساءل في استنكار "علم ايه يا معلم اللي عايزني أبيعه!؟.. العيال عايزين باب يحميهم من البرد".. فيرد الرجل مفسرا "ماهي دي بقي اللي بتجيب الفلوس اللي تقدري تجيبي بيها الباب اليومين دول " مع نهاية هذا المشهد يكون السيناريو قد استكمل كل مراحله التمهيدية دون أن تفلت منه لحظة واحدة او جملة واحدة بلا دلالة أو قيمة وبعد أن تكون خلفية الشخصيات قد اكتملت وبذرة الصراع بمستوييه قد تحددت. فالصراع الأول مادي بحت حول تدبير المبلغ المطلوب لشراء باب والذي ارتبط تحقيقه في ذهن البطلة بوجود مبارك الذي تتلخص أهمية بقائه في ذهنها باستمرار إقبال الناس علي شراء الأعلام" باقول لك ايه انتي تشدي حيلك اليومين دول عشان الريس لو مشي المولد اللي قدامك دا كله حينفض"، أما الصرع الثاني فهو صراع فكري محض يدور داخل رأسها ورءوس أولادها في حدود وعيهم وفهمهم حول ما نسميها مسألة شرعية وجود مبارك في السلطة. حضور الأبناء من الآن فصاعد سيتزايد حضور الأبناء في المشهد فهم شركاء رئيسيون في الحلم بالباب الذي يسترهم من البرد وأيضا بالرغبة في الفهم أيضا وسط أجواء مشبعة بالغرابة والغموض بالنسبة لهم وقد تواجدوا في قلب المظاهرات بين الثوار وهم جمهورهم الحقيقي في شراء الاعلام وبالتالي من خلالهم سيتحقق الأمل في تدبير المبلغ المطلوب. ومع حركة النداء علي الاعلام وبالقرب من الأم وفيما يمكن اعتباره مشهدا مخصوصا يجمع بين الطفلة وشقيقها الأصغر الذي وقف علي قاعدة تمثال أسد قصر النيل مما يمنح الصورة والزوايا ألقا وذكاء لم نألفه في أفلامنا التي قتلتها التقليدية والركاكة.. "قمر أنده اقول علم زيك؟".. "قول علم علم او عيش حرية عدالة نسناسية" فيقرر الطفل أن ينادي علي مطلبه هو "هامبورجن.. هامبورجن ".. نعود إلي الام التي بدأ يعتريها اليأس من النداء علي بضاعتها حتي يأتيها أول زبون ويدفع الجنيهات العشر بكل بساطة ثمنا لما تراها هي قطعة قماشة مثبتة بخشبة لا تساوي شيئا. يتناول الشاب العلم وينصرف بينما تبدو الفرحة العارمة علي الأم بعد لحظة شرود وقد آمنت بقيمة ما تبيع، لتنادي بحماس وأمل أكبر في حركة شبه راقصة " علم.. علم ".. ومع ندائها تبرز فرحتها مع صوت الكمان والرق في أنشينيهات «لقطات ممتزجة» فرحة وفي توظيف بليغ ومحسوب من المخرج لموسيقي عدلي سعد المعبرة. صراع مزدوج تتوالي حلقات الصراع من أجل تدبير المال والوصول للحقيقة أيضا. وعلي موقع قريب من الكوبري حيث تقف الطفلة يقترب منها أحد الشباب - محمد رمضان في حضور خاص- ليشتري منها علم بعد نقاش ويهم بالانصراف ولكنها تستوقفه "كابتن كابتن.. ما تقوللي كلمتين انادي بيهم اصلي اول مرة ابيع اعلام " يتوقف مفكرا ثم في حماس وتأثر " قولي خد علم اتأسف لمصر.. حقك عليا يا بلدي.. اتاخرت عليكي كتير انا اسف يا مصر" ثم ينصرف وهو يكاد يتبخر في إضاءة معبرة مع صوت الكمان ونداء منغم في شبه أنين. من الخاص إلي العام ننتقل مجددا إلي اللقطات التسجيلية لمظاهرات التحرير حتي اسقاط مبارك وبينما تتوالي مشاهد تسجيلية لفرحة الناس العارمة بخلعه. يعود روماني إلي أسرة فيلمه عبر لقطة بان علي الكورنيش لنري الأم علي النقيض من الجميع مهمومة وحزينة - بأداء صامت ورصين وملفت لإيمي- وإلي جوارها طفلاها وقد غطت رأسها بالعلم من شدة البرد أو من شدة صداع الرأس المنهك بالهم والتفكير. ويجد الدرامي البارع وسيلة للتعبير عما يدور في ذهن الأم من خلال أسئلة طفليها كحيلة سيبدأ باستخدامها هنا"هي امي زعلانة كدا ليه؟".. " كدا الناس اللي بيشتروا الاعلام حيمشوا ومش حنعرف نجيب حق الباب". مفاجأة سارة في طريقها للعودة منكسرة ويائسة وحزينة يأتي صوت أحدهم يناديها " يا بتاعة الأعلام" فتلتفت في عدم تصديق "ممكن علم".. فتتساءل في اندهاش "انتوا مش خلصتوا؟" "خلصنا !! دا احنا ابتدينا".. تتألق الاضواء خلفها عن بعد لتعادل لحظة التنوير التي تعيشها. فالعلم قيمته زادت بعد رحيل مبارك وليس العكس. وقبل أن تستوعب ما يدور يأتي آخر.. تسير الأم ومعها أطفالها فرحين ورافعين أعلامهم من جديد بينما تنساب موسيقي حالمة مشبعة بالأمل والشجن. وتواصل كاميرا روماني تسجيلها للحظات الفرحة والاحتفالات برحيل المخلوع المقصي في أنشينيهات تذوب في بعضها وكأن الام والأطفال قد ذابوا أخيرا وسط زحمة الجموع لتمتزج في مهارة اللقطات التسجيلية مع الدرامية. مع الصباح التالي نري الأم وأولادها وهم في طريقهم لعبور الكوبري من جديد ليتواصل الحوار بأسلوب أكثر إيحاء وللوصول إلي نهاية أكثر ذكاء وتأثيرا. فمن تمثال سعد زغلول نهبط علي الأم تسير بين طفليها عند بداية الكوبري حيث تسأل الطفلة أمها " ياما هو إحنا حنعدي الكوبري"؟ ثم تتوالي أسئلة الولد والبنت كترديد لما يدور في ذهنها وفي أذهاننا جميعا ومنها : "العلم دا حيفضل غالي ولا حيرجع تمنه زي الاول" "وابويا مش حيبهدلك تاني.. و مافيش ظابط حيضربك في القسم وحنرمي صورة الريس" "وحنعلق صورة ريس تاني".. يدخل صوت انين منغم مع نزول عناوين النهاية مصاحبة للصورة مع استمرار صوت أسئلة الطفلين.. "العساكر حيفضلوا لامتي" "يعني ايه مصر".. "يعني ايه رئيس جمهورية" " يعني ايه شهيد".. " هي الثورة حتيجي امتي تاني".. "جيش يعني ايه".. "نظام يعني إيه".. " أنا باحبك قوي يامّا".. "انا باحبك قوي يامّا". في برد يناير الذي تدور أحداثه أثناء مظاهرات التحرير كانت روح الثورة والفهم العميق لمعانيها والإيمان المطلق بها تفوح من كل كادر، دون أي مباشرة أو مبالغة أو تلفيق. وكان توغل هذه الروح وانتقالها إلي شخصيات الفيلم يتسرب بإيقاع سينمائي بارع وكأنها تنساب داخل كيانهم كما يتغلغل في نفسك الشعور بمصداقية الفيلم لتتوحد تماما مع هذا العمل الساحر. هذه هي الخبرة التي حاولت أن أنقلها عبر هذه السطور بمنتهي التكثيف والاختصار المخل. فالفيلم القصير «برد يناير» يستحق وصفا تفصيليا وتحليلا لكل كادر من كادراته حتي نوفيه حقه ونشرح جمالياته وأسلوبيته ومعانيه الجميلة والعميقة رغم بساطته ووضوحه.