تمامًا كما يدور من صراع علي الحياة السياسية اليوم بين جانبين يقود أحدهما ثوار حقيقيون يسعون إلي تحقيق تغيير جذري وإسقاط نظام كامل، وعلي الجانب الآخر يقف تيار يسعي لترقيع النظام السابق ببعض الحيل ليضع علي الوجه القبيح والجسد العفن مساحيق تجميل وعطور ودعامات ليقنع العالم بأنه عاد شبابا مع أن الموتي لا يعودون. ينطبق هذا أيضا علي السينما المصرية الروائية الطويلة في حصادها لعام 2011 الذي ينحصر في 25 فيلما شهدتها دور العرض. أضع في الصدارة ثلاثة أفلام تتفق فيما تحويه من صورة صادقة وما تسعي إلي تحقيقه من لغة سينمائية متقدمة وعلاوة علي ذلك فإنها كلها من إبداع مخرجين انتقلت أعمالهم إلي العروض التجارية بعد مشوار مع العروض الثقافية والمهرجانات بأفلام صورت بالكاميرا الرقمية وينتمي معظمها إلي ما يمكن أن يطلق عليه تيار السينما المستقلة، بكل ما أتاحته من تحرر من شروط السوق والميزانيات ونظام النجوم العقيم. ثلاثة علي القمة أول هذه الأفلام طبقا لتاريخ العرض هو «ميكروفون» لأحمد عبدالله الذي يتمكن عبر البناء الدرامي والسينمائي من أن يحقق حالة من التوحد مع مجموعة من الشباب الموسيقيين وحلمهم في تحقيق حفلهم. وفي مشهد سينمائي بارع يقع هؤلاء الشباب تحت حصار مادي يوازي الحصار المعنوي الذي يعيشونه والذي يحرمهم من أي ميكروفون. ومع ذري متصاعدة وخطوط متوازية لمبدعين شباب آخرين تتصاعد الأحداث لتتضح الرؤي فتكتشف فجأة أنك شاهدت تحفة سينمائية حققها مخرج متمكن من الإيقاع بصورة ملفتة. ولم يكن ينقص هذا العمل إلا أن تكون الموسيقي والأسلوب الغنائي الذي انتصر له الفيلم نابعا من تراثنا. أما فيلم «حاوي» الذي أراه الأفضل في عام 2011 فيتجاوز مخرجه ابراهيم البطوط كل ما هو تقليدي ليطرح رؤية طازجة ومؤثرة. يقول مقطع من أغنية حاوي التي ألهمت بفكرة الفيلم "بقيت حاوي بقيت غاوي.. في عز الجرح أنا ما أبكيش.. بقيت عارف.. أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش". هل يمكن أن تجد كلمات أكثر تعبيرا عن حالنا البائس وظروفنا الكئيبة في واقع يفرض القهر والجوع والإذلال علي المواطن؟. علي مستوي السيناريو ينسج البطوط تفاصيله بطريقة معقدة.. وتبدو الشخصيات بالغة التعبير كصور رمزية لقطاعات عريضة من المجتمع مما يضيف لمضمون القصة ودلالاتها الرمزية. ثالث أفلام الصدارة وآخرها في العرض هو «أسماء» لعمرو سلامة. والمؤكد أنه أحد المحاولات الطموحة لعرض رؤية اجتماعية واسعة من خلال مأساة المرض بلغة سينمائية متطورة. تقول أسماء بطلة الفيلم "انا لما أموت مش حاموت من المرض حاموت من اللي عندكوا انتو." ولوكان الفيلم قد اخلص أكثر في عرض أمراض المجتمع لإنطلق لآفاق أبعد. ولكن العمل بلا شك أتاح لفنانيه مساحات من التألق خاصة بطلته هند صبري وبطله عمرو واكد. المرتبة الثانية في المرتبة الثانية تأتي أربعة أعمال أخري. أولها يقع بعيدا عن السينما التقليدية ولكن بتمويل وزارة الثقافة، وهو «المسافر» لأحمد ماهر. وهو عمل يضن كثيرا بالكشف عن دوافع سلوك شخصياته مما يضعف من حالة التواصل التي ينبغي أن يعقدها مع مشاهديه باختلاف ثقافاتهم. ولكنه بلاشك عمل فريد حيث تتضافر الأماكن الحقيقية الخارجية المختارة بعناية مع ديكورات أنسي أبوسيف في توظيف درامي وجمالي بديع ،بما توفره من عمق للكادر وبعد للمنظور وتعدد لمستويات المجال وثراء في التفاصيل.. وعلي الرغم من أن البطولة لعمر الشريف إلا أن المفاجأة في الظهور المتجدد للممثل العبقري محمد شومان الذي تمكن من أن يقدم صورة جديدة ومغايرة لرجل أقرب للبلاهة والتخلف وبعيدا عن السقوط في فخ المبالغة أو إثارة الاشمئزاز. أقدر أيضا الجهد الذي بذله صناع فيلم «الشوق» لخالد الحجر ونالوا عنه جائزة مهرجان القاهرة الكبري. وليس من حقي أن أصادر علي حرية الفنان خالد الحجر في تحقيق أسلوبيته حتي ولو كنت أختلف معه في رؤيتي لدور الفن. ولكني أري أن الفنان إذا أراد أن يعبر عن البؤس والقتامة بصدق، فهو ليس مطالب بأن يحيل الصورة إلي كتلة من العذاب. وهو ما أخلص في تحقيقه مدير التصوير الإنجليزي نيستور كالفو الذي حافظ باستماته علي ظلاله الخانقة وألوانه الباهته حتي في لحظات البهجة القليلة. وهو في الحقيقة يشكل أسلوبية بصرية معبرة بسيطرة مساحات السواد وبوضع الشخصيات دائما خارج دائرة الضوء. في «كف القمر» لخالد يوسف تدعو الأم من فراش المرض أبناءها الخمسة ليعودوا إليها وهي تشير بكفها، كما لو كانت تبحث عن أصابعها التي فرقتها الأيام. والحقيقة أن القصة في حد ذاتها تفقد أي تماسك أو منطق، فالبعد الرمزي والدلالات السياسية هي التي تقود الحدث وتلوي ذراع الشخصيات تجاه أي فعل أو رد فعل. ولكن تبقي الموسيقي التصويرية لأحمد سعد من أهم عناصر التميز في الفيلم. كما تبرز غادة عبدالرازق في لحظات ظهورها القليلة بقدرتها البارعة علي التلون موظفة صفحة وجهها وتعبيرها الحركي والجسدي بمنتهي الليونة وبمقدرة مهولة علي التحول. ويكفيها مشهد موت طفلها الذي رفضت إرضاعه بمشاعر مركبة أدتها بتدرج إنفعالي محسوب. ومع فيلم «الفاجومي» تعيش جانبا من رحلة عمر حقيقية ممتدة خاضها الشاعر الشهير في مواجهة نظم وحكومات، شارك خلالها في مئات المظاهرات والاعتصامات لم يتراجع أو يفقد الأمل أو الإيمان ولو للحظة بحتمية تحقق حلم الثورة. والغريب أن هذا الرجل وجد من يتحمسون لتقديم فيلم عنه بكل ما تحمله شخصيته من استفزاز لنظام كان وقت بدء تنفيذ هذا العمل جاثما علي صدر هذا الوطن ولم تكن قد لاحت أي بشائر لسقوطه. ربما لهذا السبب أضع هذا الفيلم في هذه المكانة المتقدمة رغما عن كل تحفظاتي علي مستواه الفني. نجوم الفن البائد ننتقل إلي مجموعة من الأفلام التقليدية التي تحقق معظمها بقدر مقبول من الصنعة كأعمال أتيح لها ميزانيات جيدة بفضل نجومها وهي «فاصل ونواصل» و«365 يوم سعادة» و«سامي اكسيد الكربون». يتفاوت المستوي الفني بين هذه الأفلام ولكن تتفق جميعها في أنها سينما تجارية لا تتطلع إلا لجيوب المشاهد ولا تهدف إلا لتحقيق قدر من المتعة والتسلية للجمهور لضمان استمرار إقباله. ويظل الأكثر طموحا وذكاء بينهم كالعادة أحمد حلمي بفيلم «إكس لارج» في تعامله مع شخصية البدين من منظور جديد. وأحمد مكي أيضا في تجربة «سيما علي بابا» الجريئة والتي لم تحقق النجاح المعتاد للنجم ولكنها سوف تحسب له كمحاولة طموحة في ظل سينما تجارية تخشي أي قدر من المغامرة. كما أنها اتاحت للسينما المصرية أن تخوض في مجال أفلام الخيال العلمي والفانتازيا وهي مناطق غابت عنها كثيرا. وتضم هذه القائمة أيضا فيلم حاول مغازلة السوق عبر الخطاب السياسي الملفق وهو «صرخة نملة» للمخرج سامح عبدالعزيز وبطولة عمرو عبدالجليل . وهو من أفلام الترقيع الصريح حيث تم لصق مشاهد من ثورة التحرير في نهايته تتنافي مع الرؤية التي يطرحها والمقدمات التي يستند إليها. وجوه جديدة للبيع علي الجانب الآخر تأتي مجموعة من الأفلام لنجوم جدد أو وجوه جديدة كان أفشلهم علي الإطلاق «يا نا ياهو» حيث قدم بطله نضال الشافعي خليطا بشعا من اللمبي وجيم كاري علي الرغم من قدراته المحدودة جدا في الأداء الحركي أو التعبير بالوجه. وينضم لهذه القائمة أيضا «بيبو وبشير» في أول بطولة مطلقة لآسر ياسين يغازل فيها السوق ولكن بإمكانيات متواضعة لمخرجة في عملها السينمائي الأول. وفي نفس الإطار يأتي «إذاعة حب» لبطلة الفيلم السابق منة شلبي ومعها شريف سلامة. أما الوجه الجديد أمجد عابد فيكشف عن جانب من قدراته في النصف الثاني من فيلم «أنا باضيع يا وديع» بعد أن أهدر السيناريو نصفه الأول في الهزل والتشتت.. ثم تأتي بطولات جماعية بالزوفة لشباب لم يظهر علي أي منهم أي علامات أو حتي إرهاصات لموهبة في أفلام «سفاري» و«آي يو سي» و«فوكك مني». كما تعبر هذه الأعمال عن رداءة سينمائية وعودة صريحة إلي أفلام المقاولات بكل ما تمثله في فقر الانتاج والمواهب والامكانيات وكل شيء. أوسكار الأسوأ ادخرت لكم ثلاثة أفلام تنتمي إلي نجوم الفن البائد للتنافس علي أوسكار الأسوأ. أولهم هو النجم السوبر سابقا محمد سعد في «بوم بوم تك». والخطير في هذا الفيلم أن سعد يتراجع عبره من مرحلة الفيلم الرديء بالصدفة إلي مرحلة الفيلم الهادف عامدا إلي إفساد وعي الناس وإرباك مفاهيمهم حول الثورة والخلط بين الثورجي والبلطجي.. أما الفيلم الثاني فهو لسعد أيضا ولكن زد علي ذلك أنه الصغير بشريط «شارع الهرم». وهو عمل صادق جدا من عنوانه إلي مختلف تفاصيله. لا يخلف فيه النجم وعده لجماهيره بمزيد من الإسفاف والابتذال والدعوة للتخلف وهز الأرداف في مواجهة ثورة في الشارع تدعو لتنمية الوعي والتعريف بالحقوق والحريات. أما الأحق بأوسكار الأسوأ في رأيي فهو نجم الفلول الأول طلعت زكريا والذي دافع باستماتة عن مبارك وهاجم الثوار والصق بهم تهم الفعل الفاضح وتعاطي المخدرات علي قنوات التليفزيون. وكان يعتقد انه بإمكانه مصالحة جمهوره ببعض الحركات بفيلم بعنوان «سعيد حركات» أو «الفيل في المنديل». ولكن من الواضح أن حركاته لم تفلح فأعطي له الجمهور صفرا بحجم الفيل في شباك التذاكر. تسجيلي وقصير لا يجوز أن ينتهي الحديث عن أفلام هذا العام دون التنويه إلي الحدث النادر بنزول فيلم تسجيلي كعرض أساسي في دور العرض وهو «يناير 2011». وهو ايضا يمثل حالة نادرة كشريط سينمائي طويل يضم ثلاثة أفلام قصيرة. كما تجدر الإشارة أيضا إلي تجربة أحمد رشوان المتميزة في مجال الفيلم التسجيلي. حيث يمزج في «مولود في 25 يناير» جانبا من حياته الخاصة مع الحالة العامة للبلاد. شهد العرض العالمي الأول للفيلم مهرجان دبي ونال جائزته. أما في مجال الفيلم الروائي القصير فيأتي «برد يناير» لروماني سعد من أهم ما شاهدته بين هذه الأعمال بل إنني أراه تحفة بكل المقاييس بقدرته الرائعة علي اختزال روح الثورة والتعبير عن كيفية وصولها إلي مواطنة بسيطة. عروض أجنبية علي مستوي الفيلم الأجنبي يأتي «في الوقت المحدد» لاندرو نيكول في رأيي هو أهم ما شاهدناه. والمفاجأة الأسعد التي يحملها لنا هي هذه المتعة الذهنية التي يحققها بعد أن فقدت معظم أفلام الخيال العلمي قيمتها العلمية والثقافية وأصبحت مجرد وسيلة لاستعراض التقنيات السينمائية الحديثة بافتعال صورة تهدف فقط إلي تحقيق الإبهار. يعود بنا الفيلم إلي زمن روائع أفلام الخيال العلمي «البرتقالة الآلية» و«451 فهرنهايت» وغيرهما.. تلك الأفلام التي تعاملت مع هذا اللون باعتباره وسيلة للتثقيف من خلال النظرة العلمية المستقبلية إلي صور من الخيال الرائع توازيها بنفس القدر دعوة للتأمل في واقع ومستقبل البشر وتبصيرهم بما يرتكب ضدهم من ممارسات وما يحاك ضدهم من مؤامرات لنهبهم واستعبادهم. علي مستوي الأسابيع السينمائية أري أن أسبوع الفيلم التركي ثم الإيراني الذي أعقبه كانا من أهم الفعاليات الثقافية التي شاهدناها والتي عكست حرصا علي التواجد وعرض تجربتهما الفنية باختيارات جيدة وبرغبة جادة في التواصل مع المشاهد المصري وجس النبض لعروض تجارية. فهل يتسع سوق العرض المصري لمساحة أكبر من سينما العالم بعد الانغلاق علي الفيلم الأمريكي. وهل يمكن أن تعيش الأجيال القادمة مع محيط اوسع من التجارب الفنية في الشرق والغرب لبناء ثقافة متنوعة وشاملة من تجارب متقدمة تحققها السينما في اليونان واسبانيا واوروبا الشرقية وشتي أنحاء العالم.