البطاطس ب20 جنيها.. أسعار الخضراوات والفواكه في أسواق كفر الشيخ اليوم    قبل ساعات من مناظرتهما .. ترامب يطلق وصفا خطيرا على بايدن    المصرى يتقدم على الإسماعيلى 1-0 فى الشوط الأول.. فيديو    طب عين شمس تصدر بيانا حول حريق بإدارة الدراسات العليا    رشقات صاروخية من جنوب لبنان باتجاه صفد وعدد من مناطق الجليل الأعلى    أفضل دعاء السنة الهجرية الجديدة 1446 مكتوب    عبدالمنعم سعيد: مصر لديها خبرة كبيرة في التفاوض السياسي    يورو 2024.. توريس ينافس ديباى على أفضل هدف بالجولة الثالثة من المجموعات    الأعلى للجامعات يعلن قواعد تنسيق الجامعات لطلاب الثانوية العامة.. تعرف عليها    انطلاق مباراة الإسماعيلي والمصري في الدوري    أيمن غنيم: سيناء شهدت ملحمتي التطهير والتطوير في عهد الرئيس السيسي    محافظ شمال سيناء: 30 يونيو انتفاضة شعب ضد فئة ضالة اختطفت الوطن    كريم عبد العزيز يعلن موعد عرض الجزء الثالث لفيلم "الفيل الأزرق"    يسرا عن مسرحية ملك والشاطر: دي ممكن تبقى آخر مسرحية في حياتي    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    منظمة حقوقية: استخدام الاحتلال الكلاب للاعتداء على الفلسطينيين أمر ممنهج    تخريج دورات جديدة من دارسي الأكاديمية العسكرية    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    مستشار الأمن القومى لنائبة الرئيس الأمريكى يؤكد أهمية وقف إطلاق النار فى غزة    «رحلة التميز النسائى»    محافظ أسوان يلتقي رئيس هيئة تنمية الصعيد.. تفاصيل    لهذا السبب.. محمد رمضان يسافر المغرب    الشاعر محمد البوغة: «لو زعلان» لون غنائي جديد على ماجد المهندس ولم يخشى التغيير    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    أسعار التكييفات في مصر 2024 تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الصحة» تكشف أعراض الإجهاد الحراري    تحرك جديد من بديل معلول في الأهلي بسبب كولر    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    لتكرار تجربة أبوعلى.. اتجاه في الأهلي للبحث عن المواهب الفلسطينية    اندلاع حريق هائل يلتهم محصول 100 فدان كتان بقرية شبرا ملس بزفتى.. صور    بالصور.. محافظ القليوبية يجرى جولة تفقدية في بنها    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    انفراجة في أزمة صافيناز كاظم مع الأهرام، نقيب الصحفيين يتدخل ورئيس مجلس الإدارة يعد بالحل    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    هل استخدام الليزر في الجراحة من الكيِّ المنهي عنه في السنة؟    تحرير 107 محاضر خلال حملات تموينية وتفتيشية بمراكز المنيا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    أمين الفتوى: المبالغة في المهور تصعيب للحلال وتسهيل للحرام    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    بكين تعارض إدراج الاتحاد الأوروبى شركات صينية فى قائمة عقوباته    بولندا تهنئ مارك روته على تعيينه في منصب السكرتير العام الجديد للناتو    الصحة تحذركم: التدخين الإلكترونى يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    طلب غريب من رضا عبد العال لمجلس إدارة الزمالك    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 27 يونيو.. «يوم مثالي لأهداف جديدة»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    10 يوليو موعد نهاية الحق فى كوبون «إى فاينانس» للاستثمارات المالية    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محفوظ: لم يعد أحد بدون تلويث سوي الأطفال والمعتوهين والمجانين
نشر في القاهرة يوم 27 - 12 - 2011

في أصداء السيرة، تجد كم هي السعادة في أن تغوص بسيرنا المحلية الحياتية، لتتحقق من جزء مهم في التقرير الحقيقي لفكرنا المرتبط بعاداتنا وتقاليدنا وخبراتنا الزمنية، ونظراً لدقته فقد شكل مسايرة للأزمنة عبر العصور ، ليضع العبرة في روعة الاعتبار الواقعي خاصة لمن يسيرون بلا هدف ، وهو ما يساهم بتشكيل الإصرار علي الحياة، كما في جملته الفلسفية أنه "من ملك الحياة والإرادة فقد ملك كل شيء، وأفقر حي يملك الحياة والإرادة" فالكتاب يكاد يسرد سيرنا الذاتية، حينما يكون للذات سيرة، فيستخلصها بالتأمل والخيال في حقائق الدنيا، ليلتمس منها حكمة ماضينا ولفهم حاضرنا واستشراف المستقبل، طالما وجد للحياة أملا، ويكون ذلك بدقة بالغة مبنية علي عبقرية ساردها، وحرصه علي جمع السيرة لمختلف جوانب صور الحياة لتبدو كاملة، ففيها سير الصالح والطالح ، لتشمل المتناقضات الحياتية، فتعيش خلالها بين الحب والموت، وبين الحقيقة والسراب، واضعاً القارئ أمام تساؤلاته المخيفة، كالخوف من المجهول سواء الموت أو الأشخاص الغريبة الأطوار ، متسائلاً : لماذا نضحي بكل مالنا لأجل الإبقاء علي أنفاسنا بالحياة؟ ولما نخاف الموت المجهول بهذا الشكل مع أننا سائرون إليه لا محالة؟ حكمة الحياة ويدور الكتاب، حول أمور حياتية مختلفة ليكشف لنا من خلالها حكمة الحياة ، ويأخذ في ذلك طابع القصص السردي بأسلوب أدبي متفلسف ليعطي المثال المشابه للواقع كخير معين علي استدلال الحكمة ، كما بقصته المسرودة تحت عنوان "الحركة القادمة" عن حالة النقل الوظيفي لموظف يفضي بحالته الوظيفية لعجوز لتفاجئه بمعاتبة حكيمة بليغة يريد الكاتب من خلالها أن يؤكد علي ضرورة حساب عواقب الزمان بأمورنا الحياتية، كما بمقولة العجوز للموظف المنقول تعسفياً في جو الظلم الوظيفي"لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه"، وفي ذلك الكاتب يقصد الموت، مستخدماً في ذلك الإسقاط علي الموت حيث قال :أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم .. وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر.. لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه. [23] وقضية الموت، كحقيقة مهمة لا تغيب عن ذهن الكاتب، فما يبرح أن يتناولها في مقطوعة أخري بعنوان"التلقين" يشير فيها الي الموت قادم لامحالة ولن تنفع الدنيا والنعش ذاهب (شئنا ام أبينا ) في طريقه وفي موعده قائلا: أخيرا، هل النعش فوق الأعناق فتخطي الجميع وذهب؟! ويسير الكاتب عبر رحلة الحياة من الميلاد للموت فيحدثك في مقطوعة "دين قديم" عن تأثير النشأة الأسرية في الطفولة علي التفوق الحياتي بالكبر ، رابطاً الطبيعة بالقدر ، حيث يقرن توفير الحاجة الفطرية للأطفال من الرعاية والحنان كسبب في حصد الاجتهاد والتفوق والذي يبدأ بالحنان والرعاية اللذين يخلقان حب المدرسة. السعادة وبينما يرصد الكتاب أصداء السيرة الذاتية في جوانب الحياة المختلفة، فإنه يتعرض للقضايا الحياتية المثيرة للجدل، ومنها قضية السعادة، فبرغم عيشنا بين اللذة والألم إلا أن هناك مفاتيح لاستخلاص السعادة في حالك الظروف ومرها، فقد تتحقق السعادة بالصحة وراحة البال التي هي أجمل ما في حديقة الورد كما يقول بذلك نجيب، أو قد تأتي في الحب والأكل بأمان كالطيور في تشبيه بليغ آخر للمؤلف ، والذي لا ينسي أن يذكر جموعاً أخري للسعداء الذين تحققت سعادتهم في إرضاء كبرياء الزهد والإعراض عن الدنيا، لينطلق الكاتب في تصوير آخر لجوانب السعادة ولحظاتها مثل وقت الرضا والسرور كآخر أوقاتنا في الدنيا، غير ناس جوانبها الأخري من خلال البحث عن الهدوء، أو وفاء صديق، أو جمال الطبيعة و النساء وفتاة الحي، أو في العشق الحقيقي بدون ندم. ويمنحنا الكاتب خلال مؤلفه، متعة آخري تتعلق، بالتأمل، قائلاً بالسعادة في الذكريات، وطريقها لذلك هو التأمل الذي يبدو في الشيخوخة كعبير البخور، كما يرويها علي لسان صديقه الحكيم ليقول : لكل امرئ ساعة يحن فيها إلي الخلاء ، فيسمع ألحاناً تسمو بها روحه ، أو يتذكر مواقف وشخصيات فتجلب له سعادة وهنأ كجمال المرأة ، أو الاستماع إلي الحناجر الذهبية التي لا يقدرها إلا أهل الطرب ، ويفسر روعة ذلك بمقولته "قد ينسينا الزمان شخوصاً ولكننا لا ننسي اللحظات الروحية التي قد تجمعنا بهم" ، فمشاعرنا بين أحلام خيالية أو واقعية ، وهنا تتضح قوة الذاكرة التي تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان ، وبذلك يكون السر الحقيقي لمن يريد التمسك بدوام السعادة في العيش لحظات سعيدة وإعادة تذكرها للنشوة ، وهو الأمر ذاته في الشقاء فقد يكون في ذكري آلام القهر السلطوي كما بحادثة ضابط شرطة صفع والد فتاة فعاشت بوحدة الآلام طيلة حياتها، وهو ما ينم عن مدي إنسانية الأديب وشاعريته الجميلة. وجنح محفوظ تأملاته في رصد تنافر أحاسيسنا بين السلب والإيجاب برغم وحدة المكان والظروف ، مصوراً الحياة بقطار الكل يسعي لمقعده ، أو بطريق واحد يجمع سيارة وسيارة لمقاصد مختلفة ، فقد تجد متعتنا في أن يشاركوا الآخرين اللعب والحياة في حين هناك من يري متعته باللعب مفرداً ، كما قد ينظر أحدنا للمطر بأنه رحمة والآخر بأنه مقلب ، وقد نري شخصا مهلهلا بأنه ولي من الأولياء بينما آخرون يرونه عميلا من العملاء، متناولاً الفلسفة بتلقيب البلهاء بالشيوخ في أن البلهاء ليس لديهم أدني شيء من فجر الإنسان وقباحته وهو حال المشايخ ، كما يتناول بالتصوير الإبداعي المتفرقات في مفهوم الشهادة فقد يكون بالتضحية أو بالضحية في الإذلال ، كما بالحب الأول الذي يحول البشر لملائكة إلا أنه قد يصبح فرصة رائعة لتدريب ذوي الحظ من الواصلين وتأخذ المرأة حيزاً من اهتمام الكاتب، ففي مقطوعة المطر ..حوار رائع بين افكار الذكر وافكار الانثي ..حيث يري الذكر المطر سببا في اقتراب الاجساد الموجودة في مكان ضيق احتماء من المطر وتراه الانثي انه مقلب مابعده مقلب وهي فاضلة هنا لانها سرحت في الجو البارد معتزة ومحتشمة . فلسفة واقعنا الحياتي ثم يتعرض الكاتب لفلسفة واقعنا الحياتي قائلاً بتمرد ثوري علي السلبية والفساد الاجتماعي والسياسي قائلاً : لابد من شيء من الفوضي كي يفيق الغافل من غفلته ، فلم يعد هناك أحد بدون تلويث سوي الأطفال والمعتوهين والمجانين، سارداً حقائق المحاكم في انعدام العدالة المطلقة ، وموضحاًً سبب انتشار الجريمة لدي البلهاء بعد خوفهم من التصدي لجرائم الجبابرة ، ليطالب بموضع آخر في عدم الانبهار بصيت الأشخاص والذي قد يخالف واقعهم الهش ، وبذلك لا ينسي تقديم نصيحة ترتبط بواقع زمننا الصعب، ويدعمه بحكمته المسرودة علي لسان شخصياته وفيها : لا نأمن لصديق قد يحوله الغضب لعدو ، وهو ما يؤثر في ألا نبوح بعواطفنا إلا لمن يقدرها حتي نقاوم الابتزاز الذي يبدأ طوفانه بقطرة. وتبلغ روعة التصدي للواقع لدي الكاتب مداها في حواره الفلسفي الممتع مع الشيخ عبد ربه التائه عبر عدة قصص تناولت حال الدنيا ليقول فيها الشيخ بحكمته الرائعة عن الفساد والبشر: إنه ليس إبليس من ضجرت الأرض بفساده وظلمه، ليجيب الشيخ ببلاغة عن كيفية إصلاح البلد في ضرورة إيمان أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة ، معضداً في ذلك ضرورة مقاومة الجبن بعدة قصص ، يخبرنا فيها بأن الإنسان أقرب إلي ربه وهو يمارس حريته بالحق لتتحقق وظيفته الأساسية في خلافة الأرض ، ويحثنا خلالها بألا نخسر الإيمان فيضيع منا الحياة والموت وبذلك لا نستحق رحمة الله لأننا لم نسدد الدين الثقيل للحياة ، مشجعاً علي رأيه في أن الحياة قصيرة ، وسرعان ما تأتي الخاتمة كما يصورها بجملته البديعة "ما بين كشف النقاب عن وجه العروس وإسداله علي جثتها إلا لحظة مثل خفقة قلب"، وهو ما يزكيه قول محفوظ علي لسان إحدي شخصياته في مقطوعة "هدية"كنقطة مهمة حيث يشير الي اهمية الصدق مع الله والصدق مع النفس. ولم تتوقف فلسفة الكاتب في الجاد من الأمور بل زادت من فضلها في القضايا الاجتماعية الخفيفة كالحب، والتي يخبرنا فيها نجيب بقوله: إن الحب الأول هو انتقال من البشر إلي الملائكة ، إلا أنه ما هو إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين ، ثم يغدو مصوراً للحياة الزوجية بما تحمله من ضرورات الإبقاء التي تجعل من ضيق الحال سبباً لاستمرار زوجين متنافرين ، ثم علي جانب آخر يتصدي لعذاب متسولي الحب لمن باعوا أعمارهم للهوي نساء كانوا أم رجالاً. وسنلاحظ في عدة مشاهد أن محفوظ اتخذ من المرأة (التي طالت صحبته معها في الحياة وفي الفن) أداة فنية: حقيقية في المشاهد الثلاثة الأولي، ورمزية في المشهدين الرابع والخامس: فيقول عن المرأة والنضال: في مشهد بعنوان «ليلي»:«في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة تألقت ليلي في هالة من الجمال والإغراء. قال أناس: إنها رائدة متحررة. وقال أناس: ما هي إلا داعرة. ولما غربت الشمس وتواري النضال والأفكار في الظل، هاجر من هاجر إلي دنيا الله الواسعة. وبعد سنين رجعوا، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة. وضحكت ليلي طويلا وتساءلت ساخرة: تري ما قولكم اليوم عن الدعارة؟!» إن هذا المشهد ىُشير إلي بداية التحرر الوطني (في الخمسينات والستينات الميلادية من القرن الماضي) حيث خرجت المرأة إلي ميادين الحياة واختلف الناس في فهم هذا الخروج، الذي رآه البعض تحرراً ورآه البعض دعارة. ولكن الزمان اختلف علي حد تعبير الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة وجاء عهد لا يرفع شعارات النضال، ولا يتعامل بمفردات القاموس التي شاعت في الخمسينات والستينات، بل ينحت ألفاظاً أخري عن السوق المفتوحة، وفوائد السفر، والشركات متعددة الجنسيات، والرؤية الواقعية، والحل التاريخي مع إسرائيل ... إلخ. وهاجر من هاجر إلي دنيا الله الواسعة؛ بحثاً عن استثمار أمواله التي كسبها في سنوات النضال، أو للراحة من النضال، أو للبحث عن الثروة، ويصور نجيب محفوظ هذا بقوله المفيد المختصر: «وبعد سنين رجعوا، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة». وهنا يحق لليلي التي عانت من قبل من هؤلاء، في أيام النضال والثورة أن تتساءل، ساخرةً من أعمالهم الآن التي تتنافي مع أقوالهم «أيام النضال والأفكار»: «تري ما قولكم اليوم عن الدعارة؟!». إن هذا المشهد يرسم لوحة رآها الروائي واختزنها، حتي أخرجها لنا في هذا المشهد، وكأنه يقول لنا لقد عشتُ عصر الكلام الجميل، و«الأيديولوجيا الاشتراكية» الذي سرعان ما اتضح زيف أصحابه المنادين به عند أول اختبار. المرأة والزمن وفي مشهد ثان بعنوان «النهر» يقدِّم فيه صورة قد تكون حقيقية لامرأة عرفها، لكنه من خلالها يشير إلي تدفق نهر الزمن، حتي لينسينا ما مررْنا به من تجارب حميمة. والمرأة هنا هي المرآة التي ينعكس عليها جريان هذا الزمن / النهر: إن العجوز تُعيد له قطعة جميلة من حياته ونزوات صباه، وكأنها جعلته يفطن إلي تدفق نهر الزمن، وأنه لم يعد يتذكر ما عاشه بالفعل، فيسأل كأنه لا يصدق «أين ضاعت تلك الحياةُ الجميلة؟!». المرأة والتجربة الأليمة وفي مشهد ثالث بعنوان «الندم» ىُقدِّم فيه صورة للمرأة التي ترمز إلي التجربة الآثمة الأليمة أو غير الصحية التي تُقابلنا في حياتنا، والتي نتذكرها بندمٍ، ولا بد من هذا الندم الذي هو علامة صحة نفسية، واستقامة دينية، وصحوة نفس ترفض الانجراف في الخطأ، أو مداومة السير في طريقه: إن الإنسان قد يسقط، ويمارس تجربة خاطئة في الحياة، لكنَّ الوعي بألم هذه التجربة (أو تلك الذكري التعيسة) بدايةُ الرؤية الصحيحة للحياة وللأشياء، لأنها تعني تصحيحاً للخُطا، ورغبة حقيقية في عدم مداومة السير في الطريق الذي تبين خطؤه! إن المرأة الجميلة هنا ترمز للحياة الرخية الهانئة السعيدة، التي يحلم بها الكادحون في هجير الحياة، والتي لن ينالوها إلا بالتعب، والسعي في أسباب الرزق، التي يرمز إليها الكاتب ب«السوق». وكأنه يقول لنا إن حلم الوصول إلي السعادة والعيش الهنيء في ظلالها دون تعب وتتضح من الكتاب أهمية التجربة والزمن اللذين يتطلبان الفكر التأملي لخلق الحنكة والحكمة معاً ، للدرجة التي تجعلنا نتلمسها من مجرد نظراتنا الثاقبة للأمور ، ففي خلال صفحاته تستطيع تذوق مرارة كبر السن وهجرة الأحباب بعد ضعف الذاكرة والحواس ، ليصور بدقته الوصفية العمر بأنه فرصة ضائعة ، حيث تغادرنا الدنيا لحظة مغادرتنا لها ، موضحاً سطوة الموت بقوله البليغ : كل
الجبابرة أصبحوا شيوخا ضائعين ، حتي يأتي النعش فوق الأعناق. ويسير بنا الكاتب في مؤلفه الشيق، ليضعنا بشكل صريح وعلني حول واقع الصراع البشري، ومدي بشاعته وأدلته علي النفس البشرية، ثم يتساءل في موقف آخر علي الجوانب الإيجابية لهذا الصراع، متسائلا عن مدي حاجتنا للحزن لكي نجتمع معاً ، وهل هو الوسيلة الوحيدة لمحو الغيرة والحقد والكراهية ، إنها حقيقة بالغة صاغها وكأنه يذكرنا بأحوالنا في نكسات الحروب فلطالما تكشفت خلالها عن معدن الشعب الحقيقي ، للدرجة التي اعتزل فيها اللصوص والمجرمون أعمالهم ليجتمعوا مع ضحاياهم تحت شمس واحدة. وفي خلال أصداء السيرة، تطرق محفوظ لقيمة التضحية النبيلة، مصوراً أصحابها المخلصين بالشهداء، قائلاً بوصف الشهداء بأنهم ليسوا فقط من استشهدوا في الحروب، بل للتضحية وجوه أخري كثيرة فقد تكون للآباء أو للأبناء في ذات الموقف، مصوراً الشهادة في إفناء العمر والجهد لجلب المال لهم بدون إشعارهم وإذلالهم حتي لا يصبحوا هم الشهداء في حال حدوث العكس، وتسير أصداء السيرة علي هذا المنوال من القصص والمواقف الحياتية بأسلوب أقرب لشعر الحكمة البليغ، فيؤكد في إحدي قصصه الآخري علي قيمة الإصرار، قائلاً : طوبي لمن لم يعرف اليأس مهما كانت الاحباطات، فاليأس ليس أمامه إلا مقولة : علي وعلي أعدائي يا رب! وفي قصة أخري يتحدث عن الحكمة وسعادة القبور في الهجران. منبع الحكمة وتظل الأصداء منبعاً شيقا للحكمة المتقدة بالمعاني العميقة ذات الدلالات الفلسفية والواقعية البليغة، فلا تخلو قصة أو موقف من حكمة بليغة، والتي تصاغ علي لسان أحد شخوص الموقف المتحاورين، فيقول علي لسان أحدهم : قد لا نلتفت لحكمة بين أيدينا فعندما تهرب تخلف لنا الولع ، ويذكر علي لسان آخر : ستبقي لنا الذكريات والتي تجددها المصادفات أو الساعات الخلية، كما يتناول علي لسان ثالث في قصة آخري مقولته البليغة : كم هي الساعات صعبة عندما يكون مصيرنا بيد واحدة ، كما يسرد علي لسان آخر حكمة آخري توضح براعة استخدام المترادفات في شحذ التفكير والتأمل، قائلاً : يقولون ما ليس في قلوبهم ، فيخطئون المعني .. الذهب .. الدعارة، رائدة .. متحررة ، متسائلاً علي لسان آخر في قصة أخري : لماذا تفرطون في الأيام المتاحة الطيبة؟ وهو في ذلك يحارب التطلع الدائم ويستحث علي الاستمتاع بالقليل المباح والمتاح لنا في الحياة، قائلاً في ذلك أيضاً : إن لسحر البساطة سعادة كسحر البلاغة. ويتناول الكاتب في أصداء سيرته مشاعرنا تجاه الذكريات، قائلاً بأن التذكر يجب أن يسبق الندم ، وذلك علي الرغم من أن هناك ألما إلا أنه لا يقف الحنين للماضي، ويأتي في سياق آخر منفصل متناولاً قضية الصداقة، ومحذراً بواقعية وبلاغة من دخول الغضب بين الأصدقاء قائلاً : ربما صديق حوله الغضب لعدو، وذاكراً في موقف آخر العلة والعلاج وفي ذلك مقولته البليغة : طوفان الغضب يقضي علي مودة الصداقة، لكن بمصير التعاون نجاة من الهلاك المشترك قد تعود المودة من جديد. ويجد القارئ العادي بمجرد انتهائه من قراءة أصداء السيرة في مجملها، أنه أمام تعبير ضمني عن حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، ورصد همومها وأحلامها، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما أمام تصوير لحياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع، في عمل اتسم بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعا رمزيا ويتملك هذا القارئ شعور بخطورة دور الأدب في الحياة، والذي يتوقف علي الأديب نفسه، فلكل أديب رؤية خاصة تحاول أن تستخلص من الدراما الإنسانية معني، وهذا المعني يدور حول محوري الخير والشر، فالأدب صفة مباشرة، وهي أنه فن جميل، وصفة غير مباشرة وهي محاولة خلق ضمير جديد في نفس القارئ، وأهم هذه القيم هي العدالة الاجتماعية، وهي لا تنفصل عن قيم الحرية والحقيقة والعلم. لا تتصور أبدا وجود نهضة في علم أو أدب أو كل ما يتعلق بالدماغ البشري دون أن تكون الحرية موفورة بلا حدود. كما يمكننا من خلال أصداء السيرة، الوقوف علي مدي قوة تأثير الإبداعات علي المجتمع، وذلك بمدي ارتباطها برفع المستوي الفكري، وهو ما يجعلنا نتعرف أيضاً علي إخفاق العديد من الأدباء الآخرين في إبداعاتهم في مجال الآداب، فالإبداع لن يكون مؤثراً مالم يكن جزءاً ضرورياً في حياة المفكر يرفع فيه المستوي الفكري لأمته بعد أن تغيرت أنماط الحياة وسلوك البشر في العالم العربي بما حباه الله من نعمة المال وتدفق الثروات، فالتحول الحضاري الذي أبهر بعض المفكرين لن يتم له التوفيق في عالمنا العربي إذا لم نؤكد علي أصالة التراث واستمراره جيدا في حياتنا الثقافية والفكرية والأدبية للحفاظ علي الشخصية بعمق هذا التراث الطويل الذي لا يدانيه تراث آخر في إنسانيته وشموله وسعة علاقاته الثقافية العالمية. علي أن أهم الشخصيات التي نجد صداها في "أصداء السيرة الذاتية" هي: الدرويش والشيخ والشيخة وقطاع الطرق والفتي أو التلميذ أو الصبي، والمجذوب والتائه. وفي الصفحات الأخيرة من الأصداء، وبالتحديد في صفحة 101 وحتي النهاية ص156 يكون التركيز علي شخصية عبد ربه التائه التي تجمع بين الخير والنبل والصوفية والحكمة، فضلا عن جمعها بين الجنون والعقلانية في آن واحد (إنها شخصية فنان). أما عن الأماكن التي تردد صداها في أصداء السيرة الذاتية، فهي تجمع بين الحارة وحلقة الذكر والسبيل والكهف داخل مدينة القاهرة كعادة الكاتب في معظم رواياته وإذا أراد الخروج من أجواء مصر القديمة أو القاهرة الجديدة، فإنه يذهب إلي الإسكندرية كعادته أيضا في رواياته أو بعض فصولها التي انتقل بأجوائها إلي الإسكندرية مثل ميرامار والسمان والخريف. ومع نهاية المطالعة لأصداء السيرة أيضاً، يجد الممارسون للأدب من الآدباء الشبان أنفسهم أمام أسلوب إبداعي مبتكر لكتابة أصداء السيرة، ودرس تعليمي بليغ لهم في الابتكار الإبداعي، فيعلمهم محفوظ كيف يبعثون العبير بين السطور، وكيف يرشقون النقاط نجوما دافئة في سماء ليالينا الدافئة، ويعلمنا كيف نردم الهوة المفجعة بين الفكرة في الذات والفكرة نفسها حينما تخرج من الذات إلي قالب اللغة، فهو معلمنا كيف نخلق التطابق بين أحاسيسنا وبين هذه الأحاسيس بعد أن نرسمها في وجود الآخرين بحروف، لطالما بقي موحيا لها وظل يحتل وجدانها. بينما تمكن قراءة أصداء السيرة دارسو الأدب ومتخصصوه من الاتفاق علي ضرورة العناية بالدراسات البحثية للقصص القصيرة لنجيب محفوظ، وخاصة أعماله الأخيرة كأصداء السيرة وأحلام فترة النقاهة، فعلي الرغم من أن انجاز نجيب محفوظ الأدبي الضخم يتمثل في مجال الرواية، فإن الكثير والكثير جداً من قصصه الاجتماعية والميتافيزيقية والسياسية هي في الواقع روائع أدبية علي أي مستوي، وتستحق دون أدني شك أن يعترف بها عالمياً. ويمكننا كذلك أن ننتهي من خلال هذا العمل إلي تكشف سر من أسرار تميز نجيب محفوظ في أصداء سيرته وذلك علي لسانه هو ذاته، حينما قال نجيب : إني جعلت الحياة الأدبية والفكرية حياة تحيا لا مهنة تمارس، بمعني أنها تحوي كل أهميتها في ذاتها، فمجرد أن أعيش مفتوح الحواس والعقل وأقرأ أو أكتب، هذه حياة وعمل في الوقت نفسه دون النظر إلي نتائج خارجية، وهو ما جعله أديبا ركض نحوه الموت وأبي أن يستسلم إليه، فدون رائعتيه الإبداعية، أصداء السيرة الذاتية وأحلام في فترة النقاهة، وهو علي فراش السنوات الأخيرة لمرضه. فنجيب واحداً ممن استطاعوا تعديل البيئة المادية التي يعيشون فيها، بعد ثورته لدمج الأعمال الأدبية في الإنتاج السينمائي، الأكثر مشاهدة وتأثيراً، ولم يكن ذلك إلا لتطور إبداعاته ودقة تصويرها الواقعي لطبيعة النفس البشرية، وهو ناجم عن شخصية محفوظ الثرية من خلال مطالعاته وبيئته الحياتية، وهو ما جعله عاملاً في تعديل البيئة المادية التي يعيش فيها ، معبراً للدنيا عما تتيحه هذه البقعة الفذة من العالم (مصر) ، ذلك لأن معدل السرعة في تغير البيئة وهو المعدل الذي يزداد يوماً بعد يوم يوازن الخصائص الأساسية العامة للمواطن المصري، وهي الخصائص التي احتفظت بوجودها وفاعليتها علي الرغم من الأحداث الكثيرة في التاريخ المصري الطويل، وهو ما ذكره نجيب عندما تسلم جائزة نوبل من قبل، قائلاًُ بأنه ابن هذه الحضارات العظيمة الضاربة بجذورها في التاريخ. ومن خلال أصداء السيرة أيضاً، فإنه يصاحبك إيمان قوي بضرورة استمرار الإبداع، لما يمكنه من كشف الحقائق، وإثراء الشخصية التنموية، لذا فإنه يجدر بنا التعرض السريع لبعض المؤثرات التي ساهمت في تغذية موهبة محفوظ الفذة (1911-2006)، حتي أثمرت وأينعت، وحققت لصاحبها كل هذا المجد المستحق، فمنها ما يرتبط بالإطار الزمني وما أتاحه تواجده في عصور الزعماء كسعد زغلول وما أثارته ثورة 1919، بالإضافة للإطار المكاني فيما أمضاه من طفولة ثرية في حي الجمالية حيث مولده، ثم ثراء الخبرة بالانتقال إلي العباسية والحسين والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة الثرية بالتاريخ، وبالمواقف الحياتية، وصنوف البشر، وهو مما أثار اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة، لكن يعد أهم المؤثرات علي الإطلاق هو التعليم، والقراءة ، والشخصية المتوازنة، والنظام الصارم الذي وضعه محفوظ لنفسه والتزم به، ففيما يخص التعليم فبعد أن أنهي محفوظ مرحلة الكتاب والدراسة الابتدائية، التحق بمدرسة فؤاد الأول الثانوية 1925 وكان بها مدرسون فرنسيون وبريطانيون لتدريس اللغات بجانب المدرسين المصريين الأكفاء، حتي أنه تعد فترة تعليم محفوظ هي العصر الذهبي للتعليم في مصر حتي الآن، ويضاف لذلك جوانب استكماله للتعليم والتحصيل بحصوله علي إجازة الفلسفة عام 1934، وأثناء إعداده لرسالة الماجستير " وقع فريسة لصراع حاد" بين متابعة دراسة الفلسفة وميله إلي الأدب الذي نما في السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين، إلا أنه وبعدما بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936، انصرف إلي العمل الأدبي بصورة شبه دائمة خاصة بعد التحاقه بالوظيفة العامة. وأخيراً فهذا الكتاب رائع بحق.. فهو كاف لإبهار قارئيه حتي القراء الجدد ... صحيح أنه يحوي الكثير من الغموض لكنه ليس الغموض الذي ينفرك من القراءة بقدر ما يجعلك تتأمل فيما كتب..هناك حكايات جميلة جدا خاصة فيما يتعلق بعبد ربه التائه ..و هو أيضا واحد من تلك الكتب التي لن تسأم منها إن قرأتها مرة أخري وأخري وأخري.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.