في الوقت الذي احتفل فيه العالم بذكري ميلاد أديب "نوبل" نجيب محفوظ ال98 بالطريقة التي تليق بقيمته، لدرجة أن (جوجل Google) أشهر محرك بحث في العالم، وضع نظارة الأديب العالمي الراحل في صدر صفحته الرئيسية في يوم ذكري ميلاده، بالرغم من هذا الاهتمام العالمي، اقتصرت احتفالاتنا في مصر، حتي كتابة هذه السطور، علي احتفاليتين فقط، إحداهما في "ساقية الصاوي" والأخري مكتبة "القاهرة الكبري"، التي وللأسف شهدت غيابًا كبيرًا ليس من الجمهور فقط، الذي لم يتجاوز عدده أصابع اليدين، وإنما من مريدي نجيب محفوظ خاصة الكاتبين محمد سلماوي ويوسف القعيد اللذين وجهت لهما الدعوة للحضور. أبدي محمد الشربيني أحد مريدي نجيب محفوظ أسفه لذلك الغياب الذي شهده الاحتفال بذكري ميلاد محفوظ، وخوفه من نسيان هذه القامة الأدبية المتفردة قائلا: أخشي أن ننسي نجيب محفوظ في الأعوام القادمة، ولا أجد تفسيرا لتجاهل حضور احتفالية تخص الأستاذ، بالرغم من أنه رمز كبير قدم عطاء متميزا. وأكمل: حبا ووفاء لذكري الأستاذ لا يزال محبوه يلتقون مرة كل شهر، بالقرب من بيته، ناقش رواية من رواياته، أول عمل من أعمال الشباب التي لها درجة من المصداقية، ومعظم الحاضرين هواة من الأطباء والصحفيين وأساتذة الجامعات. وطالب الشربيني المسئولين ورجال الأعمال، أن يتم تأسيس، ونحن نستعد لمئوية ميلاد نجيب محفوظ، "منتدي نجيب محفوظ الثقافي القومي"، ولا يكون مهمته الحفاظ علي تراث نجيب محفوظ فقط، وإنما ضرورة أن يتشكل من كتيبة من مثقفي مصر لمواجهة الانحدار الثقافي الذي نعيش فيه، من أجل إعادة دور مصر الثقافي والحضاري إلي الصدارة، وأن يصدر عن هذا المنتدي مجلة ويكون لها جائزة أدبية، وكتب للشباب ونشرات في مختلف فروع العلم والمعرفة. ونجيب محفوظ ليس مجرد أديب فهو سبيكة مختلفة يتكون من أشياء كثيرة ومعادن نفيسة استطاعت بتفردها وإحساسها بالمجتمع والعامة والثقافة الشعبية أن تصل إلي ما وصلت إليه، وأن يكون من اختصاصات هذا المنتدي، الحفاظ علي كرامة المثقفين والمبدعين، وحمايتهم من استجداء العلاج من الدولة. ومن جانبه قال محمد حمدي مدير المكتبة: لئن كان توثيق فكر وكتب نجيب محفوظ تكفلت به هيئات ودور نشر عدة، فإن الحوارات الشفهية والجلسات التلقائية "الحرافيشية" لم يتم تسجيلها وتوثيقها، رغم أن الأستاذ كان حريصا علي المواظبة علي جلسات هذه الصحبة، ولا يمنعه عنها إلا المرض، فمن خلال هذه الجلسات يري الواقع الذي انفصل عنه، يسمع ويعرف أخبار السياسة والاقتصاد والمجتمع والأدب أولا وأخيرا، لذلك كان أصدقاء محفوظ روحًا ثانية له، تري وتسمع وتشارك، وتعلق محفوظ بحرافيشه جعل البعض يشك في أنه كان يدخل جلسائه في رواياته. وتحدث الدكتور زكي سالم عن النزعة الصوفية عند نجيب محفوظ قائلا: علاقة نجيب محفوظ بالتصوف قديمة جدا، وتتجلي في بواكير أعماله الأدبية، واختياره لدراسة الفلسفة بكلية الآداب ودراسة التصوف تعد جزءا من الدرس الفلسفي في مختلف مدارسه وعصوره، يضاف إلي ذلك أسلوب حياته الشخصية، فكل من اقترب منه لمس مقدار زهده وترفعه عن أشياء كثيرة جدا يتهافت عليها الغالبية العظمي من البشر. وهذا الاهتمام العميق بالتصوف - فكرا وسلوكا وتجربة- أخذ يتبلور ويتألق في شخصيته وإنتاجه بمرور الزمن، مع قراءاته المتعمقة وازدياد خبراته الحياتية وكثرة تأملاته، ومن ثم فهمه لعلاقات البشر وحقيقتهم وإدراكه لمعني الموت والحياة وفلسفته ذات طبيعة ديناميكية وليست استاتيكية، فهو لا يكرر معاني سبق أن قالها كبار الصوفية، ولا يعبر عن أحوال غيره، ولا يتحدث عن مقام لم يصل إليه، وقد عبر عن ملامح طريقته الصوفية في عمله الفذ "أصداء السيرة الذاتية"، الذي خلد فيه بعضا من خبراته الشخصية وتجاربه الروحية. كما كان اهتمامه في سنواته الأخيرة بالأحلام التي يراها في نومه، الغوص فيها وتأملها، وسيلة من وسائل تطور رؤيته الصوفية، وهذا التفرد في الرؤية مع وجود ملامح مشتركة أو متفق عليها هو علامة من علامات الطريق الصحيح الموصل إلي الحق سبحانه وتعالي، فكما يقول الصوفية: الطرق إلي الله بعدد أنفاس الخلائق.