حتي آخر يوم من العام 2011 يستمر معرض الفنان الكبير جمال مليكة المُقام حالياً في جاليري سفر خان بالزمالك.. والتي جاءت لوحاته بعد عرضها في لندن في جاليري "هاي هيل"مع ثلاثين من أعمال النحات العالمي " اوجست رودان ". المعرض يضم مجالي رؤية.. مجال يقدم معالجة لأبي الهول بثقل سحري لزمن ثقيل غير متحرك وإن كان ممتداً أو راقداً في مكانه .. وهذا لن أتكلم عنه.. والمجال الآخر يقدم معالجة من خلال حوالي اربع عشرة لوحة يبدو فيها الزمن هو الشخصية الرئيسية.. وهذا ما أتكلم عنه كجانب من عدة جوانب يمكن من خلالها التسلق إلي عالم مليكة. فالفنان مليكة يجعل الزمن هو الشخصية الرئيسية .. وبشخوصه ذاتها يصبح الزمن شيئاً ذاتياً محضاً.. لذا ىُعد الزمن ركيزة العمل في لوحاته ولا ىُخضعه لقانون عضوي أو ميكانيكي.. فالعودة الي الماضي وتجاهل العالم الخارجي وانعدام النظام المنطقي يعتبر هذا كله من السمات البارزة التي تميز البناء المعماري للوحات مليكة.. ورغم هذه البنائية الا ان لا شخوصه ولا أهراماته في تداخلهما المُربك ولا في تقابلهما يخبرانا بمجري الواقع بقدر ما تُوحيا الينا بصدي هذا الواقع. ومعالجات مليكة لشخوصه تتمثل علي هيئة شرائطية في حركة دائرية باتجاه اقواسها العنيفة كأنه تقطيع في بنية الزمن الحية لتجعل من الوجود مجرد ذكريات تنهمر في شكل مونولوج داخلي دافق يخلف فراغاً داخلياً ذي مظهر خارجي من شدة الانهمار.. وليبدو الزمن في رمزيته بأهراماته وبتداخلها مع الوجود الإنساني في اللوحاته كقوة غامضة مُؤثرة تحكم الأشياء وتتحكم فيها. ولجمال مليكة لوحات يبدو لنا حاضرها بشخوصها كأنه حاضر مليء بالثقوب تنفذ من خلاله هبوات الماضي ورموزه الذي لا يتخذ صفة التسلسل إنما مُجرد نمط من الخطوط الشرائطية والتهشيرات اللونية الانفعالية الحادة نائبة عن الأحداث الصاخبة والحركة العنيفة التي تدور وتلتف في دفقات متلاحقة من الصور والأحداث كأنها أشباح أو أوهام حياه بشرية.. فهل أراد مليكة تحطيم الزمن في وحدات شرائطية متقطعة في لوحاته لتتماثل نقلات الرؤية الذهنية شديدة الاندفاع وسمة تيار الوعي المُتقافز في اقل من اقل من اللحظة في الزمان والمكان والحدث مهما بعُد.. وقد فعل مثله بالزمن من قبل ادباء كثيرون من كُتاب رواية تيار الوعي مثل "ويليام فوكنر" و"جيمس جويس" و"فرجينيا وولف" و"مارسيل بروست " وهؤلاء جميعاً حاولوا تحطيم الزمن فسلخه بعضهم من ماضيه ومستقبله وسلخه البعض من حاضره وجاء" ويليام فوكنر" واطاح برقبته وتبعه في ذلك "مارسيل بروست". وكما في اللوحات نري شخوص مليكة لا تعيش علي حالة زمنية واحدة.. فشخوصه متمردة حتي علي زمانها ولا يمكن تجميدها وتحديدها بأنها كإنسان تعني فقط "كمية ما لديه" فطبيعة الوعي تُملي عليها التغيير والتجديد .. وأيضاً الرؤية الباطنية للأشياء تجعل الفنان يحول اهتمامه من الخارج الي الداخل فأصبح لا يرينا في شخوصه ما هو منظور بل يجعل ما لا نراه يبدو منظوراً. وقد نُدرك تقابلا مُتناقضا للزمن في لوحات مليكة التي تضم شخوصا واهرامات فوق مسطح واحد.. فمثلما تتحرك شخوصه مندفعة للأمام نحو المستقبل هي أيضاً تقترب من شيخوختها.. وعلي نفس المُسطح نُدرك شيخوخة الماضي في رمزية مباشرة لأهراماته التي أمست تاريخاً.. فرغم اتجاه الزمن او الحركة المختلف الي الأمام والي الخلف إلا أن كلا الاتجاهين يقود للشيخوخة.. فما الذي ىُقيم العلاقات المُتضادة بين اختيارات مليكة ؟ وهل تقام علاقة عميقة بين الفراغ والموت والزمن والحياة ؟ اعتقد ان لوحات مليكة ترتبط وثيق الارتباط بجوهر العمق وىُنظر اليها بالإضافة الي الطول والعرض الي بعديها الثالث والرابع ليتحقق العمق الذي فيه ينشط الوعي اليقظ.. وهذا العمق اليقظ يتحقق ايضاً بذلك السرد البصري المُفاجئ الحركة من الحاضر الي الماضي ومن الماضي الي ما قبله أو من الحدث الجاري الي الحدث المُتذكر تماماً كروايات تيار الوعي..لكن رغم الحيوية الشديدة الحركة والانفعالية إلا أنه لا شئ في لوحات مليكة يمكن ان يعطي نوعا من الحسم او النهائية للقرار بل هي كتيار مائي سابق ولاحق .. وفي بعض لوحاته يبدو تيار دوامات خطوطه وتقاطعاتها المُهشرة كأن الهواء داخلها وحولها منهك القُوي لطول ماحمل من اصوات عبرت الزمن.. أو كأنما بدلاً من ان تنتهي الي الصمت ازدادت ضوضائيته. أخيراً اجد اعمال مليكة « ليست هذه فقط في سفرخان» أجدها كأنها مُنتمية للنفس الأولية للحضارة الفاوستية.. هذه النفس التي اعتمدت المنهاج التحليلي الفراغي اللانهائي التي تقصد أبعاد الطول والعرض والعمق ولا تُقيد نفسها بالحاضر والمكان وإنما ترتبط بالزمان والفراغ حتي تماثيله نراها مُفرغة تُقيم نفسها علي صراعها التبادلي بين السالب والموجب.