لوحات معرض الفنان أيمن صلاح طاهر في جاليري «اكسترا» تثير الحيرة لذلك الثراء في الأفكار وبمعالجات مختلفة فقد يحدث تكتل لعدد من اللوحات لعرض فكرة معينة نري نقيضها في التكتل المجاور.. وهكذا.. لكن يظل في كل لوحاته محوره المفاهيمي هو مشكلة «الحرية».. حرية الجسد وحرية التواجد وحرية انفلات الذات من محيط يطوقها ويحاصرها.. مما يجعل لوحاته تبدو وكهيكل ضخم من الضجة بين مجالي حركة وطاقة العضوي والهندسي.. والمتماسك والسائل.. ولما لعمليات التحول الداخلية من ضجة رغم عدم مرئيتها وكأن باللوحة بُعدًا وعمقًا محركًا بعنف لا نراه ولا نري منه إلا صورة مغلة علي الجسد المادي المطارد له. ويبدو لي في لوحات ومعالجات الفنان أيمن أكثر من منهج ومعالجة كأنه لم يستقر علي بحث خاص في أي منهم بعد.. لكنه يجرب نفسه.. وسأحاول عرض ما رأيته من أهمها. في كثير من لوحاته أكد علي إطار خارج حدود شخصياته يلازمها ويحيطها في حركتها ويطوقها كأنها حقول الطاقة المنبعثة من أجسادهن والتي يمكن إدراكها ورؤيتها في الواقع عن طريق التصوير بطريقة «الكليرين» والتي تُظهر كل ما يُصور بهذه الطريقة محاطًا بهالة نشطة.. كذلك يتفق هذا وطريقة التصوير «فليرين» التي تتيح لنا رؤية الطاقة الحرارية التي تتدفق حولنا باستمرار.. ففي أيهما يبحث الفنان؟.. المؤكد هو يبحث في القيمة الجمالية لكن حركات شخوصه خاصة الراقصة منها يبدون كأنهم يعانون من طقس سحري أقرب لرقصات طقوسية بدائية يدعم فكرة الهالات المحيطة لهم كمجال حراري وطاقة خارجية تكشف ما يمور بالداخل من انفعال وحركة تقاوم الإطار الخارجي السميك المحيط بالجسد المسمي جلدًا.. وقد بدا هذا في أكثر من لوحاته الراقصة في عنف وربما في لاوعي سحري.. وفي لوحات أخري وعلي النقيض تمامًا ندركها طاقة نقطة الصفر وقد بلغها أحد شخوصه مثل لوحة «امرأة جالسة» تحيطها خلفية فعالة متوهجة بل متشظية من شدة فعل اللون بينما هي جالسة في سكونية جسدية تامة.. كذلك في لوحة «الجالس» بلغ في وصفه حالة من السكونية كبلوغه نقطة الصفر يحيطه جدار ضيق عليه الفنان المنافذ ويأخذ الجالس وضعية تقترب كثيرًا من لوحة «الباب أنيوست العاشر» 1953 للفنان الأيرلندي الأصل فرانسيس بيكون والتي رسمها دراسة عن فيلا سكيز.. وأناظرها بهذه اللوحة لأن الجالسين لهما نفس الوضعية ثابتين متشبثين بمقعدهما في مقابل المشاهد بينما اختلف المحيط حولهما تمامًا.. ففي لوحة بيكون الخلفية تتدفق في مسار رأسي لدفع سير الزمن الخفي عبر ثلاثمائة عام من لوحة فيلاسكيز 1650 إلي لوحة بيكون 1953.. وهذا الدفع عصف بالبابا حتي نكاد نسمع صرخته وقد تشبث بكفيه بذراع المقعد بينما جالس أيمن نجده وقد تجمد في المكان وأغلق عليه الزمن بفعل الشرائح المنشورة في الخلفية التي تشبه اتجاهات الحركة المنشورة في الجليد لحظة تجمده بشبكاته المسننة حتي أن الجالس يري لونه متجمدًا وقد بلغ منطقة ما تحت الصفر. وأيضًا في لوحات الفنان أيمن.. هناك العديد من تكرار لإشارات بدائية في علاقات الشخوص وبعضهم البعض.. ربما رغبة منه في إظهار تجليات للمقدس أو الأسطوري.. لذلك في بعض لوحاته نجد نشاط شخصياته المتموج ليس كمجرد مسألة تفاعل لقوي مادية بل هي كما رأيتها تتجاوز البدنية وتضعهم علي أكثر من بعد وجودي تكشفها علاقة الشخوص ومحيطها المموه المتصادم كأنهم شخوص قدرية في مشهد من مشاهد «جحيم دانتي اليجيري» في رائعة «الكوميديا الإلهية» إلا أن شخوص أيمن لا تعاني وجوهها بل الأجساد وحركتها الحائرة وبحث عن الحرية من ذلك التطويق الجسدي السميك فهذا جحيمهم الخاص. وفي لوحات أخري أدرك تأثر الفنان بخبراته السابقة في التصوير تحت الماء.. حيث تسبح شخوصه في بعض اللوحات في سائلها المحيط دون أن تفقد علاقتها والجاذبية يحيطها غلاف شفيف كأنها داخل رحم أمومي أو هو الرحم الأرضي في موقع ما في عمق المائي.. وهنا تعلو رمزية العالم المائي- إن قصدها الفنان- والتي أدركها بتلك الحركة غير الموجهة لشخوصه داخل متاهة من سائل قد يبدو لزجًا أحيانًا أو شفيفًا.. وفي الحالين شخوصه داخله تبدو هائمة خفيفة الجسد. .. ربما لفترة أحدث أيمن إزاحة خاصة، وبخبراته من العالم المائي التحتي إلي العالم الأرضي الفوقي الذي يبدو من غموضه أكثر مما يفصح.. وهذا يتفق وحركات شخوصه وراقصيه.. فهم يرقصون دون سعادة الفعل بل سعي مجهد لكسر نطاق المحيط. ولتبدو شخوصه هيكلاً بصريًا من الاضطراب ومحاولة التفاعل التمثيلي والآخر وليؤدي هذا التفاعل إلي التجزؤ والتشظي أو حتي الإطاحة المتعمدة للمحيط السائل أو لغلافه الرحمي المحيط.. ولتبدو كثير من اللوحات مثيرة للقشعريرة كنسيج عضوي يحوي داخله إنسانًا بشكل عنيف ربما أراد الفنان أن ينقل لنا تشوش الإنسان الذي تتغير فيه مفاهيم ماديته الجسدية حتي أن مظاهر الفعل لا تنبئ عن دافع الفعل.. فالرقصات لا تبدو مبهجة بل هي أقرب للرقصات المأتمية.. والجسد يبدو أقرب للاهتراء من التماسك.. وشخوصه ضائعة بين وعي أو لا وعي وجودها. أري الفنان أيمن جاداً للغاية ومجرباً يقدم مساحة تحتمل رؤي عديدة أهمها الإنسان وفكرة حرية وجوده.