فيلمان كبيران كانا مركزا لكثير من الجدل والخلاف في مهرجان «كان» الأخير.. الأول والذي يحمل اسم «بوليس» فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.. بموافقة كثير من النقاد والمختصين، أما الثاني ويحمل اسم «الجلد الذي أحمله» وأخرجه المخرج الإسباني الأكثر إثارة للجدل بدرو المودوفار الذي خرج من المسابقة «الثانية» دون أية جوائز وهذه هي المرة الثالثة التي تصدم لجان التحكيم في هذا المهرجان السينمائي الشهير، أكثر المخرجين الإسبان شهرة وربما أكثرهم موهبة أيضا. «بوليس» هو الفيلم الأول لمخرجة فرنسية شابة تدعي مايدين لوبسكو .. وكما يوحي الاسم، يبدو أن أصول هذه المخرجة ليست فرنسية محضة.. الفيلم الذي شاركت المخرجة في كتابة السيناريو الذي يعتمد كما تقول سطوره في بدايته علي أحداث واقعية يدور في كتيبة للشرطة مهمتها حماية الأحداث الذين يتعرضون للتحرش الجنسي خصوصا من أقرب الناس إليهم.. والفيلم يربط بين هذه الأحداث المروعة الصادمة وبين الحياة الخاصة لهذه الكتيبة المؤلفة من مجموعة من النساء والرجال تأثرت حياتهم وتصرفاتهم بشكل مباشر أو غير مباشر بالأحداث التي يحققون فيها. ليونة شعرية سيناريو مغزول بعناية فائقة وكأنه قطعة من «الكانافاه» ذات ألوان مبهرة وليونة شعرية فائقة. الفيلم يبدأ بتحقيق مع والد في الأربعين متهم بالتحرش بابنته البالغة عشرة أعوام الأسئلة تنهال كالسياط.. جريئة.. مقتحمة لا تترك أي تفصيل أو أي شرح.. والرجل الذي يدعي البراءة ينهار أمام سهام الاتهام ونظرات ابنته وإجاباتها البريئة. أي أن الفيلم قبل أن يدخل في تفاصيله الكثيرة التي ستشمل أكثر من قضية وأكثر من حادثة وأكثر من مراهق ومراهقة يصيبنا بالضربة القاضية منذ مشاهده الأولي ويهيئنا لمواجهة ما نري .. وتفتح أمامنا أبواب الجحيم الذي سنعيش فيه أو الذي نعايشه بالأحري.. مغمضي الأعين متجاهلين ما يجري أمامنا من هول ورعب في هذا المضمار الذي يعتبره البعض «تابوه» محرما لا يجرؤ أحد علي الاقتراب منه أو معالجته بصراحة حقيقية. أحداث واقعية وتتوالي الأحداث .. رهيبة تكاد أن تجنح للخيال لولا تأكيد الفيلم لنا منذ البداية .. إنها أحداث واقعية لكن جانب الخيال تختزنه المخرجة الشابة للحديث عن عواطف ومآسي هذه الكتيبة التي تعيش أهوال حياة عصرية فقدت بوصلتها تماما، حيث نري -جدا- تجاوز الخامسة والسبعين وقد اشتعل رأسه شيبا يعترف بممارسة الشذوذ مع حفيده البالغ من العمر ثمانية أعوام، أو هذه الأم السوداء البشرة التي تأتي بمحض ارادتها لكتيبة الشرطة لكي تسلمهم ابنها البالغ أيضا من العمر تسعة أو عشرة أعوام بعجزها عن إيجاد مأوي دافئ له أو طعام يأكله ومحاولة أحد أعضاء الكتيبة وهو من أصل عربي أن يجد حلاً لها ولابنها لكن الرئيس القاسي القلب يرفض إيواء الأم ويوافق علي قبول الطفل في أحد الملاجئ الرسمية مما توافق عليه الأم مرغمة وتترك ابنها فريسة موجة بكاء عارمة وأنين وحشي .. يختلط فيه الحزن العميق بالخوف من المجهول في واحد من أجمل مشاهد الفيلم وأشدها تأثيرا ورهافة في الإحساس والتعبير. أو هناك هذا الأب المسلم المؤمن الذي قرر تزويج ابنته برجل يكبرها سنا والذي يتلقي درسا في الدين مليئاً بالعصبية والإخلاص من إحدي موظفات هذه الكتيبة والتي تعود أصولها هي أيضا إلي بلاد المغرب العربي. تنجح المخرجة أيضا بشكل بارع جدا في رسم علاقة حب تبدو أول الأمر عابرة ثم ترسخ بقوة بين مصورة ذات أصول عربية قيد التمرين وبين أحد مسئولي هذه الكتيبة الذي يعيش حياة زوجية متأزمة كيف يولد هذا الحب وكيف ينمو وينتصر من خلال الأزمات والمآسي التي تعيشها أو تعايشها هذه الكتيبة الخاصة. مأساة مراهق وأخيرا مأساة إحدي كبار المسئولات في هذه الكتيبة التي تسلل الفساد الذي تعايشه كل يوم إلي حياتها الخاصة والعامة وعلاقاتها بأقرب الزميلات إلي قلبها والتي تكشف لها في لحظة حقيقية مردة التحول الغريب الذي طرأ عليها مما يقودها إلي الانتحار. في الوقت نفسه الذي نري فيه مأساة مراهق في الثانية عشرة يعتدي عليه مدربه في الجمباز وتحاول المسئولة عنه إفهامه نوعية هذا الاعتداء وأخطاره علي مستقبله. الفيلم رغم طول مدته «ساعتان وربع الساعة» يسير بإيقاع مدهش متناغم بين الخيال والحقيقة ويلمس بقوة ورهافة حس مشاكلها جنسية ونفسية لم تعتد السينما علي معالجتها بهذه الصراحة المطلقة وهذا الحوار المدهش. لذلك لم يكن غريبا حقا أن يحظي الفيلم بهذه الجائزة الكبري التي نالها في «كان» وأن يرقي بمخرجته الشابة إلي الصف الأول من المخرجات الفرنسيات الواعدات والقادرات علي التصدي لأكثر الموضوع ديناميكية والتهابا .. بصراحة مذهلة يجعلنا رغما عنا نؤمن بالدور الاجتماعي الكبير الذي يمكن أن تحققه السينما. ورغم إعجابي العميق بسينما المودوفار ونزعتها الطليعية وقوة التحدي التي تطل من أحداثها والتجديد المدهش في سرد وقائعها فإني قد أوافق لجنة التحكيم علي تجاهلها فيلمه الأخير رغم التوقع العالمي له بالفوز بعد إحباطه قبل ذلك مرتين من خلال هذا المهرجان نفسه. فيلمه الجديد الذي يحمل عنوانا مثيرا يتكلم كعادته عن أشياء كثيرة يجمعها خط درامي واحد مثقل بالأحداث والشخصيات .. إنه يروي مغامرة طبيب جراح شهير استطاع بمهارته أن يحقق نجاحا في إدخال جينات خارجية لنطاق الجسم البشري يمكنها أن تغير من طبيعته ومن هويته كما يستطيع أن يضع «جلدا» جديدا للوجه لكي ينتقل الإنسان الذي وقع تحت سيطرته من دنيا إلي دنيا أخري.. إنه يشرع في إتمام تجاربه بعد حادث مأساوي تعرضت له زوجته التي هربت مع أخ غير شرعي له، ولكنهما يقعان صريعي حادث سيارة مروع يحترق في أثرها وجه الزوجة وتتشوه .. ثم تنتحر مسببة لابنتها الشابة صدمة كبيرة تقودها إلي الإدمان وإلي مصحة نفسية .. ما إن تخرج منها حتي تتعرض لحادثة اغتصاب يقوم بها زميل عصفت المخدرات بعقله.. وتموت الابنة في المستشفي بعد هذه الصدمة ويقرر الطبيب الموهوب أن ينتقم من الشاب بأن يحوله عن طريق عملية جراحية معقدة من رجل إلي أنثي وأن تصبح هذه الأنثي عشيقته! أحداث خيالية الفيلم كما نري ينهض علي أحداث خيالية يختلط فيها جنون المودوفار بهلوسته .. وتتوالي فيه التيمات التي برع هذا المخرج الذكي والشديد الموهبة في تقديمها الجنس والجريمة والطب القاتل والثأر والأجواء الغريبة التي تعكس وراء أناقتها وجماليتها المفرطة وحشية إنسانية تصل أحيانا إلي حد اللاحتمال. وكعادته يزين المودوفار فيلمه بموسيقي مدهشة وديكورات خلابة معتمدا علي أداء يصل إلي حدود الإعجاز أحيانا من أبطاله جميعا.. «بانديراس يعود إلي مكتشفه الأصلي بدور شديد التعقيد» البراءة والأمومة وصلة الأرحام تبدو في هذا الفيلم قوية ذات أبعاد درامية مقنعة.. الأم التي تلد أخوين أحدهما من أب أرستقراطي والثاني من خادم عابر ويتقاتل الأخوان علي امرأة واحدة. الجنس والاغتصاب الفكري والجسدي هما الأساس الذي ينهض عليه الفيلم كله من خلال تنويعات درامية تقفز بك من حادثة إلي أخري معتمدة علي تشويق بارع وعلي تكنيك في السرد ربما تعود أصوله إلي ألف ليلة وليلة ، حيث يقودك كل حدث إلي حدث آخر مختلف .. وتتفرع الأزمنة بين ماض وحاضر في تشكيلة مدهشة تجعل المتفرج يقع في متاهة سينمائية عذبة .. يشعر فيها أن المودوفار اللاعب الأكبر يجذب خيوطه كما يشاء ويتلاعب بعواطفه حسب أهوائه ومزاجه. وينجح المودوفار رغم تعقد أحداث سيناريو فيلم بات يجذب المتفرج إليه كما تجذب أفعي الكوبرا فريستها مسحورا لا يملك من أمر نفسه شيئا .. ولكنه بعد أن يخرج من القاعات المظلمة ويبدأ بمراجعة نفسه واستعراض هذه الأحداث التي سحرته وأنسته نفسه .. يحس أنه قد وقع فريسة «ساحر بهلوان» تلاعب به كما يتلاعب بالبيضة والحجر. وأنه آخر الأمر لم يبق في يديه إلا خيط دخان. درس سينمائي بارع ولكنه قد يكون «أجوف» من الداخل تحيط به ألوان سحرية جاذبة ولكنه آخر الأمر لا يصل إلي شيء. فيلمان كبيران في زخم أفلام كثيرة مهمة قدمها لنا المهرجان الأوروبي واشعرتنا كم أننا مازلنا في سينمانا المتعثرة بعيدين حقا عن هذا الفن الذي يتطور بسرعة هائلة.. وكأننا في كوكب آخر لايمت إلي كوكب المريخ السينمائي الجديد بأية صلة.