حيثما تولي وجهك تجد ما تكتب عنه، هذا هو الحال في مصرنا الغالية، فالكتّاب في مصر يعيشون في بحبوحة من المشاكل، غيرالحال في بلد كألمانيا أو سويسرا مثلا الذي علي الكاتب أن يبذل جهدًا فائقًا حتي يعثر علي مشكلة يتيمة يكتب عنها . وبالمناسبة ليس من الضروري أن تكون ذا موهبة عالية لتكتب، فقط اسمع نصيحتي واحضر ورقة وقلما وقل يا هادي وستجد نفسك كتبت صفحة أو صفحتين فلوسكاب، وقد تنسي نفسك كما حدث معي يومًا ووجدت بين يدي مائتي صفحة كانت هي كتابي المسمي " كفاية " وهذا ما يفسر النجاح غير العادي للفيس بوك وتويتر في بلدنا، إنها الضغوط المرعبة التي يعيش الجميع تحت ثقلها، والتي حولت بقدرة قادر الجميع الي كتّاب ومعلقين وساخرين وحكماء . فمثلا يمكنك القول بأن سبب الحالة التي نحن عليها هي الرئيس مبارك وتبدأ بذكر عيوبه، هل تستطع قول ذلك؟ هل سيعييك أن تعدد مساوئ المخلوع؟ آخر، قد يقول لا، المشكلة كانت في الحزب الوطني، أو التوريث، وآخر ربما يتشبث بالقول إنها النسبة العالية للأمية، لا المشكلة في الثقافة، لا المشكلة في الفقر، وغيرك قد يتقعر أكثر ويقول السبب يكمن في تآكل الطبقة الوسطي، وانقراض البيض البلدي واللحمة البلدي والرقص البلدي، وكله صحيح. الكذب العام أنا الليلة اكتشفت سببا جديدا هو الكذب العام، أو الكذب العلني " قلت كانت تائهة عني فين" والكذب العام هو بذرة شريرة وجدت طريقها الي التربة المصرية ابتداء من منتصف القرن الماضي، صحيح أن طول عمرها موجودة حتي من أيام أمنا حوا وأبونا آدم اللذان سارعا بإخفاء عورتيهما علي اعتبار أنها كذبة بيضاء ،أو ربما لاعتبارها أول درس في الأدب أرادا أن يلقناه لأطفالهما إلا أنها في حالتنا وجدت من يحميها ويرعاها ويرويها، فنمت، وترعرعت، وصارت أشجارًا أشجارا، ومن كثرتها أخذت شكل ورد النيل الذي يحجب الماء الزلال عن النظر، ويعيق حركته، ويلوثه، ولطول المدة أصبحت واحدة من خصال ساستنا، وفرسان إعلامنا، وطالت العدوي بعض كتّابنا، والجميع يمارسها ببساطة وشغف وبدون أي قدر من الاحساس بالذنب أو الخجل، ومن توالي تكرارها وشيوعها لم نعد نستنكرها، أو نندد بمروجيها، بل أصبحنا نمارسها نحن أيضًا في حياتنا اليومية علي اعتبار أن الناس علي دين ملوكهم . وهذا يفسر كيف يقَدِّم إنسان ما نفسه لك لأول مرة بأكذوبة مكشوفة، والغريب والعجيب أنه يقدم نفسه بغرض أن تعطيه صوتك ليحكمك، يعني توليه علي نفسك علي مقدراتك علي أسرتك وأبنائك، من يصدق؟ والغريب والعجيب أيضًا أن يحمل لافتة كتب عليها عبارة السلف الصالح رضوان الله عليهم جميعًا، ولا تكفيه اللافتة، بل يؤكد انتماءه لعصرهم المبارك بارتداء الجلباب الأبيض القصير، واطلاق اللحية، وحلق الشارب، واستخدام العبارات المسبوكة في قوالب إسلامية، وينسي أن هذا " الشو "نفسه يفرض عليه أن يكون صادقًا، أن يكون مثلا أعلي، حتي لا يسيء لهذه الذكري العطرة. مليونية الإرهاب انظر ماذا قال وفعل عندما طالبت النخبة المستنيرة بالتريث والتروي والاستعداد والتجهيز الجيد لوضع دستور يلبي طموحات كل أطياف الشعب المصري، في الحال جهر بالقول إن هذا التفاف علي إرادة الشعب، وكأن إرادة الشعب تعنيه في شيء، وسارع بعمل ما يسمي بالمليونية ليرهب الحكومة والمجلس العسكري وكل من تسول له نفسه الوقوف في طريق تحقيقه لأهدافه الدنيوية المصبوغة بمرجعية أخروية بقصد التمويه. والكل يعلم، وهم يعلمون أن الكل يعلم أن ارادة الشعب لا تعني لهم شيئًا، وكل ما يعنيهم هو استغلال الظروف واختطاف الحكم قبل أن يتدبر الشعب أمر نفسه، قبل أن يتحقق المدي الزمني لعملية الفرز والتجنيب اللازمة لكل ثورة حتي تظهر الفروق في المواقف والتوجهات وتصبح الحقائق أكثر وضوحًا، والذي سيترتب عليها بالقطع حصولهم علي القدر المستحق لهم من شعبية في الشارع المصري ويمنعهم من أن يأخذوا أكثر من حقهم. أي أنهم أتوا ليمارسوا هم أيضًا واحدة من خصال العصر البائد التي قامت ثورة يناير من أجل القضاء عليه، وهي الكذب العام، أو الكذب العلني الذي لا يعرف الحياء، فكيف نتخيل أن جماعات كتلك يقدمون لنا أنفسهم علي انهم رجال الله ومع ذلك يستخدمون الأدوات نفسها، وينظرون لنا النظرة نفسها، ويفترضون فينا الغفلة نفسها، ويستخفون بعقولنا كما كان يفعل مبارك، فبينما كان التوريث يقوم علي قدم وساق، وتعد له العدة من كوادر المنتفعين واللصوص، كان الرئيس المخلوع بمنتهي البجاحة يعلن انه لا توريث، أليس هذا نفس ما يفعله هؤلاء؟ وبينما يعد هؤلاء العدة لقهرنا والسيطرة علينا بغير حق، وبغير تفويض من أحد، وبغير السماح لنا بالوقت اللازم لتقييم قدراتهم، والتأكد من صدق نواياهم، وتقييم سابقة أعمالهم في السودان والصومال وأفغانستان وباكستان، والذي تأكد أنهم قادوها الي التمزق والفشل وثبت أن الخراب يسير في ركابهم حيثما حللوا، إذ بهم ينصّبون أنفسهم مدافعين عن ارادة الشعب، ويرددون هذه العبارة التي فقدت مصداقيتها من فرط استخدامها علي مدي عقود علي ألسنة الفاسدين والمفسدين.