يحتفل رجال الشرطة في يناير من كل عام منذ 1952 بعيد الشرطة، وهو اليوم الذي سقط فيه 42 شهيدا و 58 جريحا من خيرة رجال البوليس المصري. ونري أن القرار الذي أصدره وزير الداخلية الوفدي فؤاد سراج الدين كان انفعاليا، ربما لحداثة سن الوزير ورغبته أن يتذكر التاريخ اسمه، فضلا عن حالة البلاد والتي كان يغلب عليها التخبط. مما شك فيه أن القرار كان خاطئا، فليس من المعقول أن يطلب الوزير من قوة بسيطة الدفاع عن مبني المحافظة، وهي القوات المكلفة بحراسة المبني بما فيه من مخاطر ضد السرقة والحريق والشغب، وهي المهام التي تدربت عليها تلك القوات البسيطة، ألم يكن في مقدور الوزير أن يطلب ذلك من وزير الحربية أو يستأذن الملك أو حتي رئيس الوزراء؟ليتحمل كل منهم جانبه من دم الأبطال المراق بلا سبب وبلا نتيجة؟ ولكن الوزير تحمل مسئولية القرار منفردا. لم يكن ماحدث يوم 25 يناير 1950 بمعزل عن الأحداث التي سبقته والتي أدت الي هذا اليوم الرهيب. ولكن تسلسل الأحداث كان يمكن أن يدعو الي التريث في صدور مثل هذا القرار. فقد كانت أحداث يناير 1952 وكأنها مقدمة طبيعية لهذا اليوم الرهيب. - ففي أول يناير 1952 احتج السفير البريطاني في القاهرة لدي وزارة الخارجية عن إعلان جريدة الجمهور المصري رصد مكافأة مقدارها ألف جنيه لمن ياتي راس الجنرال أرسكين قائد القوات البريطانية في منطقة القناة. - 3 يناير قامت معركة بين قوات البوليس وقوات الإنجليز في مدينة السويس، وأعلنت بريطانيا أنها ستعطي حماية للرعايا الإنجليز والأجانب الذين يسئ المصريين معاملتهم. - في يوم 10 يناير قامت القوات البريطانية بإطلاق مدافعها علي محافظة الإسماعيلية، كما قامت بتجريدة علي قرية الكسارة بحثا عن السلاح. - في يوم 12 يناير نشبت معركة بين الفدائيين المصريين والقوات البريطانية في منطقة التل الكبير. . - في يوم 13 يناير أعدمت القوات البريطانية 7 من الأسري الفدائيين الذين اعتقلتهم يوم 12 يناير في التل الكبير، رميا بالرصاص، وهاجمت قرية أبو صوير. - في 14 يناير تحركت ثلاث مدمرات بريطانية من مياه اليونان متجهة الي ميناء بورسعيد. - في 15 يناير وافق البرلمان المصري علي إقرار قانون بمعاقبة كل من يتعاون مع القوات البريطانية بالأشغال الشاقة المؤبدة. - في 16 يناير أسرت القوات البريطانية 150 من رجال البوليس في التل الكبير ومعهم اللواء محمد عبد الرءوف قائد القوات البوليسية، واحتلت التل الكبير وقرية حمادة. - في 17 يناير اقترح تشرشل رئيس وزراء بر يطانيا أن ترسل كل من تركيا والولايات المتحدةالأمريكية وفرنسا قواتها الي منطقة القناة لحماية القناة من الفدائيين. - في 20 يناير احتلت القوات البريطانية جزء من مدينة الإسماعيلية باستخدام قوات المظلات والدبابات والمشاة. وفي نفس اليوم إحتجاج الحكومة المصرية لدي بريطانيا بشأن سوء معاملة الأسري المصريين باعتبارهم أسري حرب، حيث أنهم وطنيون يطالبون بتحرير بلادهم وتنطبق عليهم اتفاقية جنيف عام 1949. - في 22 يناير أعدمت بريطانيا ثلاثة من الفدائيين بالرصاص، وكانت قد قبضت عليهم في مقابر المسيحيين بالإسماعيلية. - في 24 يناير شن الفدائيون هجوما علي مخازن الذخيرة ومستودعات البنزين في معسكرات ابو سلطان، واستمرت الإنفجارات والحرائق 14 ساعة ورد الإنجليز باحتلال قرية جنيفة. «1» لم يكن وزير الداخلية وقتها يعلم أن رجاله في منطقة القناة والذين لا تتعدي أعدادهم الثمانمائة جندي، وهم مسلحون ببنادق (لي أنفيلد) والعصي المخصصة لفض المظاهرات ومواجهة الشغب سوف يصمدون أمام ألف جندي من القوات الخاصة الريطانية، وثلاث كتائب من المشاة وكتيبة من قوات السياطين الحمر فضلا عن خمسين دبابة سنتريون، وعشرات من العربات المدرعة وأكثر من ألفي جندي مستعدون بالبنادق الحديثة والمتطورة، فضلا عن التدريب الراقي والخبرة العملية التي اكتسبها الجنود والمقاتلين الأنجليز خلال الحروب العالمية السابقة. صحيح أن هذا الحادث عمق فكرة الإلتحام بين الشرطة والمواطنين، وربما شعر رجل الشارع قبل السياسي أن رجل الشرطة ليست مهمته القمع فقط، ولكن مهمته تعدت فكرة المحافظة علي الأمن العام الي المحافظة علي الشرف القومي والكرامة القومية. ولكن هل يكفي لتعميم هذا المفهوم التضحية بهذا العدد من رجال الشرطة بقرار خاطئ ؟ يري المؤرخ الدكتور يونان لبيب رزق أن قرار وزير الداخلية فؤاد سراج الدين كان لمحاولة تجنيب رجال الجيش المصري الوصول الي حالة من المواجهة مع الانجليز بحكم مايستطيعه هؤلاء في مثل تلك الحالة من قطع الاتصال بين مصر وبين قواتها علي الحدود في سيناء في [1]مواجهه الاسرائيليين، فانه لم يبق سوي رجال البوليس الذين كان منوطا بهم اتخاذ الاجراءات التي تكفل تحقيق قرارات الحكومة في منطقة القناة، وكان اولها القرار المتعلق بمنع العمال المصريين من الاشتغال في المعسكرات الانجليزية، وكان مثل هذا العمل بمثابة الفتيل في اشعال نار الصدام بين الجانبين، وهو مالم يتهيبه رجال البوليس المصريون في المنطقة مما نتج عنه مجموعة من الصدامات الصغيرة وصلت في النهاية الي الصدام الكبير يوم 25 يناير عام 1952. «2» كانت القوات البريطانية قد حاصرت مبني محافظة الإسماعيلية، وأرسل قائدها الجنرال اوكسهام إنذارا لقوات البوليس بالتسليم. تسلمه البكباشي شريف العبد ضابط الإتصال، ويطلب الإنذار تسليم جميع اسلحة البوليس، وخروج القوات من مبني المحافظة ومغادرة منطقة القناة، وإلا فإن القوات البريطانية ستقوم بنزع سلاحها وترحيلها بالقوة. وقد تسلم مدير الأمن اللواء أحمد رائف آنذارا مماثلا، , وإنذار ثالث لوكيل الديرية (نائب المحافظ) علي حلمي بك، وهنا وجد ضابط البوليس مصطفي رفعت صغير السن والرتبة نفسه أمام مأزق حقيقي، ولم يجد أمامه سوي الإتصال بوزير الداخلية متخطيا كل قياداته المحلية والمركزية. طلب مصطفي رفعت من ضابط آخر- ضابط أصغر منه- أن يقفز من السور للاتصال بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين، كان هذا في الثانية مساء، كان وزير الداخلية في ذلك الوقت نائما، وأيقظوه من نومه ليتحدث الي الضابط من الإسماعيلية. وكان الوزير مضطرا الي أعطاء قرار، وسأل الضابط عن إمكانية الصمود، ولم يكن أمام الضابط الصاعد والمتحمس سوي ان يجيبه باللإيجاب, وهنا أصدر فؤاد سراج الدين أوامره للضابط بالصمود. اسر البريطانيون من تبقي حيا بعد تلك المجزرة، وأفرج عنهم في فبراير 1952. وهناك من يقول أن فؤاد سراج الدين وضع سماعة التليفون وهو يبكي. «3» ويذكر أحمد حمروش في مؤلفه ثورة يوليو 1952 أن قائد القوات البريطانية دخل مبني المحافظة بعد المعركة وصافح قائد القوة المصرية النقيب مصطفي رفعت، وقال له أهنئك وأهنئ جنودك علي الطريقة التي قاتلتم بها، ولن أعتبركم أسري حرب، ولن تخرجوا رافعي الأيدي " «4» في اليوم التالي خرج جنود البوليس من ثكنات العباسية بأسلحتهم في السادسة صباحا في مظاهرة صاخبة إحتجاجا علي ما أصاب زملاءهم في الإسماعيلية واتجهوا الي جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) وانضموا الي الي الطلبة المتظاهرين، وتوجت المظاهرة المشتركة الي قصر عابدين تهتف بسقوط الملك، وأخيرا تجمعت المظاهرة أمام مبني رئاسة الوزراء وطالبوا بمقاطعة الإنجليز، وإرسال قوات الي منطقة القناة، وإبرام معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفيتي. من الناحية الأخري قام وزير الداخلية فؤاد سراج الدين بإيقاف اللواء مراد الخولي حكمدار العاصمة عن العمل لأنه لم يتمكن من احتواء المظاهرة. وفي اليوم التالي 27 يناير أقيلت الوزارة كلها. وفي نوفمبر 1953 أصدر وزير الداخلية زكريا محيي الدين وزير الداخلية قرارا بتكريم أبطال الإسماعيلية ومنحهم الأنواط المناسبة. كانت الداخلية تتحرك وكأنها جزر متباعدة. فقد صدرت تعليمات وزير الداخلية لحكمدار العاصمة بمنع المظاهرات، في حين أتت تعليمات أخري أصدرها الملك فاروق للواء إبراهيم امام رئيس القسم السياسي (المباحث العامة) بمنع التعرض للمتظاهرين. وكانت مظاهرة أخري تسير أمام كازينو أوبرا، وأحرقته، ثم أحرقت المظاهرات أيضا سينما ريفولي وسينما مترو، ونادي الترف كلوب البريطاني، ثم تلاحقت الحرائق في القاهرة. وكان هذا اليوم هو البداية الحقيقية لثورة يوليو التي لم تتأخر كثيرا. والغريب أنه بعد انقضاء ما يقرب من اربعين عاما من تلك المذبحة المروعة، وجد رجال الشرطة أنفسهم أمام مذبحة من نوع آخر، وهذه المذبحة لم يكن منفذوها من الإنجليز، ولكنهم من ابناء وطنهم وراحوا ضحية قرارات خاطئة، ربما من وزراء داخلية لم يقدروا الموقف، او قيادات سياسية كانت تريد حلا لمشكلة سياسية. 1- أخذت تلك الأحداث من كتاب حوليات العالم المعاصر. 1952. تأليف أحمد عطية الله. مؤسسة الشعب. 1974 2- د. يونان لبيب رزق الأهرام في 22 يناير 2002 العدد 42050 السنة 126 3- صحيفة الشرق الأوسط في 30 يناير 2003 العدد 8829. 4- أحمد حمروش، ثورة يوليو. الجزء الأول. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1992 ص 168 5- المصدر السابق ص 169.