قد لا يمكنك متابعة فعاليات مهرجان الغردقة التي سوف تقام خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر القادم. ولكنك بالتأكيد سوف يكون بإمكانك مشاهدة أهم عروضه وبرامجه التي سوف يكون متاحا لها لاحقا التواجد في مختلف المواقع الثقافية وهو ما تم الاتفاق عليه مع الشركات الموزعة للأفلام، حرصا من الجمعية المصرية لكتّاب ونقاد السينما علي مواصلة دورها في نشر الثقافة السينمائية وتوصيلها لهواة ومبدعي فن الفيلم في مصر في كل مكان . تقام الدورة الأولي تحت شعار سينما الوعي والحريات وهي الروح التي سوف تغلب علي كل أقسام المهرجان الرسمية والبانوراما والتكريمات. وإذا كان الفيلم المصري سوف يتواجد من خلال برامج التكريمات في مهرجان يحمل الصفة الأوروبية، فإن الأفلام المصرية المختارة سوف تهدف إلي تعريف ضيوف المهرجان الأجانب بجوانب من السينما التقليدية والمستقلة لدينا وخاصة تلك التي لعبت دورا تمهيديا في تنمية الوعي في مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير . بالتأكيد مهرجان الغردقة للسينما الأوروبية ليس الأول في مجاله فقد سبق لكاتب هذه السطور العمل مسئولا إعلاميا عن الدورة الأولي لمهرجان السينما الأوروبية الأول الذي أقامه الاتحاد الأوروبي في مصر سنة 2005 وأداره الناقد سمير فريد . كما أن المهرجان الوليد لا ينكر الجهود الرائعة ولا المختارات المتميزة التي تقدمها البانوراما الأوروبية لماريان خوري ولا ما هو متوقع أيضا من مهرجان قادم يتبع حمعية يرأسها فنان وأكاديمي مثل د.محمد كامل القليوبي. ولكن الشيء المؤكد هو أن مهرجان الغردقة سوف يقدم العديد والعديد من الروائع المختارة بعناية والتي سوف نطلعك علي بعض منها حتي تحرص علي مشاهدتها كلما أمكن لك ذلك. إجازات علي البحر مبدع سينمائي من الطراز الأول ينسج من الحكايات المنفصلة للأسر والجماعات والأفراد علي شاطئ البحر رؤية متكاملة وصورة مثيرة للتأمل للحياة والكون والبشر في مختلف حالاتهم .تتعقد الخطوط وتتصاعد الأحداث ولكن بمهارة درامية فائقة يتلاقي الجميع وتنتظم الرؤية وتتضح صورة مصغرة للكون بكل جماله وخياله وسحره وكأن الفيلم نموذج لما يجب أن يكون عليه الفن بأسلوبية بسيطة ولكن برؤية عميقة وخبرة عريضة بالحياة وبالبشر في مختلف أحوالهم. فيلم يفيض بالحياة والمتعة والسحر وتتألق صورته بالجمال والبهجة. وهو بالتأكيد عمل نادر بإمكانه أن يغير تماما الصورة التي تكونت لديك عن الفيلم الألماني من مشاهداتك أو قراءاتك السابقة. الشعر لا أنصحك بمشاهدة هذا الفيلم التركي للمخرج تايفون بيرسيليموجلو إذا كنت في مود سييء أو تسعي لقضاء ساعتين مع المتعة السهلة والسينما المسلية بمعناها البسيط. فأسرار هذا الفيلم وسحره وجمالياته لا تتكشف إلا بعد جهد في التلقي وبامتلاك عين مدربة وخبرة ثقافية في التعامل مع إيقاعات سينمائية مختلفة وسعي حقيقي للتعايش مع أجواء الصورة واللغة السينمائية الخالصة. يلعب حديث العيون الدور الأكبر في هذا الفيلم فصاحب محل بيع الشعر المستعار ينجذب بصورة غير عادية إلي عميلته التي تبيعه شعرها ويظل يراقبها في كل مكان ومن خلاله نتعرف علي الكثير من أسرار حياتها. وربما من خلال نظراته نقع أيضا في هواها ونرتكب معه جريمة قتل زوجها. فهل يمكن أن نهنأ بعد ارتكاب الجرم والتواطؤ والتورط أم أن الحياة سوف تكون سلسلة من الكوابيس. الفيلم يكاد يخلو من أي جملة حوار ولكن الصورة تتألق بالمعاني والأفكار وتمتلك في مستوياتها وأبعادها الكثير من الرموز والأسرار. كما يمتلك فريق الممثلين هذه القدرة علي التعبير عن المشاعر الدفينة بمعايشة الموقف والتماهي مع الشخصية وهي الوسيلة الوحيدة للتعبير حيث لا مجال للصياح ولا الصراخ ولا حتي الكلام. ضجيج الأصداف تحفة أخري من السينما الألمانية من إخراج كريستيان سكاوشو. اللعب علي المفارقة والتناقض لاينتهي في هذا البناء الدرامي المعقد الذي تم تشييده ببراعة . بطلتنا تهوي التمثيل وتدرسه وتحبه إلي حد الجنون ولكنها تعاني حالة من الخجل المرضي والرعب من مواجهة الجمهور. يتمكن مخرج كبير ذو عين ثاقبة من أن يتعرف علي ملامح وقدرات هذه الفنانة الشابة فيمنحها الفرصة والثقة. وعبر رحلة من العذاب والمعاناة تتواصل مسيرة الكفاح ومواجهة الذات قبل الجمهور. تتلاشي في حياة البطلة الخطوط الفاصلة بين الشخصية التي تؤديها وأزماتها الحياتية. ويتمكن السيناريو البارع من أن يمزج بين الحياة الخاصة والشخصية الفنية التي تؤديها الممثلة. إنها هذه الخبرة الرديئة التي يمر بها البعض عندما تتحول أزمات حياتهم إلي جزء من عملهم. والبطلة شخصية في غاية الرقة والحساسية ، فهل سيمكنها التغلب علي أزمتها المزدوجة، هذا هو السؤال الذي يجعلك في حالة تشوق ومعايشة للأحداث. يقدم الفيلم درسا في التمثيل السينمائي، كما يحقق المخرج نموذجا لأساليب الربط البصري وتحقيق التكوين المؤثر متعدد الدرجات والأبعاد الذي يتناسب مع هذا البناء الدرامي المركب . كل ما يتبقي إخراج ثنائي لبيير أدريانللي مع فانتين روتيللي لتقديم عزف رباعي سينمائي يمتد من اليابان في شرق آسيا إلي شواطئ ساحل كاليفورنيا.. قصتا حب تتلاقي وتمتزج عبر الأحداث بين أربعة من الغرباء ناكاتا وبن وايلين وسارة. متعة بصرية لا توصف حيث تعانق الكاميرا الطبيعة والمكان في فيلم طريق يفيض بالحركة الفعلية والنفسية والعاطفية .. مع تصاعد الأحداث تتغير المفاهيم ويتحقق التواصل حيث تتطور حركة الدراما طبقا لتطور العلاقات بين الشخصيات التي تتحقق بصورة ناعمة ومقنعة بدرجة لا توصف. ويأتي الأداء التمثيلي الراقي والمتقدم لرباعي الأبطال وخاصة إيزابيل كابت ليتوج هذه الملحمة السينمائية الرائعة من الإنتاج السويسري الياباني المشترك الذي تمثل السينما السويسرية في قسم روائع أوروبية حديثة. فينوس السوداء الفنان المخرج التونسي الأصل عبد اللطيف كمشيش يواصل إبداعاته في هذا الفيلم الفرنسي الذي يدين العنصرية بضراوة من خلال قصة أخاذة ومثيرة. يروي الفيلم حكاية سارة تاج المرأة الإفريقية السوداء الضخمة الوافدة من بلاده إلي باريس حيث تتواصل جرائم استغلالها وانتهاك آدميتها بلا رحمة طوال مراحلها العمرية. ولم تكتف الرغبة العنصرية الشرسة في إذلالها طوال حياتها بل تتواصل حتي بعد وفاتها حين يباع جسدها للمعهد الملكي البريطاني للبحوث الصيدلية . يقدم الفيلم رغم مشاهده القاسية رؤية شديدة الرقة والعذوبة والحميمية والتعاطف مع آدمية الإنسان. وهو عمل يتناسب تماما مع شعار مهرجان الغردقة في دورته الافتتاحية "سينما الوعي والحريات" . جوانا ضمن مشاركات غزيرة وتواجد قوي للسينما البولندية في المهرجان يأتي فيلم جوانا. يلتقط الفيلم خيطا إنسانيا جميلا يربط بين طفلة شريدة بعد القبض علي أمها وامرأة بولندية مضطهدة تعاني من الظلم والقهر من مواطنيها والأعداء الألمان علي السواء. يتابع الفيلم بإصرار دؤب هذه الرغبة القوية لدي تلك المرأة في حماية هذه الطفلة وكفالتها مهما كانت المصاعب ورغم ما تعانيه من ظروف قاسية. والفيلم يعبر عن تلك القدرات الخارقة التي يتملكها الإنسان إذا أراد أن يكرسها لحماية إنسان آخر لا تربطه به أي صلة. وتأتي نهاية الفيلم الرائعة في مشهد لا ينسي حين لا تجد جوانا مفرا من إيداع الطفلة في أحد الأديرة لتواصل مسيرتها مع مصيرها المجهول وسط أجواء جبلية جليدية ضبابية في تابلوه سينمائي من النوع النادر تلعب فيه الإضاءة مع حركة الكاميرا مع أجواء المكان وتكوين الصورة وإيقاع حركة الممثلة دورا رائعا وأداء متجانسا لبلورة الرؤيا وتحقيق أعلي درجات التعبير والتأثير. ويأتي العمل معبرا عن قدرات المخرج المتمكن فيلكس فولك الذي يسيطر علي إيقاعه الفيلمي ويحقق التناسق بين عناصره البصرية والسمعية بمهارة وتمكن وقدرة علي ان يجعلك في حالة من الاستغراق والمعايشة التامة للفيلم من أول لحظة لآخر لحظة. فينيسيا تحفة جديدة لفنان الواقعية السحرية البولندية جان جاكوب كالاسكي. عودة للحرب العالمية الثانية من جديد ولكن ليس من خلال المعارك الحربية أو الآثار السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو قصص الحب المعتادة في أجواء الحرب. ولكنه فيلم عن هذا العالم الخاص للأطفال في تلك الظروف. زاوية متميزة للرؤية وحس جميل بروح الطفل تلك الروح الخيالية الحقيقية المدهشة والتي تجعل الطفل الصغير ماريك قادرا علي أن يصنع في منزله صورة من فينيسيا التي كان يحلم بالسفر إليها والتي جاءت الحرب لتضع حدا لتحقق هذا الحلم ولكن حتي الحروب نفسها لا تستطيع أن تخنق أحلام الصغار. علي الرغم من الأجواء القاتمة ومآسي الحرب إلا أن المخرج المبدع يتمكن من صنع عالمه البهيج ومن أن يبث رؤيته المتفائلة بالبشر والحياة وأن يبني هذا التفاؤل علي أجمل القيم التي تجعل الرهان علي الإنسان دائما مضمونا. صنع في بولندا لا يولد العنف سوي العنف، فبطلنا الشاب في حالة عارمة من الغضب الذي لا يلين ومن المواجهة الدائمة مع كل من يراهم رموزا لقوي الشر والهدم. يعتمد الفيلم علي بناء منفصل لأجزائه التي يفتتحها في كل مرة بالموسيقي الصاخبة وبلقطات تمهيدية كارتونية تعبر عن أحداث كل فصل. وعلي الرغم من القفزات الدرامية إلا أن السيناريو يحافظ علي حالة من التصاعد والتواصل بين الأجزاء والتي ترتبط من خلال شخصية البطل ومواجهاته المتلاحقة فضلا عن حميمية العلاقة التي تنشأ بينه وبين صديقه المعوق وشقيقته. قد تصدمك الرؤية التي يطرحها الفيلم والتي تحطم كل التابوهات وقد تختلف مع ما يطرحه من أفكار ولكنك سوف تحترم بالتأكيد هذه الجرأة علي مستوي الفكر والصورة التي تخرج عن كل ما هو تقليدي ولكن من خلال رؤية درامية مختلفة وجديدة.