يقرر شاعرنا الكبير " أحمد سويلم" في كتابه الثري " أطفالنا في عيون الشعراء" : " أن الكثير من علماء الجمال وفلاسفة الإبداع قد أجمعوا علي أن الطفل يولد مزوداً بحاسة سادسة يدرك بها ما في الأعمال الفنية من سحرِ وجمالٍ ويستجيب لها ويتوقف نمو الحاسة علي مدي رعايتها وإرهافها للذوق» ومن هنا نقول إن كتابة الأشعار وخاصة الأغاني للطفل، مهارة تحتاج إلي العودة إلي الطفولة وقت الكتابة والارتداد فيما يسمي "النكوص" ليستطيع الكاتب الدخول بكل سهولة إلي هذا العالم ليتعايش مع فكر هذا المخلوق وليمد جسر التواصل الضروري بين مفردات أغانيه وبين بيئة الطفل بطل الكلمة وصاحب الرأي والمتلقي والمتذوق الأول والأوحد لما ينثره عليه الكاتب من تجربة قد تصيب أو تفشل فهو وحده من يقرر هذا وبصدق عفوي. إذا نظرنا إلي الذوق العام المتلقي لأغاني الأطفال تحديداً لوجدنا إنه مر بتقسيمات قد نراها وجدانية لأنها ترتبط بمراحل معينة، فهناك أغاني أطفال ذاع صيتها ونراها خالدةً في الوجدان وقد تربي عليها الحس وتظل هي الأغاني الأم لكل ما جاء بعدها، كأغنية " ذهب الليل طلع الفجر " وماما زمانها جاية " للرائع محمد فوزي، وبرغم روح التجديد التي تحيي كتابة الأغاني للطفل مصحوبة بالصورة بفعل التطور الرهيب في التكنولوجيا إلا أنها كالحجر تُحدث دوامات في البحر ما تلبث أن تفني وقد يرتبط بها الصغار ارتباطاً وقتياً بفعل الإلحاح الإعلامي لإذاعتها عبر الفضائيات ثم تموت لأنها لا تحوي روحاً أو خيطاً شعورياً سحرياً يحدث جدائلَ من حب داخل نفسية الطفل لتظل داخله حتي عند الكبر ونذكر مثلاً أغاني جيدة لكنها طرحت علي الساحة وكأنها تؤدي غرضاً معيناً ثم ترحل كأغنية " السبوع" لحمادة هلال" يا رب يا ربنا تكبر وتبقي قدنا" ومن اسمها فهي تقتصر علي سبوع المولود غير عابئة بالتمركز داخل فكر وحس الطفل، وهناك فرقة قد طفت علي السطح فترة واشتهرت أغانيها وكانت تسمي " فيري بيبي" ونذكر وقتها أنه قد نجحت أغنية " ألو بابا فين أقوله مين بيكلمه" نجاحاً ساحقاً ولكن بفعل تكرار الإذاعة وخاصة في قناة دريم الفضائية صارت الآن في خبر كان، لكني أذكر جيداً ألبوم أغاني للأطفال للراحل نجم الكوميديا الفنان " يونس شلبي " بعنوان " الديك الشركسي" كان وقتها ظاهرة جميلة وارتبط به الأطفال . أغنيات تغتال البراءة لكن هناك نوعا من أغاني الأطفال يغتال براءتهم مع سبق الإصرار والترصد، حيث تكون بطلة الأغنية" أنثي صارخة الجمال "تصر علي إظهار مفاتنها وبشدة كنوع من الإثارة ويلازم صوتها دلال مصطنع وحتي تخفي ذاك الجرم في حق الطفل تأتي به كعنصر مساعد يضيف بعض المصداقية كأغنية " هيفاء وهبي" بابا فين " والتي تعتبر هي بطلة القصة بما تصدّره لنا من جمالٍ ودلالٍ غير منصفين بالمرة للطفل بطل الأغنية فيلتفت ذوق واهتمام الكبار لهذه الأغنية متناسين تماماً أنها صُنعت خصيصاً لطفل وهذا ما يشكل جُرماً في حق اغتيال براءة كلمات الأغنية بالتصوير والإخراج مما جعل الطفل ينفر منها لما يسمعه من تعليقات ترسخ في ذهنه وتبعده تماماً عن خصوصية الأغنية كعالم خاص به وحده رغم كم المجهود المبذول ل "بروزة" الكلمات من خلال الصورة والجو السحري الخيالي التي تنّفذ به، وهناك أغاني "بين بين" مثل أغاني الأطفال التي تقدمه المطربة " نانسي عجرم" فهي أغاني تقع في منطقة الوسط بين إيمان الطفل بها وسرقة النظر لصاحبتها وقد تخرج هذه الأغاني من دائرة سوء الظن بفعل براءة وجه المطربة ذاتها، حتي ولو كانت تمتلك رصيداً عند الكبار من أداء غنائي أنثوي مثير ارتبط ببدايتها لكنها تسعي بذكائها لمعايشة الطفل من خلال النزول لحلبته بالكلمات وبالتصوير الخيالي وبالأزياء البسيطة،والماكياج وطريقة الأداء بالإضافة إلي التركيز المشترك من كاميرا المخرج بتسليط الضوء عليها وعلي الطفل مما يجعله يؤمن بأن هذه الأغنية ملك له، لكن يبقي شيء مفقود يستشعره الطفل ونستشعره نحن بأنها أغاني سريعة الهضم "أو" تيك أواي" لا تثبت في الذاكرة لخلق معايشة حقيقية مع الطفل . مداعبة خيال الطفل بأغاني العقيدة هذا النوع من كتابة الأغاني يحتاج لكاتب فنان أو لنقل لمايستروحساس، فالكتابة الدينية والتي تمس العقيدة الإسلامية بالذات تحتاج إلي كاتب ماهر مهارة الحواة والسحرة وذلك حين يحقق الهدف المرجو بزرع القيمة الإسلامية في قالب طفولي مرح بعيداً عن قوالب الموعظة الجامدة والتي يتعلمها الطفل بكل برود في مدرسته بل يحتاج الكاتب هنا إلي استحضار روح الدين لمداعبة وملاطفة خيال الطفل لخلق مصاحبة وموائمة وترسيخ يهواه الطفل ويسعي لحفظه دون ملل . وهذا ما فعله ببراعة وروعة الشاعر الدكتور " نبيل خلف " في ألبوم المطرب اللبناني " وائل جسار " " نبينا الزين" بدون صورة مبهرة تسرق النظر دون الفكر،وذلك حين زاد صوته من جمال اللعبة كلها كهدية تقدم للطفل وترتبط بأثمن ما لديه وهي العقيدة حين بني الشاعر بينها وبين الطفل ثقةّ كبري عندما أجاب علي سؤالٍ متخيل من الطفل ليرد بقوله " مافيش أطفال تخش النار/ ولو كانوا ولاد كفار. الطابع الديني للحدوتة يلعب الشاعر نبيل خلف علي أوتار الحس لدي الطفل من خلال كلمات ألبوم "نبينا الزين" لوائل جسار وذلك حين يجعل من " اليمامة والعصفورة والأشجار والحمام والنوافير والوردة والقمحاية والنخلة أصدقاءً للطفل تلازمه في سرد الحدوتة الشعرية والتي تؤصل لعقيدة الإسلام بل ولأركانه بأسلوب محبب وبسيط يرغب الطفل في متابعته كقوله: «يمامة يمامة تلات يمامات/ لنبينا بيبعتوا سلامات /واحدة تصلي / وواحدة تصوم/و واحدة تحج سبع مرات) ونراه يلجأ للحلم كمعادل موضوعي لكل ما يريد أن يضعه في عقل الطفل كوعاءٍ يصب فيه كل قوته محاولاً جعل سيدنا "محمد" هو بطل أحلامه وزائرا دائما للطفل في منامه وتجري علي لسانه كل الحواديت التي تفتح له عالم الحكايات السحري متخذاً من المدينة ومكة و جنة رضوان وجبل عرفات والمسجد الأقصي عوالمَ متسعة لخياله لبث وترسيخ قصص ووقائع وتعاليم دينية مهمة ويتجلي سيدنا محمد في حلم الطفل نوراً ينير له عالمه الصغير حاملاً معه كل الأمنيات ب"تمرة "يعطيها له في منديله وتراه فارجاً للهمّ وداعياً له لبث الطمأنينة والأمان في قلب الطفل بقوله (يا ملح دارنا / كتر صغارنا / سيدنا محمد/في الحلم زارنا /، وكذلك ابني ينام / فرحان يا حمام / سيدنا محمد / في الأحلام). شخصيات خارج سرب التخيل اعتاد الطفل علي دخول الحدوتة من باب شخصية معينة كالشاطر حسن والثعلب المكار والأميرة الطيبة وما شابه وغالباً هي ذوات وصفات قد تكررت وعالجتها الأغاني بسطحية لكن نبيل خلف في كلمات ألبوم وائل جسار " نبينا الزين " يرمي بكل ذلك صانعاً عالماً مبتكراً بصدقه وصدق هدفه ليقدمه للطفل ويفتح شهيته بل ويداعب فضوله لمعرفة المزيد عن هذه الشخصيات التي قد يسأل الطفل عنها لمعرفة المزيد بعد سماعه للأغنية وقد استطاع نبيل خلف طرق باب الخيال لدي الطفل بشخصيات جميلة عندما ركز علي طفولتها، وأتي بالحدث ميسراً في فترة الطفولة، كشخصية الحسن والحسين بقوله، / كحيل العين /نبينا الزين / علي ضهره حسن وحسين /، وقصة أنس التي جاءت بشكل قصصي مدهش لتثير ذهن الطفل عندما يقول بصوت وائل جسار " وأنس طفل صغير لكن/ كان بيأمنه علي الأسرار " فيردد الطفل مندهشاً ما هي هذه الأسرار هذا بالإضافة إلي أبطال الحواديت الكبار لإضفاء جو تكاملي لسرد كل جوانب الحدوتة كالسيدة فاطمة والصديق أبو بكر ممن تربطهم علاقات وطيدة مع سيدنا محمد، وهناك الفلاح وبلال والملائكة . الصوفية بين الطفل والكاتب تقبل الموسيقي والشعر بقوله" مهما اختلفت الوجهات التي نوجهه إليها فإن الطبيعة من حوله تدعوه أولاً إلي الحياة الإنسانية" من هنا نستطيع أن نقول بأن دكتور نبيل خلف قد غرس أسهماً دينية إسلامية في عقل ووجدان الطفل من خلال ألبوم المطرب اللبناني وائل جسار قد تصل بالطفل لمرحلة عليا من التطهر في التلقي نسميها مجازاً " صوفية مشاعر الطفل" لأن نثر الجرعة الدينية علي أرضية الطفل مصحوبة بقصص وعوالم وشخصيات أماكن وكذلك الجو المشع النوراني المفعم بكلمات مثل " المعراج وزمزم والملائكة والغزوات والسماوات السبع جبل عرفات والمسجد الأقصي والكعبة وبلال وكلمات "بسم الله والبركة وفتّاح يا عليم و مسك وعنبر وحمام أخضر وصلاة دائمة علي نبينا محمد وغيرها تصبغ روح المتلقي " الطفل " بصبغة إسلامية دسمة فالألبوم من أول كلمة إلي آخر كلمة يخرج عن سرب الكلمات العادية ويظلل الفكرة بسماء الدين ويقتنص اللحظة الشعورية التي ترتد بالطفل كفلاش باك " لعصر الإسلام مما تجعله يستوعب ومن ثم يسأل أكثر لمعرفة المزيد عن هذه العوالم والأماكن والشخصيات وعندما يعيش الطفل هذه اللحظات الرائعة في دنيا الإنترنت يحق لنا أن نطلق علي هذه المعايشة " صوفية اللحظة أو المشاعر أو حتي التلقي " بطريقة أو بأخري . ينابيع الطهر تنفجر بصوت وائل جسار يترقرق اللحن كصفحة الماء البيضاء ناصحاً صافياً صادحاً عذباً دافئاً يحتوي الكلمات بحب وعمق عاكساً مدي طهارة وروحانية الكلمات وتأتي الموسيقي مبطنة بأجواء الصفاء الروحي ويظهر هذا بشدة مع حرص الملحن المميز وليد سعد علي سريان اللحن الدافئ والنغمة الهادئة باستخدام البيانو والكمان والعود بشكل أساسي حين يقنعك الملحن بأنه أيضاً يسترجع طفولته ليغني مع الطفل لا ليستعرض عضلاته كملحن حيث تشعر بأن ألحانه بدت كخلفية لسمو المعني"المقصد الأساسي" أما عن حامل أمانة الكلمة واللحن ذلك الصوت الجهوري الرائع القوي الذي يتحكم في طبقاته طوع اللحن حين يعلو في أحيان ليرسخ الفكرة لدي الطفل ثم يهبط بك في دنيا الحس برقة حين يغني لينام الطفل وتظهر قوة صوت وائل جسار ورقته خاصة في غناء أغنية " يا ملح جارنا" حين يمتعك بأدائه لتشعر بأنه يرسم للكلمات بالمعاني ويتراقص ويهدأ بحسب اللحن الذي يناسب فرحة الأطفال فألبوم "نبينا الزين" بأغانيه العشرة والذي أنتجته شركة "أرابيكا ميوزيكا" بعد نجاح ألبومها الأول لجسار أيضاً " في حضرة المحبوب" كأغاني دينية تناسب الطفل والذي وزعته بمناسبة شهر رمضان جاء مناسباً للكبار قبل الصغار لأنه يحتوي علي تعاليم إسلامية بطريقة فنية وهو من الألبومات الممتدة المفعول والمعني والفكرة والهدف فطوبي لأطفالنا برحيق وعبق مثل تلك الأغاني في عصر التفاهات .