تفاءلت كثيرا لأن «سامي أوكسيد الكربون» بوصفه كوميديا خفيفا، كما اعتقدت، سوف يكون فرصة لإنعاش سوق السينما وإعادة الجمهور للصالات بحثا عن ساعتين من الضحك والمرح، وبعيدا عن أفلام العنف والسياسة الملفقة والمطعمة بلقطات مقحمة من مظاهرات التحرير. كنت أعرف أن هناك حالة من التوافق والتفاهم بين سامح وعلاء ونبوي فريق السيناريو والمخرج أكرم فريد والنجم هاني رمزي عبر تجارب سابقة متحققة أو مؤجلة . كانت الشواهد توحي بأن النجاح سيحالف هذا الفريق وهو ما يبدو أنه تحقق جزئيا علي المستوي التجاري حتي الآن . لكن بعيدا عن الإقبال الجماهيري والرواج التجاري دعونا نتحدث عن «سامي أوكسيد الكربون» مما يلوح أمامنا علي الشاشة. من المشاهد الأولي نلحظ قدرا من المبالغة في المواقف والافتعال في الأداء من هاني رمزي في دور سامي قائد الطائرة، فهو لا يكتفي بالانفراد بحسناء في كابينة القيادة أثناء الرحلة، ولكنه يختلي بأربعة دفعة واحدة. ولك أيضا أن تتخيل كيف يبدو إدوارد بملامحه وأدائه التقليدي بعيدا تماما عن شخصية مساعد قائد طائرة، فهو ربما لا يصلح حتي كمساعد سائق ميكروباص. وسوف تكتشف في المشاهد التالية أن الغرض من تقديم البطل بهذه الصورة ليس للتعبير عن أنه شاب أخرق أو طائش، كما توحي المشاهد الأولي ولكنه ببساطة زير نساء. الحبكة التائهة ولكن مسألة تعارض التعبير مع الغرض والهدف من الموقف والشخصية سوف تتكرر كثيرا. بل إن تحديد هدف محدد للأحداث أو للشريط بوجه عام هي مسألة لا تشغل صناع هذا الفيلم كثيرا. فالمسألة باختصار هي البحث عن فرصة لإلقاء إفيه أو ممارسة بعض الحركات التي تستدر ضحك الجمهور. وهي مسألة غير مرفوضة علي الإطلاق بشرط أن تنتظم في إطار من البناء المتصل بأي شكل من الأشكال. وتتوالي المشاهد التي أكاد ألمح فيها بصعوبة من حين لآخر الخط الرئيسي للحبكة عن هذا الطيار المغرم باصطياد الفتيات والتلون بالصورة التي ترضيهن، حتي يأتي الدور علي جيهان - درة - الفتاة الثورية من أصحاب المدونات علي الفيس بوك والتي تنشر مختلف فضائح ووقائع الفساد علي صفحتها.. ومن أجل الوصول إلي قلبها يرتدي البطل ثوب المناضل السياسي مما يعرضه للوقوع في شر أعماله.. ومواجهة أخطار متعددة ومرعبة هو وحبيبته، خاصة من رجل الأعمال الفاسد يوسف عبدالهادي الذي يعيث في الأرض فسادا وتلوثا بمصانعه الضارة بالبيئة متمتعا بحماية النظام وغفلة القانون. وتتلاقي الخطوط في مصادفة مقبولة ودون افتعال حين يذهب البطل إلي قريته لتلقي إيراد الأرض التي ورثها عن أبيه فيتعرف علي صور طغيان هذا الرجل الذي أنشأ مصنعا يلوث البيئة ويصيب سكانها بالأمراض ويهلك أراضيها الزراعية وتفشل كل محاولات الأهالي في مقاومته، كما فشلت محاولات جيهان علي الفيس بوك في دفع المسئولين إلي إيقافه. لكن هذا الخط يتوه ويغيب كثيرا لتشتت السيناريو مع حكاية طفلة تظهر لسامي من زيجة سابقة، تتركها له الأم لإصابتها بمرض مميت . وتطغي حكاية الطفلة علي الأحداث وتنفرد بمساحات طويلة نكاد ننسي فيها الخط الأصلي . يقام لها حفل عيد ميلاد ويغني معها البطل أغنية مشتركة ويخرج بها للنزهة والتجول ويصطحبها إلي مطعم . كل هذا وكأن الفيلم هو شيء ليس له قوام أو إيقاع . وكأنك يمكن ان تخرج من موضوع إلي موضوع آخر تماما دون أي قلق من أي شيء . وكأن الفيلم السينمائي يمتلك رفاهية المسلسل متعدد الحلقات الذي يتعامل مع المشاهد علي أنه لا يتابع بشكل متصل .. ولمزيد من التشتت تتسع مساحة حكاية سكرتيرة رجل الأعمال التي تتحول من منفذة لخططه الشيطانية إلي مدبرة لخطة للانتقام منه بمساعدة إدوارد صديق البطل. وتمتد خطوط كل حكاية وشخصية لتستغرق مساحات متصلة من الوقت دون أي حسابات من السيناريو أو المونتاج .. والمونتيرة مها رشدي أيضا لا تجد سبيلا لتحقيق إيقاعية لمشاهد ولقطات طويلة يترك فيها المخرج الكاميرا لترصد هاني رمزي وإدوارد من الوضع جالسين علي الكنبة أو تتابع حركتهما البطيئة بسمنتهما المفرطة التي تضيف مزيدا من الشعور برتابة الإيقاع ولزوجة المواقف . موهبة فذة في مقابل هذه المشاهدالساكنة ينشط أكرم فريد في مواقف أخري ويسعي لإثبات وجوده بانتقالات سريعة أو بتقسيم الكادر أو بإظهار شخصية سامي وهو يتحرك في أكثر من شكل داخل الكادر الواحد . وهذه اللقطات تحديدا هي من أكثر اللقطات ارتباطا بالتعبير عن حيرة سامي وعن موضوع الشاب المولع بالتنكر كوسيلة لاصطياد البنات . ولكن الرغبة في إضفاء حيوية علي الفيلم وتعويض مساحات الركود تفرض نفسها بشكل مفتعل علي الأحداث في حفلات وأغاني تقطع السرد الدرامي رغم تميز ألحانها لشادي محسن . في مقابل هذه الجوانب السلبية تبرز وبلا شك موهبة غير عادية لطفلة. تتميز بخفة دم طبيعية وتؤدي بتلقائية شديدة وبدون أي درجة من المبالغة حتي في المشهد المأساوي الوحيد الذي تشهد فيه موت أمها في المستشفي. تذكروا اسمها جيدا " جنا عمرو". فهي مهيأة لأن تكون من أوراق السينما الرابحة في المستقبل وأرجو أن تجد سبيلها إلي أعمال تستغل موهبتها وتطورها، بدلا من أن يكتب لها حوار غير قابل للتصديق ولا يمكن أن يصدر من طفلة في عمرها، كما شاهدنا في الفيلم . وتجدر الإشادة أيضا بديكور كمال مجدي الذي تناسب جدا مع شخصية البطل، كما توافقت ألوانه مع الروح الكوميدية المرحة والحالة الطفولية المسيطرة علي أجواء المكان . وهو ما سعي إلي إبرازه أيضا مدير التصوير أحمد جبر في إدراك واع لحالة البهجة التي يجب أن يصنعها فيلم من المفترض أنه ينتمي إلي الكوميديا الخفيفة . والامر الذي لاشك فيه أن طبيعة الفيلم كانت تهدف إلي هذا رغم بعض مساحات من الكوميديا الغليظة التي كان يتباري فيها هاني رمزي وإدوارد. ابتذال بالعافية وعلي الرغم من أن مواقف الفيلم رغم تشتتها لا تساعد علي الابتذال ولا تمنح الفرصة لأي إفيهات مبتذلة إلا أن الأمر لم يخل من محاولات للتلميح السخيف في تشكك البعض بأن الطفلة عشيقة للبطل وليست ابنته.. أو في مشهد يعتمد علي صوت غطيط للتعليق بأسلوب بذيء علي حوار سامي . علي جانب آخر من الواضح أن السيناريو لم يهدف إلي استغلال الثورة. بل إنه من المعروف ان كتابته كانت سابقة عليها رغم ارتباط موضوعه بإرهاصاتها. فالفكرة كانت من الممكن أن تعبر عن الحالة الثورية التي سادت الشارع المصري في السنوات الأخيرة. وهي تسجل بصورة هائمة الدور الشجاع والوطني الذي لعبته فتيات صغيرات من المدونات علي الفيس بوك. ولكن الفيلم لم يكن يتحدث عن ثورة أو يدعو إليها . وإنما يتحدث عن مافيا الفساد التي كانت تسعي لإخراس أي صوت وعن بلطجة رجال الأعمال وعن سي ديهات الفضائح والمستندات التي حملها كل مسئول في النظام البائد ضد الآخر . كنت أري أنه من الأفضل للفيلم أن يتوقف عند هذه الحدود. ولكن فكرة استغلال الثورة وشعاراتها ومواقفها كانت مغرية جدا لصناع هذا الفيلم . وسوف تجد الكثير من الإفيهات التي شاعت بعد قيام الثورة والتي من الواضح أنه تمت إضافتها أثناء التصوير. فهي تتردد وتتكرر في الفيلم بشكل عشوائي ومفتعل وبلا نظام. وهي مسألة لم تكن مطلوبة علي الإطلاق في فيلم يغلب عليه الطابع الكوميدي العاطفي. ولكن مشكلة هذا العمل الأساسية بين مشاكل كثيرة طبعا هي افتقاده للأسلوب أو الطابع.. والاعتقاد المتفشي بين صناعه بأن الفيلم الكوميدي ما هو إلا مجموعة من النكت والحركات البهلوانية والزخارف البصرية. وأن الفيلم عموما ما هو إلا خليط من ضحكة ورقصة وأغنية ومعركة وموقف حزين وموعظة أخلاقية . فرصة ضائعة كان فيلم «سامي أوكسيد الكربون» فرصة للتعبير عن الأجواء الخانقة التي عشناها والغازات التي سممت حياتنا والتي استطاعت أن تنفذ إلي رئة وعقل شاب تافه ومدلل، تقوده نزواته ليجد نفسه في مواجهة مع دولة كان يحكمها مجموعة من البلطجية . ولكن مع الأسف إن قانون الفيلم نفسه حكمته البلطجة، فجارت مساحات أدوار علي حساب مساحات أخري. وكما اختلت الحدود والمساحات في هذا الوطن اختلت أيضا في هذا الفيلم . وإذا كانت درة البطلة الفعلية لهذا الفيلم تقلصت مساحة دورها إلي أقصي الحدود إلا أنها تمكنت بأدائها من أن تثبت وجودها . وعلي جانب آخر زادت مساحة تاتيانا في دور السكرتيرة الشريرة بلا حساب ولا منطق درامي . وأضافت الممثلة بأدائها الرديء والمفتعل وبحثها عن لزمة تميز مزيدا من الاصطناع . وشارك المخرج في هذا التمادي والافتكاس برسم حركات تقليدية تعبيرية للممثلين علي النمط المسرحي القديم. هكذا إذا كان غاز ثاني أوكسيد الكربون يتميز بأنه لا يشتعل ولا يساعد علي الاشتعال . فإن فيلم «سامي أوكسيد الكربون» تميز مع الأسف بكثير من الافتعال وبقدر من الابتذال، يبدو أنه ناتج عن الارتجال وليس من سيناريو كتبه فريق ثلاثي معظمهم له خبرة سابقا في اعمال أكثر إحكاما وأكثر حرصا علي تجنب الابتذال .