معلوم أن الاحتفال بهذه الذكري محصور في المناطق ذات التواجد الشيعي دون غيرها من بقاع العالم الإسلامي رغم أنهم يزعمون أن أهل البيت لا يخصون فريقا من المسلمين دون غيرهم!!. إنها سياسة التعتيم المفروض أو القتل بالصمت الذي اعتمده النظام الأموي وسار علي نهجه اللاحقون ممن يرون في الأمر حدثا لا يستحق الإحياء والتذكر خاصة بعد أن جري اعتبار الأمر كله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!!. بدعة وضلالة الذين يرون في إحياء ذكري استشهاد الإمام الحسين بدعة هم أنفسهم الذين يعتبرون الاحتفال بالمولد النبوي بدعة ومع ذلك فلا أحد يكترث لهم حيث يتذكر المسلمون في هذا اليوم مولد نور الهداية المحمدية التي عمت هدايتها أرجاء الكون. الأمر لا يرتبط بحرص علي الدين وثوابته يتعلق به أصحاب نظرية البدعة بل برغبة عارمة في محو هذا الحدث المفجع من الذاكرة التي يراد لها أن تبقي خاوية من كل حدث يذكر العالم بأنه كان في الأمة الإسلامية رموز وقامات شامخة لم تركن يوما إلي الظلم ولم تستسلم لفراعنة الأمة الذين سعوا لفرض تفسيرهم للدين علي جماهير المؤمنين ومن ثم أصبح الغالب علي عقل الأمة ذلك التدين السلطوي الذي يقر بحق قيصر المطلق في فعل ما يحلو له وكل ما هو مطلوب منه أن يبقي علي هذا الديكور الإسلامي فيفتتح خطاباته بالبسملة وينهيها بالسلام عليكم وما بين ذلك يبقي المجال مفتوحا للسلب والنهب والقتل والمهم هو الشكل وليس المضمون. شعائر الإسلام علي عكس ما يعتقد أصحاب الثقافة الإسلامية المسطحة فإن كلمة شعائر الله وشعائر الإسلام لا تعني الفرائض كالصلاة والصوم وحسب إذ إن أداء هذه الفرائض تعني من بين ما تعني إعلان الانتماء للإسلام فضلا عن الوظيفة الذاتية لكل من هذه الفرائض حيث يختلف الصوم عن الحج والصلاة في وظيفته إلا أنه لا خلاف بينها في رمزية إعلان الانتماء للعقيدة والانضواء تحت شعارها. شعائر الله ورموز الدين يمكن أن تكون بُدنة تذبح أيام الحج (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيرٌ) الحج 36 ويمكن أن تكون حجرا أو جبلا شهد مشهدا إيمانيا لا يتكرر مثل الصفا والمروة (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يطَّوَّفَ بِهِمَا) البقرة 158 وفي كل الحالات يتعين علي كل مسلم أن يعظم هذه الرموز وأن يفهم أسرارها ويعي دلالتها وما تمثله من قيم ومبادئ يتعين إبقاؤها حية وفاعلة في حياة الأمة (ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَي القُلُوبِ) الحج 32 . وإذا كانت البدن أو الأغنام من شعائر الإسلام فكيف لا يكون قادة الإسلام المضحين العظام كذلك؟!. كيف لا يكون الإمام الحسين بن علي حفيد الرسول الأكرم محمد صلي الله عليه وآله رمزا من رموز الدين بعد أن ضحي بنفسه وأهل بيته حفاظا علي جوهر الدين ومعدنه الأصيل الذي يرفض الخضوع والإذعان تحت سيف القهر والتسلط. لم يكن الأمر مجرد رفض سياسي لسلطة أرادت أن تفرض وجودها وقيمها علي جمهور المسلمين بل هو رفض المبدأ الإلهي الذي يؤمن بأن الحق هو الأصل وهو الثابت لمبدأ الباطل مهما طال الزمان (قُلْ إِنَّ رَبِّي يقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الغُيوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يعِيدُ) سبأ 48-49 . كان علي المسلمين ومن يتصدي لقيادتهم فكريا وهم يلهثون الآن من أجل (تحسين صورة الإسلام) أن ينتبهوا لهذه الحقائق حفاظا علي حقيقة الدين لا علي صورته كونه رسالة الله إلي الخلق التي تأمرهم بالعدل والإحسان وتنهاهم عن الظلم والمنكر والبغي وأي منكر أعظم من أن يقول ابن بنت النبي (لا) لطاغية بني أمية فيقتل علي هذه الصورة البشعة ثم لا يكف أدعياء التدين عن القول تلميحا أو تصريحا (هو اللي جابه لنفسه) لا فارق بينهم وبين الجهلة العوام الذين يؤمنون بأن صاحب السلطة والقوة هو الإله المعبود والسيد المطاع. البحث عن لاهوت إسلامي الآن يخرج علينا بعض المتقعرين يفتشون عن لاهوت إسلامي للتحرير وفاتهم أن أول خطوات الحرية أن يتحرر الإنسان من أسر نفسه وهواه ورغباته المذلة وأن ينفتح علي عالم المعرفة لئلا يبقي في أسر الكهنوت السلطوي وأن يسعي للتعرف علي طليعة أحرار الأمة وإن لم يجد!!, فليبحث عن هذا اللاهوت في أمريكا اللاتينية أو حتي الشمالية!!. لاهوت التحرر (مع تحفظنا علي المصطلح) يبدأ بتحرير النفس وإطلاق ملكات الذات فما أقبح أن تكون للمرء رغبة تذله وعندها تتحرر إرادته ونفسه من كل خوف من غير الله عز وجل ومن كل معبود غير الله فتسير بين الناس بنور الله سبحانه وهو سبحانه قد تكفل بإخراج الناس من الظلمات إلي النور وكانت رسالته التي حملها سيد الأنبياء والمرسلين هي رسالة الحرية الإنسانية الواعية المتبصرة التي لا تهرب من سجن لتسقط في سجن آخر. للذين يبحثون عن (لاهوت إسلامي تحرري) ننصحهم بإعادة قراءة رحلة أبي الأحرار الحسين بن علي عليه السلام وهو ينتقل من ساحة الحضور الإلهي العرفاني بين يدي الله عز وجل يوم عرفة أياما قليلة قبل انتقاله إلي ساحة الحضور الإلهي الاستشهادي يوم عاشوراء وهو يقول: (إِلهِي أَغْنِنِي بِتَدْبِيرِكَ لِي عَنْ تَدْبِيرِي وَبِاخْتِيارِكَ عَنْ اخْتِيارِي وَأوْقِفْنِي عَلي مَراكِزِ اضْطِرارِي، إِلهِي أَخْرِجْنِي مِنْ ذُلِّ نَفْسِي وَطَهِّرْنِي مِنْ شَكِّي وَشِرْكِي قَبْلَ حُلُولِ رَمْسِي .... أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الأنْوارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيائِكَ حَتَّي عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الأغْيارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّي لَمْ يحِبُّوا سِواكَ وَلَمْ يلْجَأَوا إِلي غَيرِكَ أَنْتَ المُوْنِسُ لَهُمْ حَيثُ أَوْحَشَتْهُمُ العَوالِمُ وَأَنْتَ الَّذِي هَدَيتَهُمْ حَيثُ اسْتَبانَتْ لَهُمْ المَعالِمُ، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَما الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟!). انطلق الحسين بن علي من ساحة الحضور العرفاني الإلهي يوم عرفة بعد أن دعا الله بتلك الكلمات النورانية إلي ساحة الحضور الواقعي العملي في أرض كربلاء ليقرن الأفعال بالأقوال فلا يكون من الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أو ممن يقولون ما لايفعلون ليؤكد إيمانه بتلك القيم الربانية الخالدة مخاطبا من حوله من المسلمين: إنه قد نزل من الامر قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل. ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهي عنه؟!، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فاني لا أري الموت الا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما. كان ومازال الإمام الحسين رمزا بارزا ومعلما حيا من معالم الإسلام فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فكيف بسيد الشهداء؟!. نفهم أسباب التجريم السياسي لإحياء ذكري عاشوراء فكل من اختار بني أمية نموذجا هاديا عليه أن يسعي للتعتيم علي ذكري أبي الأحرار أما ما لانفهمه فهو مسارعة أدعياء الدين لمحاربة رموز الدين بفتاوي التحريم!!.