هناك وسيلتان للتغيير إحداهما من أعلي ويقوم بها الحاكم والثانية من أسفل ويقوم بها المحكومون ففي الأولي يكون التغيير مدعوماً بمشروعية الحاكم ووجود مؤسسة مسئولة أمام القانون لإحداث هذا التغيير أما في الثانية فيكون التغيير مدعوماً برأي أغلبية الجماهير ويعتمد في شرعيته علي رضا تلك الأغلبية وعدم وجود المؤسسة التي تقوم بالتغيير في إطار الشرعية الدستورية ولذا عرف هذا التغيير بالتغيير الثوري ولما كان التغيير الذي تمر به البلاد حالياً يجمع بين النوعين فهو تغيير من أسفل بيد انه يعتمد علي المؤسسة الشرعية للتغيير والتابعة للسلطة الحاكمة فإن متابعة المشهد تملي علي الراصد عدة ملاحظات يؤدي الوقوف عليها إلي كشف الظلال والتمكن من جعل السياسة تكتب تاريخاً علي أعين الشهود. يجب أن يتحلي المثقف الراصد للأحداث الجارية بصفات تختلف عما سبقها من صفات في المرحلة التي تسبق 25 يناير فيجب أن يكون علي مسافة بعيدة من العقل الجمعي القابع في ميدان التحرير من ناحية وعلي نفس المسافة التي تبقيه علي مبعدة من السلطة الحاكمة من ناحية أخري حتي يتمكن من الرؤية الموضوعية للحدث ويملي ما يراه من نتائج رصده ليحرر العقل الجمعي من عاطفة الشعارات الانفعالية ويتحرر من جهة أخري من سلطان الحاكم فيملي عليه الصالح العام وليس الصالح الخاص سواء للحاكم أو للمتظاهرين فإن كان المتظاهرون يطالبون بمطالب والحاكم يمسك عليها كلياً أو جزئياً فكلاهما محكوم بموقعه فالمتظاهر مدفوع بالرغبة والحاكم مدفوع بالسلطة وبينهما المثقف فهو الوحيد المدفوع بحب الوطن فالمثقف يتحدث راصداً لدور مؤسسات في حد ذاتها فعندما يصف أجهزة الأمن بوجود قصور في تدريب أفرادها علي مقاومة الشغب والمظاهرات فهو لا يستقوي بهم في مواجهة الراي العام وإنما يتحدث عن خلل في شروط الكفاية الوظيفية لأحد مؤسسات المجتمع كما انه عندما يتهم أجهزة الإعلام الرسمي بأنها تركت مساحة كبيرة خاوية تمكن عبرها مخططو التحرك الجماهيري من استغلالها فليس هذا رغبة من المثقف بتمنيه أن لو لم تترك هذه المساحة الناتجة عن تقصير الإعلام الرسمي لما كان حدث ما حدث وإنما المثقف يرصد قصوراً أصاب الإعلام الرسمي وليس له أي توجه آخر غير الموضوعية تلك الموضوعية التي تبصر المتظاهرين والحاكم بحقيقة ما يحدث من اجل أن يكون التغيير نتيجة املاءات حقيقية وليس تغييراً تحت ضغوط عاطفية أو سلطوية. المتلاعبون بالعقول لقد تحركت هذه الجموع ذات الأعمار السنية المتقاربة عن طريق إعلان مجهول المصدر بتحديد موعد التحرك عبر وسيلة اتصال افتراضية المحتوي هي الانترنت نجحت في تحويل افتراضها إلي الواقع فكشفت بذلك عن مدخلات جديدة لوسائل الاتصال مع الرأي العام بعيداً عن رقابة السلطة الحاكمة علي نحو لم يتوقعه خبراء الاتصال في البلدان صاحبة الصدارة في هذا المجال وسيكتب تاريخ الاتصالات أن مظاهرات 25 يناير بميدان التحرير في العاصمة المصرية القاهرة تعد هي أول نموذج للمنتج الاتصالاتي الافتراضي داخل الفضاء الجماهيري تم بنجاح في مواجهة الإعلام السلطوي فكشف هذا النجاح عن مدي شساعة المساحة التي تركها الإعلام الرسمي خاوية علي عروشها وقدمها هدية لنوع جديد من التواصل الجماهيري كانت مغيبة عنه بقضايا إعلامية هامشية المحتوي وانعدام الجاذبية الشكلية عنها فقد ظهرت علي الساحة الإعلامية كيانات اقتصادية خاصة تملك أوعية إعلامية ساهمت بمزاحمتها الإعلام الرسمي في مناطق فراغه بقوة في تهيئة الرأي العام لإحداث استجابة للتاريخ المضروب للقيام بالتحرك الجماهيري وقد تنبه الإعلام الرسمي لتلك الكيانات في الوقت الضائع حين تم غلق القنوات المخترقة من قبل الكتل الجماهيرية أنصار الدولة الدينية وقد كشفت هذه القنوات الفضائية الباقية عن مدي تلاعبها في العقل الجمعي من اجل الوصول بالأهداف المكتومة لها إلي حيز التواجد داخل الفضاء الجماهيري فقبل 25 يناير كانت المذيعة تستنكر اعتداء احد رجال الشرطة بالضرب علي احد المجرمين بينما بعد 25 يناير نري نفس المذيعة وهي تثني بالفخار علي ما قام به احد أعضاء اللجان الشعبية من ضرب لأحد اللصوص الذين تم ضبطهم بمعرفته إن الفعل في حد ذاته واحد ولكنه يتم توظيفه في ضوء ما يحقق الأهداف المرجوة منه عبر الوعاء الاعلامي المتحول فيحدث نتيجته في تشجيع اللجان الشعبية علي ممارسة دور الشرطة الغائب مع السماح لها بممارسات كانت تعد انتهاكاً لحقوق الإنسان لو تم من قبل الشرطة. الجمهور الافتراضي إن خلاصة ما قدمه كل من الانترنت والقنوات الفضائية هو إحداث وفرة معلوماتية لدي الفراغ الجماهيري نتج عنها إثارة العديد من التوجهات غير المتوقعة وهنا نحن أمام عدة احتمالات لنتيجة وجود تلك الوفرة المعلوماتية أولها أن تصبح هذه الأدوات المعرفية الجديدة مبررا لفتح قنوات اتصال جماهيري تؤدي إلي إحداث حالة من التوحد الجماهيري داخل التوجه السائد للدولة وانتماءً للمشروع النهضوي الحضاري وثانيها أن تضاف تلك الأوعية إلي ترسانة الدولة لتتولي عبرها فعل السيطرة الجماهيرية ولكن هذا لم يحدث بسبب غياب المشروع النهضوي أصلاً وهو ما نجح في افتعاله"عبد الناصر" عند بناء السد العالي علي المستوي الشعبي وخلقه لفكرة القومية العربية كمشروع اقليمي وفكرة عدم الانحياز كمشروع دولي فنجح في كسب جولة صراعه مع الإخوان بأن جعل اختيار الجماهير يتجه نحوه عن طواعية لضمان تحقيق النهضة المنشودة وان رأي "توفيق الحكيم" أن في ذلك كان تغيباً للوعي إلا أن "لويس عوض" قد استحسنه في كتابه" أقنعة الناصرية السبع" كما أن وزارة الإعلام تخلت عن ترسانتها للمجهول وثالث تلك الاحتمالات هو أن تستخدم تلك الوسائل متحولة إلي إعلام منزلي لتقرر المشاركة الشعبية للسلطة الحاكمة في عملية صنع القرار وهذا ما حدث في 25 يناير ويعود الفضل في ذلك إلي طبيعة أوعية الاتصال هذه حيث ان الانترنت وعاء اتصال ثنائي الاتجاه بين المرسل والمستقبل فأصبح للمستقبل فيه حضور قوي عبر وسيلة هي رسالة في حد ذاتها كما أصبحت أوعية الإعلام المباشر التليفزيونية والمؤسسة علي اتصال واحد الطرف من جانب المرسل إلي أوعية ثنائية الاتصال بدورها بسبب ما استحدثته من برامج"التوك شو" فنتج عن ذلك إنتاج أيديولوجية خاصة لدي خصوص المتلقي من الشباب تعتمد علي وعي افتراضي صنعته أوعية اتصال بعيدة عن السلطة الحاكمة فنتج عن ذلك وجود حشود من الجماهير الافتراضية بميدان التحرير يصعب التواصل معها باللغة المعتادة من قبل مهما كانت تلك اللغة تحمل مضامين واقعية كما بدا ذلك من الحوارات التليفزيونية مع بعض نماذج الشباب المنتمي لهذا الجمهور حيث فشل كل المتحاورين معهم من الوصول إلي نقطة اتفاق لينطلق منها الحوار حيث باتت تلك القواعد والأسس الحواراتية لفن الإقناع عند"ليونيل روبي"(18991972م) فيلسوف الحوار بجامعة روزفلت بشيكاغو غير مجدية مع الجمهور الجديد الافتراضي الذي ظهر للوجود لأول مرة علي هذا النحو فلكي تتحاور مع جمهور افتراضي عليك أن تكون بدورك محاوراً افتراضياً أي تبدأ من أول السطر وتتقن تلك اللغة التي جمعتهم حتي تتمكن من مخاطبتهم لكي تفرقهم فبعد أن نجحوا في الحصول علي تنازلات من السلطة الحاكمة استجابة إلي مطالبهم استمروا في ترديد شعاراتهم وفشلت المفاوضات اللاحقة معهم عن جعلهم يغادروا ميدان التحرير فتحول موقفهم من مطالب هي تنازلات من السلطة إلي مساومات علي شروط مغادرتهم للميدان وبعد أن كانت طلباتهم هي التحول الآمن للسلطة باتت طلباتهم هي المغادرة الآمنة لميدان التحرير. عيوب الفيس بوك؟ كشفت المظاهرات بميدان التحرير عن مدي إمكانية وسائل الاتصال في إحداث إتاحة الفرصة أمام أقلية تملك القدرة علي استخدام تلك التقانة الاتصالاتية في فرض رأيها علي المجموع البعيد عن ذلك الاستخدام وعليه يحدث تقييداً لدور المؤسسات المسئولة عن التغيير عند ممارسة مهامها تحت ضغط تلك الفئة وهذا يعد من مسالب الفيس بوك والتي وان كان قد عاصره فيلسوف القانون الفرنسي"مونتسيكيو"(1689 1755م) أثناء تحريره لكتابه"روح الشرائع" لكان أضافها لرأيه في الديمقراطية حين قال"انه لا يفسد مبدأ الديمقراطية بضياع المساواة فقط بل يفسد بالإفراط في انتحال مبدأ المساواة أيضا وذلك لان كل واحد يريد أن يساوي نفسه بمن يتولي حكمه وبما أن الشعب لا يطبق ذلك عبر تفويض من السلطة فإنه يود أن يصنع كل شيء بنفسه وان ينوب عن الحكام وان يجرد القضاة" تلك هي الحالة السياسية الراهنة التي يمر بها ميدان التحرير ويستطرد"مونتسيكيو" في سرد نتيجة رغبة الشعب أن يقوم بوظائف الحكام بقوله:" وتعود مناقشات أهل الرأي غير ذات وزن ويعود الشيوخ غير مُكرمين وإذا ضاع احترام الشيوخ بات الآباء غير مُحترمين والأزواج غير أهل للرعاية والسادة غير أهل للإطاعة وجميع الناس ينتهون إلي حب الفجور وينتج عسر القيادة كما ينتج عسر الإطاعة وتُفقد بذلك الأخلاق وحب النظام ولا تبقي الفضيلة...ويقع الشعب في هذا البؤس إذا حاول أن يفسده أولئك الذين ائتمنهم كتماً لفسادهم الخاص"وللفيس بوك كما للديمقراطية حدان مفرطان يجب اجتنابهما أولهما هو روح التفاوت التي تؤدي إلي الطبقية أو إلي حكومة الفرد فالمساواة الناتجة عن الفيس بوك تمنح الفرصة لوجود مستبد هو المتحكم في الخطاب الافتراضي ولمجهوليته يتمكن من أن يستولي علي الناس عبر توجه ايديولوجي خفي فتكون فرص وجوده عبر تناقص الأمن والسعي إلي جلب تهديدات خارجية ليتواري وجوده المستبد فهو يتبع قاعدة"كلما زاد أمن الدولة تقلصت فرص بقاؤه" ويحتل هو طبقة متميزة وان لم يساهم في ممارسة الحكم وثانيها هو روح المساواة المخادعة التي أوجدها الفيس بوك فلو افترضنا مجتمعاً ينتمي بالكامل إلي فضاء الفيس بوك فإنه يتحقق ما أشار إليه"مونتسيكيو" قياساً علي فساد الديمقراطية عبر قيام الفيس بوك بإبعاد المساوة الحقيقية عن المساواة الافتراضية فالمساواة الحقيقة لا وجود لها عند قيام جميع الناس بممارسة فعل الحكم والفيس بوك لا يعترض أن يكون هناك قائد للجماهير ولكنه يشترط في هذا القائد أن يكون مماثلا لهم فهناك فرق بين ديمقراطية الانتخاب التقليدية وديمقراطية الفيس بوك فالأولي الأفراد متساون كمواطنين "محكومين" ولكن في الثانية فهم متساون "كحكام" وتلك هي معضلة ميدان التحرير فمن الممكن أن نجد من يحكم ليس عبر ممارسة ظاهرة للسلطة يعلنها المرشد العام للإخوان وإنما عبر سيطرة فردية المستوي علي الجمهور الافتراضي بميدان التحرير ليتحول ميدان التحرير من رمز لتلك اللحظة التي تحولنا فيها إلي المستقبل إلي رمز لتلك اللحظة التي عدنا فيها إلي الوراء. الحرية في الفيس بوك؟ إن حرية الفيس بوك هي حرية صنع ما يريده جماهير ميدان التحرير بينما كما يري"مونتسيكيو" أن الحرية في المجتمع ذي القوانين تقوم علي القدرة علي صنع ما يجب أن يراد وعلي عدم الإكراه علي صنع ما لا يجب أن يراد فكان من نتيجة قيام مظاهرات علي الجانب الآخر من ميدان التحرير أن تحررت السلطة الحاكمة من مفهوم الحرية لدي نموذج الفيس بوك الافتراضي وباتت تواجه الأزمة بالكشف عن اعتبارات غائبة تحتم الانصياع تحت رعاية المؤسسة الشرعية المسئولة عن التغيير وقد تجلي هذا التحول في موقف الجانبين فتحول موقف جمهور ميدان التحرير بعد حادثة الجمال والخيول من المستقويين بالحقوق السياسية إلي المغلوبين علي أمرهم في مواجهة السلطة المتعسفة وباتت مطالبهم يغيب عنها السياسة وتتحول بالتدريج إلي مطالب خاصة بعدم التعرض لهم بعد مغادرتهم للميدان كما حدث تحول في موقف السلطة فبعد أن قدمت تنازلاتها الأولي باتت تتحدث عن تقديم ضمانات لهذه التنازلات بتعليقها علي برنامج زمني للتنفيذ مبررا موقفها ذلك بحرصها علي الشرعية الدستورية في التغيير وتعهدها بعدم التعرض للنازحين من ميدان التحرير مستقبلاً فباتت السلطة الحاكمة كما لو كانت تواجه مفهوم الحرية لدي الفيس بوك بمفهوم الحرية لدي"مونتسيكيو" فهي تريد الاستجابة للجماهير ولكنها استجابة مشروطة بما يجب أن يكون عليه التغيير وليست استجابة لما يراد تغييره فتلك هي حقيقة الصراع القائم حالياً بين جمهور ميدان التحرير والسلطة الحاكمة. إن الخوف كل الخوف أن ينفلت العيار ويصبح شباب ميدان التحرير علي ما فعلوا نادمين وان تتحين الفرصة تلك الجماعات ذات التوجه الايديولوجي المناصرة لفكرة الدولة الدينية ويفسح لها المجال فساعتها لن يكون هناك فضاء جماهيري افتراضي ولا ووجود لاي مفهوم للحرية وسنرفل في عباءات خيم عليها الظلام وبدلا من أن نقول للعالم نحن هنا سنقول نحن كنا يوماً نتطلع لان نكون هناك.