ميرامار هذه الرواية المحفوظية التي جسدتها السينما المصرية في فيلم ُأنتج عام 1969م، لتلقي الضوء علي نماذج مختلفة من الشخصيات المصرية في حقبة الخمسينات من القرن الماضي، هي نفسها الرواية التي ُقدمت بعد إحدي وأربعين عامًا في عمل أوبرالي كان ميلاده عام 2005 م ، لنجد أنفسنا أمام ميرامار جديدة علي مستوي الشكل الذي تمثل في النوع الفني، وأبطال العرض، ورؤية المخرج السينوجرافية، ومستوي المضمون الذي تمثل في رؤية سيد حجاب الشعرية، و شريف محيي الدين الموسيقية إبراز الواقع المصري إبان تلك الفترة بكل مايحمله من أحلام وآلام ومتناقضات كما رسمها نجيب محفوظ . النص الشعري في العمل الأوبرالي هو أساس هذا الفن، وقد جاء نص ميرامار الذي كتبه سيد حجاب أمينا في المحافظة علي روح ولغة نجيب محفوظ في الرواية الأصلية، مضافا الي ذلك التمكن من اللغة الشعرية التي كانت متناغمة مسترسلة معبرة عن جميع مواقف المشاهد بشكل دقيق ورائع. يفتح الستار علي نموذج للبانسيون الذي تدور فيه أحداث العرض حيث يتكون من مستويين، الجزء الأول منه يمثل بهو البانسيون وهو المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، والمستوي الثاني قسم لأربع غرف صغيرة وهي التي يقطنها شخصيات العرض، أما أفانسين الخشبة فخُصص لمشاهد الشارع الذي يقع فيه البانسيون، والملهي الليلي. تمثيل الموسيقي تعدد الحالات الانفعالية والنفسية المختلفة داخل نص "ميرامار" لنجيب محفوظ لا يصلح معه التقليدية في التناول الموسيقي كما في الأوبرات العالمية نظرا لأن البيئة التي تدور فيها الأحداث شديدة المصرية، ولهجات الشخصيات متنوعة بين الفلاحي كما في شخصية "زهرة"، والشعبي كما في شخصيات بائع الجرائد وصاحب القهوة والفتوة، والأرستقراطي كما في شخصية "حسني"، والمصري المتفرنج كما في شخصية "ماريانا" .. وغيرهم. ولذلك كان علي المؤلف الموسيقي لهذه الأوبرا أن يتعامل مع الموسيقي بشكل غير تقليدي لأن الموسيقي في هذا النص دورها تمثيلي وليس استعراضيا لمهارات العزف أو الغناء للمشاركين فيها، ولذلك أجد أن اختيار المؤلف الموسيقي لفرقة موسيقية صغيرة تحتوي علي بعض الآلات الموسيقية الأوركسترالية وهي (مجموعة الوتريات، أبوا، فاجوت، كورنو، مجموعة الإيقاع، الهاربسيكورد)، وأخري شرقية وهي (عود، قانون، رق) أوجد الحالة التمثيلية للموسيقي التي توافقت تماما مع مضمون النص الدرامي. وقد احتوت الأوبرا علي عدد من الآريات التي كانت صيغة غنائية أساسية من حيث الكم في أوبرا "ميرامار"، حيث كانت النموذج الغنائي لتقديم معظم شخصيات العرض والتي تسرد من خلالها كل شخصية ملخصًا لسيرتها الذاتية . والصيغة الغنائية الثانية من حيث الظهور الكمي كانت الغناء الثنائي "الدويتو"، الذي ابتدأت به الأوبرا بحوار غنائي بين شخصية "عامر بيه" و"ماريانا"، وكذلك بين شخصيات "منصور ودرية"، "سرحان وعلية".. وغيرهم. أما الغناء الثلاثي، والرباعي، والجماعي فكان ظهوره محدودا للغاية . أما من الجانب الموسيقي فقد بدأت الأوبرا بمقدمة موسيقية قصيرة عزفتها آلة "التشيللو" بنغماتها العميقة الدافئة في نغمات السلم الصغير، التي أعطت الانطباع السمعي بالشجن وهو ماتوافق مع المشهد اللاحق علي تلك المقدمة الذي دار مضمونه حول استرجاع الذكريات بين شخصيتي "عامر" و"ماريانا"، واختتم شريف محيي أوبراه كما بدأها بعزف من آلتي "التشيللو" التي صاحبت آخر آريات الأوبرا بغناء شخصية "زهرة"، حيث تداخل خطان لحنيان تعبيرا عن حالة الصراع النفسي لبطلة العرض، انتهاءً بعزف منفرد للتشيلو مع نقرات متباعدة من آلات التيمباني، والبندير، اللتين تمثلان نبض البانسيون الذي تباطأ حتي توقف تماما مع رحيل شخصية "زهرة" عنه. كان استخدام المؤلف الموسيقي لبعض المقامات الشرقية التي تحتوي علي نغمة ثلاثة أرباع التون في الأوبرا وهي كما جاءت (الراست، البياتي، الهزام، الحجاز" واقعيا، أكسب العرض المصداقية في تصوير البيئة التي تدور فيها الأحداث، وهنا كان دور الآلات الشرقية التي صاحبت غناء الأجزاء الشرقية، الذي صاحبها بعض الإيقاعات الشرقية وهي (الوحدة الكبيرة، الملفوف، البمب ). كذلك كان اختياره لترتيل أجزاء من سورة الرحمن في مقام شرقي أيضا، وأغنية "حب ايه" لأم كلثوم التي في مقام البياتي، يحمل دلالتين أولهما التأكيد علي الروح الشرقية من خلال طبيعة الأداء الترتيلي أو الغنائي من مقامات لها طابع شرقي أصيل، ومن ناحية أخري كانت هذه المقاطع رموزا لتجسيد طبيعة العادات والتقاليد المصرية في حقبة الخمسينات. من الأشياء اللافتة للنظر في هذه الأوبرا استخدام المؤلف الموسيقي لآلة "الهاربسيكورد" التي تناساها المؤلفون الموسيقيون منذ أمد طويل، فهي آلة كانت في أوج شهرتها إبان عصر الباروك وفي النادر مايتم استغلالها في العصور الحديثة، والحقيقة أن صوتها الرقيق الناعم لعب دورًا مؤثرًا في موسيقي الأوبرا، كذلك كان لآلات الإيقاع خاصة الماريمبا والفيبرافون والاكسليفون دور فعال. أيضا استمر من بداية الأوبرا وحتي نهايتها. المشهد الأول من الفصل الثاني للأوبرا والذي احتوي علي (الخناقة) بين شخصيتي "زهرة" و"صفية" اعتمد فيه المؤلف الموسيقي علي الريسيتاتيف والجمل الموسيقية القصيرة النوتات، مما أعطاني الانطباع بأنها "خناقة" سيدات أرستقراطية مما يتناقض مع طبيعة الشخصيات الدرامية المرسومة في النص، وأجد أن هذا الجزء يمكن معالجته موسيقيا بالنوتات الطويلة الزمن، التي تمنح الكلمة الإطالة الكافية خاصة في شخصية "صفية" لإضفاء مزيد من المصداقية علي المشهد. شخصيات العرض والإخراج شارك في الأوبرا خمسة عشر مغنيا ومغنية بخلاف مجموعة الكورال وكان ظهورهم علي خشبة المسرح كالتالي: التينور وليد كُريم في شخصية "عامر"، السوبرانو "نفين علوبة" في دور "ماريانا"، الباص باريتون رضا الوكيل في دور "طلبة" وجميعهم قدم دوره بأداء تمثيلي وغنائي رائع . السوبرانو تحية شمس الدين بالتبادل مع ميرهان دمير في شخصية "زهرة" وهي الشخصية المحورية للأوبرا، علي مستوي الأداء الغنائي والتمثيلي فكلتاهما متميز، ولكن تظل المشكلة الأبدية التي تؤرق الأوبرات المصرية حيث تتناقض أعماربعض المغنيين والمغنيات مع المرحلة العمرية لشخصيات النص الدرامي، وهذا ماحدث مع تحية شمس الدين التي بدت أكبر سنا من المرحلة العمرية لبطلة النص الدرامي الأصلي، وهذا بالطبع يفقد العرض جزءًا كبيرًا من مصداقيته، ولذلك كان وجود ميرهان دميرالأكثر مصداقية لهذه الشخصية. الباريتون مصطفي محمد في دور "سرحان" أداء رائع بوعي شديد، الباص باريتون عبد الوهاب السيد في دور "العباسي"، السوبرانو جيهان مصطفي في دور "صفية" أداء تمثيلي متصنع يفتقد المصداقية. الباريتون عماد عادل في دور "صديق سرحان"، الباريتون الهامي أمين في شخصية "حسني"، التينور هشام الجندي في دور "منصور" صوت صداح جميل يحتاج لتكثيف آلي مع الأجزاء الغنائية الخاصة به لتطابق نغماته مع الآلات فالغناء في معظمه بدي عليه الزيادة التي لا يلحظها غير المتخصص. السوبرانو انجي محسن في دور "درية" أداء تمثيلي وصوت راقٍ، التينور رجاء الدين بالتبادل مع هاني الشافعي في دور "حسان"، الميتزو سوبرانو جولي فيظي في دور "المدرسة" حضور وتميز في الأداء الغنائي. محمد أبو الخير مخرج العرض والذي شارك فيه بمشاهد صغيرة وهو من الأصوات التينور الرائعة التي لم تستكمل مسيرتها في مجال الغناء الأوبرالي، هو نفسه مخرج العرض، الذي لم يغير في خطوط حركة أبطاله، أوسينوجرافيا العرض منذ ميلاده، وان جاء متناسقا مع المساحات التي أعتبرها صغيرة نظرا لضخامة الديكور مما حدد حركة المشاركين في العرض، ولكن رؤيته الإخراجية لم تخرج عن تجسيد الواقع مبتعدة تماما عن أي رؤية تجريدية أو تجريبية، أو حاملة للإشارات والمعادلات الموضوعية، وهي بذلك رؤية تقليدية للإخراج ولكنها متميزة.