لو سمينا الأفلام بأسماء أبطالها، وقلنا إن فيلم «عسل إسود» لأحمد حلمي، وهذا شيء يجر السينما أكثر إلي الوراء، لقلنا أن الممثل يعود مجدداً إلي ما يسمي بأفلام الاسكتشات التي اشتهر بتقديمها قبل الصعود الكبير له في فيلم «كده رضا». نعم فيلم «عسل إسود» إخراج خالد مرعي، هو مجرد مجموعة من الاسكتشات المتتالية المنظمة تنظيماً آلياً لطيفاً، بدا أشبه بكرة القدم الإلكترونية في كأس العالم، تتفرج عليه بإمتاع، لكنها تفتقد إلي شيء ما، تحسه أنت كمشاهد.. الفيلم منقسم إلي قسمين رئيسيين الأول، وهو الأطول، عقب وصول مصري من الولاياتالمتحدة إلي القاهرة، باعتباره مواطناً قاهرياً، ولا أعرف لماذا لم يختره الفيلم من مدينة أو قرية بعيداً عن العاصمة، ومعايشة الشاب العائد من الغربة بعد غياب طال عشرين عاماً، ومقابلته لجميع السلبيات الموجودة في الوطن، السلبية تلو الآخري، كل منها في شكل اسكتش، يؤدي الواحد منها إلي الآخر، أما القسم الثاني من السلبيات، فهو في المرحلة التي يري فيها «مصري» ويعيش كل إيجابيات الوطن، مما يجعلنا نتعاطف معه بشدة، وهو في طريق العودة، لدرجة أنه لم يحتمل الفراق الثاني، فأصابه بتلبك معوي، أو لعله تظاهر بذلك، حتي يعود مجدداً إلي هذا الوطن. الفيلم إذن من مواليد برج العقرب، لايري سوي فعلين فقط: «يكره» أو «يحب» ليس بين الاثنين أي ثالث، ليست هناك محطات رمادية، بمعني أن الفيلم ظل يسقط أمطار السلبيات علي «مصري» منذ نزوله أرض المطار، إلي أن اكتشف الدفء الداخلي في البيت الذي نزل فيه ضيفاً.. ثم بدأ فرأي كل شيء دافئاً، جميلاً، مليئاً بالمظاهر الإنسانية، فرأي الجانب الأفضل من الناس الذين هم «الوطن».. والغريب أن السائق الطماع راضي، قد تغير فجأة فصار مقبولا لدي مصري، وجعله يقوم بتوصيله إلي المطار في رحلة العودة. والقسم الأول من الفيلم، ينقسم باسكتشاته أيضاً إلي قسمين أساسيين، الأول عبارة عن اسكتشات متتالية لما يحدث في الشارع المصري، حتي إذا تعرفنا عليها كلها، من وجهة نظر الفيلم، بدأ السيناريو في عرض السلبيات التي يعيشها المصريون في داخل البيوت، مع عودته مرة أخري، بشكل متناثر، إلي ما يحدث في جوف المدينة، مثل الهرولة وراء الأتوبيس لركوبه، وسقوط «مصري» فوق الأرض عند النزول والأتوبيس يتحرك إلا أنه ليس علي خبرة بأمور النزول أثناء انطلاق الأتوبيس، وهو الذي سيتعلم فيما بعد كيف يفعل ذلك بمهارة، باعتبار هذا يحدث في الجزء الملئ بالإيجابيات المصرية. الاسكتش الأول الذي يقابلك، أثناء نزول العناوين، هو الحوار الذي يدور بين «مصري» وشاب مصري آخر عائد إلي الوطن، وحوار ملئ بالحماس من طرف «مصري» وبالحذر من طرف الشاب الآخر الذي سيكون أيضاً في نفس طائرة العودة (علي طريق المصادفات السينمائية» وفي مقعد مجاور، ويتبادلان الحوار، وذلك مثلما حدث في الفيلم الفرنسي «رجل من ريو» بطولة جان بول بلموند عام 1964. هواء ودخان بعد الخروج والسعال عند استنشاق أول هواء مصري، وخاتم الجوازات، يبدأ علي الفور اسكتش سائق اللاموزين راضي، الذي لا يأخذ معه في سيارته «الميكروباص» الركاب المصريين، لأنهم بيفاصلوا، ويقبل أن يقوم بتوصيله عندما يعرف أنه أمريكي، مادام مش فاهم حاجة ح أوصلك «ومن خلال هذا السائق، يقدم الفيلم أول صورة سلبية ستقابل مصري» والتي سيتقبلها بحسن نية، وقد استعان الفيلم بالممثل الكوميدي لطفي لبيب، كي يدس السلبيات في عسل نحل، ليحوله إلي اسود والظلام من عندي، فرغم أننا في شهر رمضان، فإن هذا لا يمنع السائق أن يستغل العائد من أمريكا، بأن يخبره أن الشطيرة ثمنها مائتي جنيه، وأن زجاجة المياه بثلاثين جنيهاً، وهذا السائق يرمي بفوارغ المياه في الشارع ويردد بلطف شديد «فيه الي بينضف ويكنس».. وهذا السائق يستغل الراكب بأن يتكلم إلي زوجته من هاتفه المحمول، والمفروض أن هذا الهاتف دولي، وليس محلياً.. كما أن السائق يترك المسافر بحقائبه، إذا كانت لديه حقائب علي مسافة بعيدة من الفندق. وبانتهاء الاسكتش الأول، اسكتش السيارة الأجرة والسائق، حتي يبدأ الاسكتش التالي، لما يحدث في الفندق، أو الفنادق، حيث يؤكد السيناريو أن هناك مفاضلة بين النزلاء حسبما إن كان مصرياً، أو أجنبياً، والمغالاة في أسعار الإقامة. وهكذا تتوالي الاسكتشات، وكما أشرنا، فإن السلبي يأتي أولاً، وفي شوارع القاهرة، مثل اسكتش زيارة الهرم بجميع أشكال الاستغلال، ثم اسكتش القلعة، والمسجد حيث تمت سرقة الحذاء، ثم اسكتش القسم بعد القبض عليه، وهناك يقابل السائق أيضاً علي طريقة مصادفات السينما، وبعد ذلك مباشرة اسكتش المظاهرات ضد أمريكا، وتحرش بعض الشباب الملتحين به. بانوراما داخلية وهكذا أراد الفيلم أن يقدم كل القاهرة المعاصرة في اسكتشات متلاصقة، من خلال ما يمكن أن يقابله شاب عائد إلي بلاده، وبالغ الحماس للإقامة فيها، إنها مصر التي نعرفها، واعتدنا عليها ثم تكثيفها في هذه الاسكتشات، وهناك بعض المظاهر الإيجابية في هذه الاسكتشات، مثل موائد الرحمن، وتوزيع الصدقات. وبعد كل هذه البانوراما للسلبيات المصرية في جوف المدينة، تبدأ سلبيات مصر الداخلية، أقصد داخل البيوت، عندما يبحث «مصري» عن بيته القديم، وفي بيت أم سعيد، نري ما تعيشه الأسرة العادية، أيضاً من خلال اسكتشات متتالية: أولاً ازدحام الشقة الصغيرة بأشخاص كثيرين، سعيد، وأمه، وأخته ابتسام، وزوجها منصف، وأخوه الصغير، ويأتي «مصري» كي يزاحم علي المائدة، والفراش، ويكشف الفيلم السلبيات أولاً فسعيد المتدين بلغ الحادية والثلاثين دون أن يجد وظيفة أو عروساً، أما ابتسام فقد أقامت مع زوجها في غرفة واحدة «إذا كنت أنا جوزها ومش عارف أبوسها.. ولا شك أن هذا الاحتكاك يولد بعض المتاعب الصغيرة، التي لن تلبث أن تتحول إلي الجانب الإيجابي». ووسط الاسكتشات الخاصة بالحياة المنزلية للمصريين، يعود الفيلم إلي سلبيات الحياة العامة مثل اجراءات استخراج بطاقة الرقم القومي، وما يحدث في داخل الأتوبيسات وكفاءة المدرسة ميرفت التي لا تجيد الإنجليزية التي تدرسها للتلاميذ. وباعتبارنا أمام فيلم كوميدي، ففي رأيي أن كل هذه السلبيات، يمكن أن نطلق عليها رومانسيات السلبيات، فالمشاكل الحقيقية التي يعانيها الوطن، والموجودة من حولنا لم يشر إليها الفيلم باعتبار أن «مصري» لم يذهب إليها، أي أنه كان يعيش علي سطح المجتمع، وليس في أغواره ، وكان يكفي أن يقرأ صفحة واحدة من صفحات الجرائم ليعرف مأساوية السلبيات وليست رومانسياتها. وهناك فارق واضح بين المواطنة العائدة من الخارج، وموقف السائق معها في فيلم «الدنيا علي جناح يمامة» لعاطف الطيب 1989، وبين ماحدث لمصري عام 2010، كما أن هناك فارقاً واضحاً بين المخترع الشاب الذي جاء من داخل مصر، الصعيد، إلي العاصمة في فيلم «هنا القاهرة» إخراج عمر عبدالعزيز عام 1985، وبين السلبيات التي عرضها الفيلم هنا.. وبين ما رآه «مصري» هنا، الذي بدأ يكتشف السلبيات، فحاول أن يعطي رشوة «إكرامية» لموظف الجوازات، فرفضها الأخير بلطف ملحوظ. زمن غير محدد معذرة، لقد قلت إن الفيلم تدور أحداثه عام 2010، ورمضان لم يأت بعد، فليكن زمن الفيلم في العام الماضي، لكن لا شك أن زمن الفيلم، غير المحدد، يعود إلي ما قبل إثني عشر عاماً، أي حين كان رمضان يأتي مع موسم الشتاء، حيث أن ملابس جميع الشخصيات شتوية، بما فيها سترة «مصري» و«سعيد» ورغم ذلك رأينا صور الرؤساء الأمريكيين الذين حكموا الولاياتالمتحدة طوال عشرين عاماً.. ومنهم صورة «أوباما» بما يؤكد أن الفيلم دارت أحداثه العام الماضي، وكان الناس يرتدون الملابس الثقيلة في سبتمبر. مثلما فندنا ترتيب مشاهد واسكتشات السلبية، هناك أيضاً الإيجابيات، وقد اعتبر الفيلم أن مشاركة العائلة في عمل كعك العيد، من الإيجابية، ثم مائدة الرحمن ومشاركة مصري في إعدادها وحسب وقائع الفيلم، فإننا أمام الأيام العشرة الأخيرة من الشهر الفضيل، ورغم أنها عشرة أيام فإن «مصري» قص شعره الطويل ثم رأيناه يعود طويلاً في الأيام الأولي من شوال، وهذا الشعر يحتاج إلي أشهر للنمو بهذا الشكل.. هناك أيضاً اسكتش العيد، والنزهات النيلية ثم محاولة «مصري» التقرب من منصف أن يمنحه مفتاح شقة ليخلو إلي زوجته، واسكتش مصروف العيد، ثم اسكتش الوداع، ومسألة «عودة المواطن» إلي بلده الجديد، مثلما حدث في الفيلم الذي أخرجه محمد خان عام 1986، لقد تحولت مصر كلها داخلياً علي الأقل - إلي يوتوبيا جميلة مليئة بالذكريات، تستحق أن توجع بطن الابن العائد إلي الغربة مرة أخري. في مقالاتي، لا أميل كثيراً إلي الحديث عن أداء الممثلين، ولكن لي رأي خاص في أداء أحمد حلمي، منذ «سهر الليالي».. فهو ممثل ذكي، بارع في فعل.. الضحك، وأتمني أن يبتعد قدر الإمكان عن مشاهد العصبية والنرفزة، فسرعان ما تنكشف موهبته التي لا يدركها الناس، حدث ذلك في مشهد عصبيته علي زوجته في «سهر الليالي». والآن وبعد ثماني سنوات، لم يجد أداء مشهد مشابه في «عسل إسود» لذا، فهو ممثل الدور الواحد الكوميدي، العادي.. وليس الدور المركب.