كثيراً ما نسأل أنفسنا ..هل ولد النفاق مع الإنسان ، ثم لازمه عبر العصور ، مروراً بكل مراحل التطوير ، نظراً إلي ميل يكاد يكون طبيعياً للاقتراب من الآخر ، وحتي بتنا نري النفاق في كل مكان وزمان أو خطاب أو عبارة في وجود ديناصوري جبار ؟ لقد بات النفاق داء يستحيل علاجه ، وللأسف لايبرأ المثقف من أعراضه ، فكثيراً ما يدعوه الموقف أو تناديه المناسبة إلي مدح في غير محله أونقل واقعة وفق رؤيته النفعية ، فكان شعراء المديح والنفاق والهجاء والفخر والرثاء والوفاء حسب المناسبة 0 لقد أصبح النفاق مادة ووسيلة للوصول إلي غاية مكشوفة ومفضوحة .. ىُجمع الخبراء وحتي بسطاء الناس في بلادي ، بل وفي كل بقاع الدنيا أن تسرب أدوات وأشكال النفاق الميسرة للفساد بأي من ألوانه أو كلها إلي بنية أي مجتمع ، وأن تولي رموزه بعضاً من مواقع القيادة والإدارة من شأنه نسف كل الجهود الإيجابية المبذولة لتحقيق أي تقدم في مسيرة الناس وتلبية طموحاتهم فضلاً عن التأثير السلبي علي حالة الاستقرار والسلام الاجتماعي ودرجة الانتماء للوطن. استطلاع للرأي وعليه كان من الجيد والأمر إيجابي أن تكلف الحكومة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لها بالقيام باستطلاع رأي الناس حول أخطر تحد تواجهه الأمة وهو انتشار مظاهر الفساد وتبعاته وآثاره السلبية المتزايدة علي التنمية والاستثمار وتحقيق أي تقدم. والحقيقة ، ورغم زعم بعض المشككين في أهداف إجراء الاستطلاع وتوقيت القيام به ، فإن إنجازه يعد خطوة مهمة وجادة نحو التعامل مع أخطبوط الفساد بشفافية وموضوعية .. لقد قال 14 ألف مصري رأيهم في قضية بالغة الخطورة ، ولأول مرة قررت حكومتنا أن تجالس الناس وتسمع لهم مباشرة ، وهو ما يعد إنجازا مهماً في حد ذاته. تقول نتائج استطلاع الرأي أن أهم أسباب انتشار الفساد تكمن في ضعف المرتبات ، وارتفاع الأسعار ، وانتشار البطالة ، وغياب الضمير ، وضعف آليات الرقابة والمتابعة ، وتراجع كفاءة الإدارة وأكد 75% من حجم العينة أن تقديم الرشوة والهدايا والإكراميات تمثل المظهر الأكثر انتشارا لصور الفساد يليها مجاملة الأقارب والمعارف وتقديم التسهيلات الحكومية ، والتعامل بتسيب وإهمال مع المال العام والاختلاس والتبديد .. لقد أعلن 40% أنهم تعرضوا للتعامل مع مظاهر الفساد والفاسدين ، إلا أن استطلاع الرأي والدراسات التي أعقبته لم يتم الإشارة فيها لداء النفاق وممارساته الرذيلة والممجوجة في دواويننا الحكومية وفي كل مواقع الإدارة المصرية رغم خطورة هذا المرض اللعين الذي أراه أحد أسباب فساد الإدارة الذي يصل برموزه إلي رفع شعار " كله تمام يا افندم " الذي أضاع بدوره الكثير من فرص الإصلاح بعد تفشي حالات تزييف الواقع أو تجميله كذبا وريا.. يبدو أنه لم يعد يكفينا تعليم أجيالنا الطالعة النفاق في كتب المطالعة والنصوص الشعرية والنثرية ، وعبر تعاليم إدارة المدرسة في بث مفاهيم مغلوطة لصور الاحترام ومن خلال ممارسة الطقوس الأبوية السلطوية في بيوتنا المصرية حتي بتنا نتابع صور النفاق أيضا في المؤسسات الدينية ( وهي المؤسسات التي كنا نأمل أن تقدم النموذج الأمثل في الصدق والشفافية ) رغم وضوح تعاليم و آيات الكتب المقدسة التي تدعونا لرفض كل صور النفاق وأقوال وأفعال المنافقين .. في القرآن الكريم " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً " ، وفي الكتاب المقدس يحذر أهل النفاق " فتعقب أهل النفاق مستقصياً آثارهم وأحرق الذين يفتنون شعبه بالنار " .. سلوك فطري والسؤال هل بات داء النفاق ومغازلة رضا الأعلي مكانة والتقرب إلي أصحاب المعالي والعزة والرفعة والجاه عبر كل العصور سلوكاً فطرياً طبيعياً يتنفسه الناس في بلادي شهيقاً وزفيراً علي أرض المحروسة؟ لقد بتنا نحتسب النفاق دون مبالغة ضمن المركبات الجينية الجوهرية الساكنة في تركيبة المواطن تم تعزيزها بالكثير من طرق وتقاليد تربوية نحرص علي أن يكتسبها الطفل في البيت والمدرسة والنادي من تزيد في تلقين فلذات الأكباد طقوس وآداب تربوية علي أنها لون من الالتزام بمبادئ احترام الكبار فإذا بها تصل إلي حد التدريب علي فنون النفاق والاسترضاء وتقديم " السبت " للحصول علي " الأحد " كما يقول المثل العامي والخوف من الأكبر وما يملكه من سبل العقاب ، وأن لكل شيء ثمناً يجب أن ىُدفع حتي لو كان علي حساب الكرامة واحترام الذات .. كما أننا أصحاب رصيد هائل في النفاق الحكومي .. تحت عنوان " فنجان قهوة مع سعادة حسين فهمي رفعت بك وكيل وزارة الداخلية " كان لرئيس تحرير مجلة " مجلتي " حوار مع وكيل وزارة الداخلية في مجلته بعددها الصادر في 15 يوليو 1939.. في هذا الحوار مثال يعد نموذجاً لتراثنا في مجال آداب النفاق وفنون صياغة وزخرفة الكلمات عند إنشاء الجمل والعبارات والانسحاق والتلاشي أمام صاحب السلطان .. وليأذن لي قارئ هذه السطور عرض بعض الجمل التي بذل فيها الكاتب جهوداً عبقرية لتلوين الألفاظ وتنويع الأداء وجاذبية الاستعطاف وإعلاء نبرات الاسترحام وحفز روح الرضا والشمول بالعطف. في تقديمه للحوار مع سعادته ، وفي معرض وصفه لملامح رفعته يقول " رقيق البناء دقيق التقويم ، فريد الطابع جذاب الطل يمتاز وجهه القسيم بذقن مستدير يستشف منه الفنان الموفق لوناً أصيلاً من ألوان الجمال ، ويقرأ فيه الناقد المتخصص معن بيناً من معاني العبقرية .. إنه لوجه يظهر غير ما يبطن ، فإنه يبدو لغير المنعم فيه الأريب ، أنه وجه ساذج يصور نفساً لا تختلف كثيراً عن أنفس الساذجين ، علي حين أنه يبدو للبصير المحقق أنه وجه نابغة متعمق يصور نفساً لا تختلف في شيء عن أنفس النابغين المتعمقين" .. وهكذا يري الكاتب سعادة الوكيل وعبر الطلة الأولي علي ملامحه الكريمة صفات التفرد والجاذبية والجمال والعبقرية والبساطة مع النبوغ والتعمق .. وهنا يسأل القارئ نفسه وماذا بعد ؟! .. أي حوار يمكن أن يكون مع نوع من البشر قرأنا في ملامحه كل تلك السمات العبقرية من الوهلة الأولي .. فماذا يمكن أن يقال عند الحديث عن أعماله وأفعاله وإنجازاته ومساهماته ودوره الوطني والمجتمعي والمهني وحياته وثقافته ومعاملاته مع الناس ... الخ؟! وبرغم مرور أكثر من سبعين عاماً علي نشر هذا الحوار مازال هناك من يمارس النفاق أو التطييب والتفخيم والتعظيم ، مع كل المتغيرات الحادثة محلياً وإقليمياً وعالمياً التي أتاحت مساحات أكثر لوصول المعارف والعلوم والثقافات التي تفضح بدورها كل أشكال النفاق والدعوة إلي نبذها بعد رصد مثالبها وبيان نتائج ممارستها ، باستثناء التغيير في أنماط التعبير فلم يعد هناك استخدام الزخارف والمحسنات اللفظية والمبالغات الممجوجة والتكرار الممل حيث حدث توسع هائل في استخدام أشكال النفاق حتي بتنا نري كل يوم بدعاً جديدة واستخدامات أكثر وفي أوساط ومجتمعات لم نكن نتخيل أن يتخللها هذا السلوك وصرنا نسمع ونشاهد النفاق الإذاعي والتليفزيوني والإلكتروني بداية من محافل وصالونات النخبة وأهل الرأي وحتي مواقع الدرس والبحث العلمي ، بل والأخطر في المؤسسات الدينية .. مع تواري وتراجع القيم الإيجابية ، تزداد وتيرة ظاهرة النفاق المجتمعي ، فكلما تفشي الفساد ، وتنوعت آلياته كلما كانت هناك حاجة للنفاق ( شئ لزوم الشئ علي الطريقة المصرية في مراحل التراجع ) .. وحتي مع استخدام آليات العصر ومواجهة عالم سحري متسع كان الإبداع السلبي المقاوم لكل تقدم إنساني وانفتاح كاشف وفاضح للفساد .. فكان تغيير الوسائل والسعي لتغيير ثقافة مجتمع ، وإلي حد استثمار حالة التدين الشكلي واللعب بمفردات لدغدغة حواس بشر يعانون انتشار الأمية الأبجدية والثقافية والمعرفية ..فصعد النفاق بوجوه كالحة لزجة غادرت كل قيم الشرف والوطنية والولاء. الدين والنفاق يبدو أنه لم يعد يكفينا تعليم أجيالنا الطالعة النفاق في كتب المطالعة والنصوص الشعرية والنثرية ، وعبر تعاليم إدارة المدرسة في بث مفاهيم مغلوطة لصور الاحترام ومن خلال ممارسة الطقوس الأبوية السلطوية في بيوتنا المصرية حتي بتنا نتابع صور النفاق أيضا في المؤسسات الدينية ( وهي المؤسسات التي كنا نأمل أن تقدم النموذج الأمثل في الصدق والشفافية ) رغم وضوح تعاليم وآيات الكتب المقدسة التي تدعونا لرفض كل صور النفاق وأقوال وأفعال المنافقين .. في القرآن الكريم " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً " ، وفي الكتاب المقدس يحذر أهل النفاق " فتعقب أهل النفاق مستقصياً آثارهم وأحرق الذين يفتنون شعبه بالنار " .. في كنيستنا المصرية علي سبيل المثال يتفاني بشكل مبالغ فيه بعض الكهنة في ممارسة سلوكيات الاحترام والتقدير والتزيد في اتباع بعض الطقوس لإعلان الولاء للمطارنة والأساقفة وقداسة البابا حتي وصل الأمر إلي إنفاق مبالغ هائلة لتهنئتهم أو تقديم واجبات العزاء وتمنيات الشفاء العاجل والدعاء بالوصول بسلامة الله لأرض الوطن علي صفحات الجرائد القومية والمستقلة والدينية بنشر صورهم الملونة وبأحجام كبيرة مدفوعة الأجر ، وصار الأمر وكأننا بصدد متابعة نوع من التسابق بين الكهنة والقساوسة لكسب الرضا رغم أن المسيحية في كل تعاليمها تدعو إلي الزهد وعدم السعي إلي الحصول علي المجد الأرضي الزائف ، ويحدث هذا رغم حالة الإحباط الأدبي التي يعيشها الكهنة علي وجه الخصوص لأن الكاهن هو الشخص الوحيد الذي لا سبيل لترقيته أدبياً ، بل علي العكس يفاجأ عبر حياته الكهنوتية بشاب قد يكون في عمر أولاده قادماً من الدير أسقفاً علي الإيبارشية التي تقع كنيسته في دائرتها التي أعطاها كل عمره يمارس عليه طقوس الإدارة والرئاسة والتوجيه والإرشاد والعقاب والمكافأة فيضطر إيثاراً للاستقرار الالتزام بمقولة " علي ابن الطاعة تحل البركة " حتي وصل الأمر مؤخراً إلي حد تجمع أكثر من 500 كاهن كما ذكرت الصحف في احتشاد لإطاعة قيادات الكنيسة وتأييدها في تصعيد غريب لمناهضة فكر قد نختلف أو نتفق معه لرجل أكاديمي يحاول تقديم حلول إصلاحية حتي كان للكنيسة ما أرادت في توقيع أقصي عقوبة دينية علي الرجل ..