تكاد تصبح' تلك الابتسامة', العدمية المستهترة المتذاكية الخبيثة, المعادل الموضوعي لكل أنواع النفاق الاجتماعي والأخلاقي تجاه المرأة في مجتمع يلوك مثقفوه ومشرعوه في كل مناسبة موضوع' حرية المرأة' وضرورة أن تقرر المرأة مصيرها بيدها ووفقا لظروفها وإمكانياتها مثل الرجل تماما. لكن بعد كل تلك العبارات وغيرها, ينظر إليك قائلها ب' تلك الابتسامة' ويهمس:' أهم حاجة متكنش لا أختي ولا مراتي ولا بنتي'. ولا يمكن أن نتجاهل أن الكثيرين ممن ينادون بحرية المرأة ويدعون إليها يمارسون سلوكيات وتصرفات أخري تماما مع نفس تلك المرأة, وكأن المرأة التي يتحدثون عنها كائن وهمي يكاد يعادل الرخ في وجوده, بينما المرأة التي تعيش معهم في المجتمع غير موجودة أصلا ضمن حدود المفاهيم التي يلوكونها نظريا. يبدو أن قاعدة النفاق الاجتماعي الأخلاقي أصبحت تشكل المرجعية الصلبة لنفاق تشريعي لا يستمد أصوله ومرجعياته من دساتير أو كتب سماوية أو حتي كتب المدارس الابتدائية. فإلي هذه اللحظة لم يتمكن أحد من بلورة الأسباب الحقيقية التي تمنع دخول المرأة قاضية إلي مجلس الدولة. وكأن المرأة في المناصب الأخري, داخل مصر وخارجها, تجاوزت كل العقبات واجتازت كل الامتحانات بنجاح بينما مجلس الدولة في مصر محصن تماما ضد اختراق هذا الكائن له. ما هي الأسباب بالضبط؟! البعض يتحدث عن العمر المناسب للمرأة من أجل دخولها قاضية إلي مجلس الدولة. والسبب مرتبط بأمر طبيعي تماما, ألا وهو' الدورة الشهرية'. المدهش أن الحديث يدور حول هذا الأمر بدون خجل وكأن الدورة الشهرية عند المرأة حاجة زائدة وعار ومدعي للانزواء والتنازل عن الحقوق والطموحات والأدوار. البعض الآخر ينظر إلي الأمر من زاوية التشتت الأسري, لأن المرأة التي تعمل قاضية في مجلس الدولة ستغير مكان إقامتها كل6 أشهر. وبالتالي ستعاني أسرتها. ولا أحد يتحدث عن المرأة التي تعمل في السلك الدبلوماسي. علما بأن القاضية في مجلس الدولة ستتنقل داخل حدود الدولة المصرية وليس في عواصم الدول الأخري سواء العربية أو الأوروبية, أو التي تختلف شرائعها وتشريعاتها عن التشريعات والشرائع المصرية أو تتفق. أما الأكثر إثارة للدهشة, هو ذلك التناقض المهين, عندما نتحدث عن سن الأربعين والخامسة والأربعين ثم نعود لنتحدث عن التشتت الأسري, وكأن المرأة هي المسئولة الأولي والأخيرة عن التشتت الأسري. في هذه السن تكون الأسرة قد تبلورت والزوج قد نضج بما فيه الكفاية والأولاد في حالة ذهنية ونفسية وفيزيقية تسمح لهم بتقبل ذلك. بل وقد يصبح الأمر مدعاة للفخر والاعتزاز بأن الأم أو الزوجة أو الأخت قاضية في مجلس الدولة وقادرة علي أداء دورها مثل أي كائن اجتماعي آخر. الحجة الثالثة, أو ثالثة الأثافي, هي الخلاف علي الزي الذي يجب أن ترتديه القاضية في مجلس الدولة:' محجبة' أم' غير محجبة' أم نصف محجبة'! الحديث يدور حول ذلك بلا أي خجل أو إحساس بالنفاق الأخلاقي والديني والاجتماعي, وبدون أي إحساس بخرق الدستور والقانون. في أولي الأثافي تدخلنا في جسد المرأة وتكوينها الذي ولدت عليه. وفي الثانية تدخلنا في شئون بيتها وأسرتها وحملناها مسئولية تشتيت الأسرة. وفي الثالثة بدأنا, كالعادة, بالتعارض بين الدين( متقلصا في الحجاب) وبين الحق الدستوري في العمل وحرية الحركة والتنقل. بل وتجاوزنا الحدود لنتعدي مباشرة علي حقوق المواطنة. فهل سيكون كل قضاة مجلس الدولة من المواطنين المصريين كاملي الأهلية والمواطنة بصرف النظر عن النوع والدين والعرق؟ إذن, ما هو بالضبط الداعي للحديث عن زي القاضي أو القاضية؟ لماذا لا يقصر قضاة مجلس الدولة اللحي ويحفون الشارب؟ هل يتصور أصحاب هذه الدعوات أن القاضية ستذهب إلي عملها بشورت أو بفستان سهرة؟ هل وصل الأمر إلي انتزاع كامل الأهلية عن المرأة المتعلمة المثقف؟ القاضية لتعليمها ماذا ترتدي, أو بفرض رداء معين عليها, وهي التي تدري أحسن من أي إنسان آخر ماذا ترتدي أثناء ذهابها إلي العمل, خاصة إذا كان هذا العمل مرتبطا بأمور الناس والدولة والمصالح العليا للبلاد؟ قد تكون هناك أسباب سرية لا يريد لنا أحد أن نعرفها لأننا قاصرون ولا نعرف مصالحنا, وبالتالي لا نعرف مصالح البلاد والعباد. وهنا تزداد الأثافي واحدة, لتتكلل ثلاثتها بالوصاية سواء علي المرأة أو الرجل. كل ذلك في ظل حديث, عن الديمقراطية وضرورة التجربة وخوضها, لا يقل نفاقا عن النفاق الاجتماعي والتشريعي. لقد رأينا قاضيات في الكثير من الدول المحترمة, بينهن من في سن الثلاثين والخامسة والثلاثين والخمسين. لم نر واحدة تذهب إلي العمل ب' تي شيرت' أو بمكياج صارخ. ولم نشاهد علي الإطلاق في تلك الدول قاضية' تضرب شعرها أوكسيجين' وترتدي' جيبة ميني جيب' وفي فمها سيجارة أثناء عملها. دول كثيرة تجاوزت منذ عقود ما نحن فيه, كل مواطن فيها لديه الحرية فيما يأكل ويشرب ويرتدي. ومع ذلك يدرك أن لكل مقام مقال, وأن ملابس البحر لا تصلح للسهرة, وثياب الثانية لا يمكن أن تتماشي في قاعة المحاضرات أو في المحكمة أو العمل الرسمي. فهل ستزايد المرأة المصرية؟ القاضية علي زميلتها الأجنبية في الزينة والثياب؟ أشك في ذلك! هل يلعب الأوصياء, علي المرأة والرجل والمجتمع عموما, لعبة مزودجة لحساب أحد ما أو قوة اجتماعية أو سياسية ما؟ إذن, ما هو الموضوع بالضبط؟ وعما يجري الحديث؟