في فيلمه الأول (ميكانو) تكاملت الرؤية الفنية مع عمق الفكرة و إجادة توظيف مفردات اللغة السينمائية. واختلفت الآراء حول تجربته الثانية (أدرينالين)، و لكن اتفق الجميع علي أنه عمل يحترم عقل المشاهد و تم تحقيقه بتمكن لا يخلو من هنات لا تقلل من قدرات مخرجه. و أصبح الرهان يتزايد علي محمود كامل كأحد آمال السينما المصرية نحو تقديم أعمال جماهيرية ذات لغة فنية راقية وهو ما كان الجميع في انتظار تأكيده مع تجربته الثالثة (عزبة آدم) .و لكن الفيلم أحاطت به المشاكل من قبل حتي تصويره . كانت البداية مع أخبار متناثرة ذات طابع مثير منها ما نشر عن رفض فنانة شابة اسمها ألفت عمر أول بطولة سينمائية لها من خلال هذا الفيلم، بزعم إصرار المخرج علي تصوير مشهدين ساخنين لها. استمرت أزمة الفيلم مع الرقابة أيضا حول ما أثير عن اعتراضها علي بعض مشاهد السيناريو، فتم تعديل السيناريو أكثر من مرة. ثم عادت الرقابة لتحيل النص إلي وزارة الداخلية، بدعوي أنه يتناول شخصية رجل شرطة فاسد، يفرض سطوته علي الفقراء من أهل العزبة و يعمل لصالح اللصوص الكبار و لخدمة مصالحه وطموحاته الشخصية . ثم امتدت أزمة الفيلم بعد انتهاء تصويره مع مهرجان القاهرة السينمائي حين أصدر رئيسه التصريح الذي أثار عاصفة من الغضب بأن لجنة المشاهدة رفضته لضعف مستواه الفني. بداية قوية و الحقيقة أن المشاهد الأولي من الفيلم كفيلة بأن تبدد لديك أي مخاوف، و أن تفرض عليك احترام العمل ومتابعته بمنتهي الحرص و الاهتمام. فالمخرج محمود كامل يبدو أنه يواصل جهوده نحو التأكيد علي أهمية عناصر التكوين، و البحث عن أسلوبية خاصة كعادته. و يبدو أنه يلجأ هذه المرة إلي مزج الواقع بالأسطورة، يتضح هذا من تضافر صوت الرواية وهي تحكي عن بداية العزبة التي كانت مسكونة بالعفاريت و قدوم آدم إليها و ظهور عروسة البحر له. تتوازي مع هذه الحكاية لقطات لأطفال فقراء يسرقون الأسماك من السوق و يهربون إلي أحد الأسطح لتقسيم الغنيمة. و بالتوازي مع حركة كاميرا مدروسة وكاشفة لعمق المجال يدخل صوت الحوار قاطعا سرد الراوية بشكل متعمد حيث نري الشرطي يحدث زوجته عن ابن شقيقته حامد أحد الأطفال لنتعرف علي ظروفه و أسباب شقائه و بؤسه . ولتأتي الانتقالة الزمنية الرائعة من الأبيض و الأسود للألوان لنري حامد و قد صار شابا تختلط في ملامحه صورة البلطجي بالمتشرد. و لكن صوت الراوية يتواصل مع استمرار الزمن بلا ضرورة علي الرغم من أن البعد الأسطوري للحكاية يتوقف شكلا ومضمونا و لا يتبقي منها سوي جانبها الواقعي . و يتأكد هذا بوضوح في ديكور كمال مجدي الذي يحدد بدقة طبيعة الأماكن من خمارة طناش إلي بيوت الشخصيات الرئيسية بما تعكسه من تفاوت محسوب في المستوي الاقتصادي دون إضفاء أي لمسات تعبيرية أو تغريبية قد تثري البعد الميثولوجي . في المشاهد الأولي تتبين لك حكاية الأصحاب الثلاثة الذين تحددت معالمهم من مشاهد طفولتهم التي تابعناها فيما قبل العناوين. فحامد - فتحي عبد الوهاب - يتميز بحدة و شراسة واستعداد لفعل أي شيء للهروب من الفقر. أما مصطفي - أحمد عزمي - ابن الريس رجب - محمود يس - يشاركهم أعمال السرقة بعد تردد لمجرد مساعدة حبيبته مريم - دنيا سمير غانم - مع أنها احترفت الدعارة بعد أن أقعد المرض والدها. أما ثالثهم خليل - سليمان عيد - فهو عبد للكيف، وطموح للأصناف الأرقي من المخدرات . عبر مشاهد سريعة و قوية سينمائيا تتعرف علي عالمهم الذي يرصده محمود كامل بلغة بصرية تتناسب مع فقره و إمكانياته الجمالية و الضوئية. و يحقق بدرجة عالية من الإتقان تأسيسا مناسبا لجغرافية المكان و خصوصية عالمه. و يتعاون معه في هذا مدير التصوير المتمكن هشام وديد سري الذي ينجح تماما في السيطرة علي الإضاءة في اللقطات معقدة الحركة، أو المشاهد التعبيرية التي تتطلب إضاءة موحية لبعض الشخصيات، أو في مشاهده الليلية الكثيرة بتكويناتها التي يطغي السواد علي مكوناتها، دون أن يؤثر علي وضوحها أو يمحو جمالياتها. بداية الارتباك و لكن مع وصول ضابط الشرطة تصيب الفيلم حالة من الارتباك والالتباس. تبدأ من تعليق الراوية " يوم ما سعد باشا وصل كان حاطط في دماغه ينضف العزبة " بما يحمله وصف سعد باشا من دلالة .. واستمرارا مع كل ما يتصل بالشخصية من غموض في أفعالها و ردود أفعالها و سلوكياتها و أهدافها ونواياها، حتي نهايتها المفاجئة بالانتحار و التي لم يسبقها أي تمهيد إلا في إشارة لتغييرات تحدث في الجهاز، و مكالمة يتلقاها يبلغ فيها بإحالته للتحقيق. وهي تفاصيل لا تكفي للتمهيد لمصير شخصية رئيسية كانت تستحق مزيدا من التوقف و التأمل و الاقتراب حتي و لو بأداء الممثل - ماجد الكدواني - الذي غاب عنه أي تعبير عن الإحساس بالخطر في المشاهد أو حتي اللقطات التي سبقت انتحاره. يتجنب المخرج بشكل متعمد تقديم مشهد الانتحار و إنما يعبر عنه بطريقة تجريدية ومبتسرة، و هو ما يلجأ إليه عادة في المواقف العنيفة و القاسية. واختيار أسلوب التعبير مسألة ترجع للمخرج ولكن بشرط ألا تغيب لقطات مهمة وحاسمة عن عين المشاهد. فجريمة القتل الأولي للحاج طلبة - سعيد طرابيك - التي يرتكبها حامد بدافع السرقة لم نرها، مع أنها المحرك الفعلي للأحداث. وهي التي بسببها يساومه الضابط ليصبح رجله في عالم مافيا المخدرات و السلاح، في مقابل أن يلفق لزميله مصطفي تهمة القتل التي لم يشارك فيها مطلقا . بعد هذا الحدث تتوالي الأحداث بلا توقف ولا منطق و لا تمهيد. فحامد يصبح تاجر السلاح الأول في المنطقة. و حامد ينضم إلي جماعة المتطرفين بالسجن، ثم يخرج ليقوم بعمليات إرهابية بالعزبة مستعينا بأسلحة حامد. ثم يكتشف مصطفي أن الجماعة تعمل لحساب جهات أجنبية فيلجأ للضابط سعد الذي يعطيه الأمان و يعيده للعزبة. و هناك يتزوج من القوادة المعتزلة روحية التي ارتدت الحجاب و أصبحت تعمل في توظيف الأموال. يتزوج حامد أيضا عنوة من مريم العاهرة و يقيم لها فرحا كبيرا و ينجب منها طفلا. و هكذا تظهر شخصيات وتختفي أخري و تتوالي مشاهد ساخنة مليئة بالمواجهات الحادة و الصياح و الصراخ و الغضب. و يبدو وكأن المؤلف جمعها من أشهر الأعمال الدرامية و السينمائية المحلية و العالمية من (زيارة السيدة العجوز) إلي (الوجه ذي الندبة ) إلي (شيء من الخوف)، وغيرهم ليضعها في عمل واحد. ربما هذا أحد الأسباب التي تجعل الفيلم يعاني خللا إيقاعيا فهناك مناطق بأكملها يغيب عنها الحدث بينما تكتظ مناطق أخري بذري متلاحقة. وعلي مستوي المونتاج أو الإيقاع الجزئي تبدو معظم المشاهد بل و اللقطات مبتورة وبلا نهايات كجمل غير مكتملة . ولا توجد أي علاقة سببية أو منطقية بين المشاهد أو وحدات الفيلم غالبا. وهي مسألة لا يمكن أن نلقي باللوم فيها علي المونتير عمرو عاصم، فهو في اعتقادي يتعامل مع مادة ناقصة لأسباب مجهولة. غياب المنطق من الواضح أن المؤلف محمد سليمان سعي لأن يجعل عزبة آدم نموذجا لوطن بل و لعالم بأكمله عبر رحلة طويلة من الزمن. و هي مهمة شاقة جدا و تحتاج إلي قدر كبير من التكثيف و التركيز و الدقة في اختيار المواقف و الشخصيات الدالة و التمكن من خيوط الحكاية التي من الواضح أن الكثير منها أفلت منه، و التي لم تصل بنا في النهاية إلي رؤية محددة . كما غابت عن الشخصيات قوة المنطق و عانت من الارتباك ..وبوجه خاص الريس رجب - محمود يس - الذي كان يطالب بحقوق زملائه بمنتهي القوة، ولكنه سرعان ما يتراجع و يستسلم مع أول تهديد أو تحذير كطفل صغير . كما أنه يختفي بلا رجعة فلا تبدو قيمة لوجوده و لا معني لاختفائه. و علي مستوي الأحداث تتوالي فجأة معارك بالمسدسات علي طريقة المافيا دون أن تدرك من يضرب من ولماذا. لكنها مواقف مصطنعة، يتخللها أن يفتدي حامد زعيمه المرشدي - فتوح أحمد - و تناله رصاصة بدلا منه ليكسب ثقته. لا داع للخوض أيضا في تفاصيل متضاربة و متعارضة وقفزات مفاجئة في الأحداث مثل قرار حامد التمرد علي الزعيم الكبير القرش - أحمد راتب - بلا دوافع أو مبررات. أو قبول الشاب الهارب من زيف الجماعات المتطرفة إلي أحضان سيدة توظيف الأموال. و في النهاية لا اعتقد أن فيلما كهذا يعبر عن قدرات صناعه. وإذا كان من المفترض أن يتعامل النقد مع العمل الفني دون النظر إلي خلفياته فإنني أعتقد أن عزبة آدم حالة استثنائية، فمن الواضح أنه عمل تأثر بكواليسه بشدة التي يبدو أنها لم تتوقف عند حدود ما قرأنا عنه. و علاوة علي هذا فإن خبرة صناعه كانت أقل من طموحهم الكبير في أن يحيلوا عزبتهم إلي عالم كامل تتحالف فيه قوي السلطة و الفساد و التطرف. ولكن أهم ما يفقده هذا الفيلم هم الناس أو الأهالي، فهم ليسوا موجودين علي مستوي الصورة أو الحدث و يأتي الحديث عنهم من قبل الريس رجب و كأنهم كائنات غير مرئية. لا نراهم مجتمعين إلا في مشهد ضرب العاهرات بعد أن يفرج عنهم الضابط، فهل يكفي هذا المشهد للتعبير عن رأي المخرج و المؤلف في أهالي عزبتنا ؟