راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الاسلامي الجريدة – (تقرير بي بي سي) يثير بروز التيار الديني في تونس وخوضه الانتخابات القادمة ردود أفعال متباينة في المجتمع التونسي حسب اختلاف انتماءات قطاعاته المختلفة. ومن هذه القطاعات الطائفة اليهودية التونسية التي عرفت تاريخيا بمشاركتها في الحياة الثقافية والاقتصادية للبلاد. فمنذ أن اندلعت الثورة التونسية أصبح ممكنا لعدد كبير من التيارات الفكرية والسياسية أن تنشط وتتحرك بحرية بعد أن كانت مقموعة في عهد الرئيس زين الدين بن علي، كما أدت ثورة 25 يناير أيضا إلى ظهور تيارات لم تكن موجودة على الساحة من قبل مثل التيار الديني بأطيافه المتنوعة. ويراقب الكثيرون تحركه في البلاد بعدم اطمئنان، لا سيما بعد ما أثير حول دور الجماعات السلفية في الهجوم الذي تعرضت إليه قناة "نسمة" التلفزيونية مؤخرا لعرضها فيلم اعتبره الكثيرون مسيئا للذات الإلهية. والطائفة اليهودية كغيرها من قطاعات المجتمع التونسي تتابع تطورات المشهد السياسي بترقب شديد لمحاولة استقراء ما قد ينتج عن مشاركة التيار الديني الإسلامي في صنع القرار في البلاد في حال حصولهم على أصوات تُخَوِل لهم ذلك عقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي سيتولى وضع دستور جديد للبلاد وتعيين حكومة تشرف على المرحلة الانتقالية المقبلة في تونس. فهذه الطائفة التي كان عددها يراوح المئة وخمسين ألفا حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي، تقلصت تدريجيا ليصبح عددها 1500 اليوم بفعل التقلبات السياسية التي أحدثها قيام دولة إسرائيل إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها تونس خلال تلك الفترة. قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات، قابلت رئيس الطائفة اليهودية في تونس "روجيه جوزيف بيسموث" الذي أكد لي على تلاحم الطائفة اليهودية مع بقية الشعب التونسي واندماجها معه بشكل لا يجعل هجرة أعداد جديدة منهم أمرا مطروحا على ضوء التغيرات السياسية التي ستشهدها البلاد في المرحلة القادمة. وقد تحدث بلهجة مطمئنة قائلا إن سياسيين كثيرين منتمين إلى التيارات المترشحة في الانتخابات قاموا بزيارته في الأسابيع الأخيرة، منهم ممثلون عن حزب النهضة. ووصف حديثم معه بأنه كان وديا، وأكد على أهمية التزام أي طرف يفوز في الانتخابات بوضع مصلحة البلاد فوق أي اعتبار عقائدي، محذرا من الحكم باسم الدين، ناصحا الناخبين "بالتعقل" في أي اختيار يقومون به. ولعل هناك من يجد مبررا لتلك المخاوف بعد المظاهرة التي انطلقت عقب صلاة الجمعة في فبراير / شباط الماضي ثم توقفت أمام الكنيس اليهودي الكبير في تونس العاصمة وردد المشاركون فيها شعارات معادية لليهود. التقيت في هذا الكنيس بعدد من اليهود الذين أعربوا بشكل صريح عن مخاوفهم من تعرضهم للتضييق والملاحقة إذا ما طبقت في البلاد تشريعات تميز ضدهم. الحطاب باتو، مدير مدرسة "لوبافيتش" الدينية اليهودية، قال بدوره إنه لاحظ منذ الثورة أن كثيرين أصبحوا ينظرون له ولمدرسته بعين الريبة، معربا عن خشيته أن يصبح اليهود "كبش فداء" في أي تقلبات قادمة تشهدها البلاد. نفس هذه المخاوف أعرب عنها خْليفة عَطّون، المسؤول في الطائفة اليهودية، حيث قال إنه في حالة فرض إجراءات تمييزية عليهم "فلن يبقى في تونس يهودي واحد"، وأضاف بتأثر شديد "أنا امرض كلما ابتعدت عن بلدي تونس ولو لفترة قصيرة". أما ابنه رجل الأعمال إيلي عَطّون فأبدى تصميمه على البقاء في تونس أيا كانت التحولات التي ستشهدها مستقبلا، بل أكد أنه يريد أن يستمر في ممارسة عقيدته بالحرية التي تكفلها له مواطنته كغيره من التونسيين. ونفى أن تكون هناك نية مبيتة لدى اليهود التونسيين للهجرة إلى إسرائيل، مشيرا إلى أن موجات الهجرة السابقة كانت اضطرارية بعد تعرض مصالح ومساكن اليهود للتخريب على يد جماعات غاضبة بسبب الحروب الإسرائيلية مع العرب. ولعل إنشاء دولة إسرائيل كان الحدث الأشد تاثيرا على هذه الطائفة التي تمتد جذورها في تونس إلى الماضي السحيق، حيث تتميز الطائفة اليهودية في تونس بخصوصية فريدة في المنطقة وهي أن أصولها تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث تشير وثائقها إلى أن أعدادا كبيرة منهم بدأت تتوافد على جزيرة "جِربة" منذ عام 500 قبل الميلاد وأن الموجة الثالثة من هذه الهجرات وقعت إثر "هدم الهيكل" الثاني في القدس عام 70 ميلادية. ويعد كنيس "الغريبة" اليهودي ذي الألفي وخمسمئة عام أقدم كنيس يهودي في أفريقيا ومن أقدم أماكن العبادة اليهودية في العالم التي ظلت مأهولة منذ إنشائها. وظل اليهود ناشطين في الحياة الاقتصادية في تونس على مر العصور، حتى أن أول حكومة بعد الاستقلال يشكلها الحبيب بورقيبة ضمت لفترة وجيزة وزيرين يهوديين وهما أندريه باروخ وألبير بِسّيس. وكبقية اقرانهم في المغرب العربي خلف اليهود التونسيون إرثا غنيا من التراث الموسيقي الأندلسي، وقد تميزوا بأنهم اندمجوا بشكل كامل مع الموسيقيين غير اليهود وشاركوهم في صياغة موسقى محلية يستمع إليها كل التونسيين. فلا يزال التونسيون يرددون في أعراسهم "التعليلة" الشهيرة التي كتبها الموسيقي اليهودي المعروف راؤول جورنو كما تعد الفنانة حبيية مسيكة من أعمدة الطرب في بلدها.