طلعت رضوان اختلفتْ نظرة الشعوب القديمة للمرأة، فبعضها نظروا إليها على أنها رمز الشر، وقرنوا بينها وبين (الحية) التى أغرتها فأكلتْ من الشجرة (المُحرّمة) إلى آخر ما ورد فى الديانة العبرية بشُعبها الثلاث (اليهودية/ المسيحية / الإسلام) وكما ورد فى أساطير بعض الشعوب السابقة على الديانة العبرية، بينما نظرتْ إليها بعض الثقافات نظرة مُختلفة تمامًا فكرّمتها وعاملتها مُعاملة إنسانية راقية، فكانت (قاضية) و(ملكة) بل (إلهة) كما حدث مع إيزيس رمز وفاء الزوجة لزوجها، كما ورد فى الأساطير المصرية.
وقد تجنّب كثيرون من المُبدعين (فى مجال الرواية والشعر إلخ) تناول التراث العبرى بروح موضوعية، بل إنّ بعضهم (مثل نجيب محفوظ) عندما تناول ذلك التراث فى كتابه (أولاد حارتنا) تنازل عن صفته كروائى، ونقل ما جاء فى ذلك التراث نقل مسطرة (المرأة أصل البلاء والغواية، قصة آدم والأخ الذى قتل أخاه وموسى وأتباعه من بنى إسرائيل – رمز الخير- الذى انتصر على الفتوات، أى شعبنا المصرى – رمز الشر- إلخ – لمن يود التفاصيل – عليه الرجوع لمقالى عن أولاد حارتنا على موقع الحوار المتمدن) بينما العدد القليل من المُبدعين تناولوا ذلك التراث بموضوعية، من بينهم يوسف زيدان فى روايته (ظل الأفعى) الصادرة عن سلسلة روايات الهلال – عام 2006) وفى هذه الرواية جاء على لسان أحد شخصياتها ((عثر الآثاريون على لوحة سومرية، فيها رسم – قبل تدوين التوراة بألف عام – شيطان وشجرة وامرأة تُقدّم لرجلها ثمرة من الشجرة.. (وهى) لوحة ترسم القصة التى بدأتْ بها التوراة، ثم أمعنتْ بعدها فى تدنيس الأنثى وإعلاء الرجل الإله الذكر)) (ص116) وللتأكيد على العلاقة الوطيدة بين اليهودية والإسلام، جاء فى الرواية أيضًا ((الإسلام واليهودية دين واحد، روح إبراهيمية واحدة، تجلّتْ مرتيْن على نحويْن: بدائى توراتى، وبليغ قرآنى)) ولما سمع جد البطلة ذلك الكلام، انزعج وقال إنّ ((الدين الحق هو الإسلام، وما عداه تمهيدات له)) ورفض الاستماع لوجهة نظر حفيدته التى قالت أنّ جدها ((صمّ (= أغلق) أذنيه واتهمنى بالكفر والتلاعب بكلام الله)) (ص94) وفى رسالة أرسلتها أم البطلة لابنتها قالت فيها ((جدك يا ابنتى يعتقد أنّ كل ما هو أنثوى – بما فى ذلك الأمومة – خطر على الروح العسكرية.. إنه لا يعرف أنّ فجر العسكرية ارتبط بالأنثى المُقدّسة والأم الأولى، وأنّ جيوش الحضارات القديمة كانت فى بدء السيادة الذكورية، تنطلق تحت رايات الربات، لا الآلهة الذكور. وفى مصر القديمة فإنّ جيوشها حاربتْ تحت راية الإلهة ( سِخمتْ ) التى تتخذ فى الحرب صورة اللبؤة. وكانت الإلهة عشتار الموصوفة بأنها لبؤة إيجيى (لإله الأرض) هى الراية التى حاربتْ تحتها الجيوش البابلية. وعند اليونانيين القدامى كانت إلهة الحرب والحكمة الرّبة العذراء أثينا ذات الدروع، ثم انفرد الإله الذكر (مارس) بالحرب)) (ص114) ولأنّ أم بطلة الرواية تؤمن بدور الأنثى، وإنها إنسانة مُكتملة النمو العقلى والروحى، مثلها مثل الرجل، لذلك كتبتْ بحثًا بعنوان (الحرب وتحولات الأنوثة من المقدس إلى المُدنّس) قالتْ فيه إنها التحولات التى رصدتْ بداياتها فى سومر القديمة، الحضارة المجيدة التى انتهتْ نهاية رخيصة. وربطتْ أدبياتها المُتأخرة لأول مرة فى تاريخ الإنسانية بين المرأة والأفعى والشيطان، وهو ما تلقفته اليهودية من بعد وأذاعته فى سِفر التكوين أول الأسفار الخمسة المُسماة التوراة، والعهد القديم (عهد الإله يهوه/ إلوهيم / الرب) فإنه عن القتلة والفجرة وسفاكى الدماء، الذين امتلأ سِفر التكوين بحكاياتهم المُريعة (ص115) وعن دلالة الأسماء فى التراث العربى، فإنّ أم البطلة كانت تندهش من اسم زوج ابنتها (عبده) فسألته: أى اسم هذا؟ كيف لم تُفكر فى تغييره؟ ولأنّ هذه الأم مؤمنة بتعدد الثقافات، قالت لابنتها: أنا مثلك أحب اللغة الفرنسية، بموسيقاها الداخلية العميقة وقدرتها على صياغة الحلم، دون أية ادعاءات بقدسية أصولها، مثلما فعلتْ بعض اللغات التى اخترعها البشر. ولذلك فإنّ من عجائب اللغة العربية – كما قال ابن منظور فى لسان العرب – ما نصه ((الشاطر هو الآخذ فى نحو غير الاستواء، ولذلك قيل له (شاطر) لأنه تباعد عن الاستواء)) وقال الفيروز أبادى فى القاموس المحيط: الشاطر من أعيا أهله خبثًا)) ولذلك فقد تمّ استخدام لفظ (الشاطر) دومًا لوصف قاطع الطريق، وإلى من اضطر للسرقة والنهب (من 88- 90) أعتقد أنّ ما ذكره يوسف زيدان على لسان أم البطلة عن كلمة (الشاطر) كتبه لعمق وعيه بأنّ تلك الكلمة فى اللغة العربية، لها معنى مختلف تمامًا فى اللغة المصرية المنطوقة على لسان شعبنا المصرى، حيث تعنى التلميذ المُجتهد، أو الإنسان الذكى، أو الصانع الماهر إلخ. كذلك فإنّ من عجائب اللغة العربية أنّ اسم المُفرد لا يمكن جمعه (امرأة – نموذجًا) واسم جمع لا يمكن إفراده (نساء – نموذجًا) فالمرأة أبدًا واحدة، والنساء بلا إفراد، لذلك فإنّ النساء اليوم صرنَ خليطًا شائهًا، يجمع بين القداسة الفطرية فيهنّ، والدناسة المُكتسبة لهنّ بحكم الثقافة السائدة فى بلادك)) وذلك وفق ما قالته أم البطلة لأحد شخصيات الرواية (ص90، 91) وجاء على لسان أحد الشخصيات فى الرواية أيضًا أنّ اللغوى المشهور ابن منظور قال إنّ الإلهة هى الحية العظيمة. وقال فى كتابه (لسان العرب) ما نصه ((اللاهه هى الحية واللات صنم مشهور، يُكتب بالتاء (اللات) وبالهاء (اللاه) والأخير هو الأصح وأصله لاهه وهى الحية)) وجاء فى رسالة أم البطلة لابنتها ((ما زلتُ أذكر نوبة الضحك الهستيرى التى انفجرتْ منى حين قرأتُ فى (لسان العرب) تحت مادة (أنتَ) ما نصه ((الأنثى خلاف الذكر فى كل شيىء، والجمع أناث وأنُث، كحمار وحُمر)) (ص81) بينما محيى الدين بن عربى، لأنه مؤمن بالإنسانية بمعناها لدى الفلاسفة والشعراء وكل أصحاب العقول الحرة، وبالتالى فهو مؤمن بأنّ المرأة مثلها مثل الرجل، لذلك فإنه كرّمها فى قوله الحكيم ((المكان الذى لا يؤنّثْ لا يُعوّل عليه)) وكان يوسف زيدان (بحكم وعيه وقراءته العميقة للتراث العبرى) شجاعًا عندما جعل أحد شخصيات الرواية يقول ((لم يثبتْ فى التاريخ الإنسانى أى أصل دال على سام وحام أو غيرهما من شخصيات هذه القصة العجيبة. إنّ مثل هذه الشخصيات هى محض خرافات)) (ص84) وأكثر من ذلك قال عن الفترة السابقة لنبى العرب محمد ((الزمن المُسمى اعتباطًا جاهلية، لم يصل إلينا من زمن ما قبل القرآن خبر موثوق به يقول إنّ العرب وأدوا البنات، فكلها أخبار تمّ تداولها بعد الإسلام وكُتبتْ مع عصر التدوين أواخر القرن الثانى الهجرى. ولو كان وأد البنات قد جرى حقًا، فكيف تناسل هؤلاء (الجاهليون) جيلا بعد جيل؟ وكيف تسنى للرجل آنذاك الزواج بأكثر من امرأة؟ وكيف حملتْ القبائل العربية أسماء دالة على الانتساب للأنثى، مثل كنده وثعلبة وساعدة وبنى أمية؟ وكيف اشتهرتْ نساء مثل خديجة بنت خويلد، وهند بنت عتبة زوجة أبى سفيان بن حرب بن أمية أم معاوية، آكلة كبد حمزة عم النبى، وسجاح التى إدّعتْ النبوة والمعروفة باسم المتنبية (ص83، 84) بعد ذلك جاءتْ اللغة العربية وأزاحتْ المرأة من علوها المُقدّس إلى موضعها المُدنّس، مثل لفظة (بعل) للدلالة على الزوج، وجعلتْ (اللغة العربية) للزوجة لفظة (حرم) ومع مراعاة أنّ (بعل) هو اسم الإله الذكر القديم الذى أزاح عشتارعن عرش الألوهية. ولم يصفوا الزوجة يومًا بأنها (بعلة) فهى فقط (حرم) الزوج، ولم يصفوا (أى العرب فى لغتهم) الزوج بأنه (حرم) لزوجته. إذن يكون للرجل (الحُرمة) و(الحريم) كما أنّ (الله) خلق (آدم) على صورته. لذلك كان للرجل فضل التفضيل (الإلهى) وحظ أنثييْن والحور العين (فى الجنة) ولا شىء للمرأة، حاملة الأجنة لأنها فى الأصل مُعوجّة (ص91) وما ذكره يوسف زيدان عن (البعل) أكده القرآن فى نقده لمن رفضوا دعوة محمد فقال ((أتدْعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين)) (الصافات/ 125) ونظرًا لأنّ بطلة الرواية رفضتْ التراث العبرى/ العربى، لذلك كانت تُناجى نفسها قائلة: اليوم خمر وغدًا أمر. أين قرأتُ هذه العبارة؟ أهى عبارة امرىء القيس التى قالها ليلة بلغه خبر مقتل أبيه؟ أم هى عبارة ابن المهلهل؟ أمى هلهلته (= فضحته) فى كتابها (أساطير الذكورة المُتأخرة) هو عندهم ثائر، بطل، وهو عندها رجل غبى تافه. نموذج ذكورى نمطى. أضاع بإمعانه فى القتل والإدعاء الأجوف بعدم الرضا الثأرى، مجدًا وليدًا، كانت قبيلته تغلب وقبيلة أعدائه وأبناء عمومته (بكر) سيفخران به ويقودان العرب. كُليب بن وائل رسم الطريق والمهلهل أضاعه. كليب خاض حربًا لأنّ رجلا لطم أخته فانتصر. والمهلهل ظل يثأر لكليب ثلاثة وعشرين عامًا. لم ينتصر فيها ولم يظفر بقاتل أخيه، ومع ذلك صار عند الناس بطلا (ص55، 56) ولأنّ البطلة – طوال صفحات الرواية – على وعى ثقافى/ معلوماتى بالفرق بين التراث العربى/ العبرى، وتراث بعض الشعوب الأخرى – خاصة الموقف من المرأة، تلك الشعوب التى لم تحتقر المرأة ولم تُشبّهها بالأفعى كما فى التراث العبرى، لذلك قالت ((كانت الأفعى دومًا شعار الملكات العظيمات فى الأزمنة الأولى: سميراميس، حتشبثوت، نفرتيتى، كليوباترا وغيرهنّ من ملكات الأزمنة الأولى التى كانت الإنسانية خلالها لا ترى بأسًا من أنْ تحكم النساء، بل ترى أنه من الطبيعى أنْ تحكم النساء، وأنْ يتخذنَ من الأفعى الشعار (والرمز) وبالفعل حكمتْ النساء كثيرًا فى فجر الحضارات الإنسانية. كنّ حاكمات وقاضيات فى معظم الحضارات القديمة. ثمّ تغيّر الحال، فجاءتْ اليهودية لتحرم المرأة من أنْ تكون حاكمة أو قاضية، بعدما دنّس كتبة التوراة بضربة واحدة المرأة والأفعى، ونجحتْ اليهودية فيما كانت تحلم به، وبذلك تمّ إفراغ شعار الربات والأرباب والملكات العظيمات من مضمونه القديم المُتوراث عبر آلاف السنين)) وقالت أيضًا ((عاشتْ الحضارات زمنًا طويلا فى سلام. وأعطتْ للإنسانية (فى الزمن الأنثوى الأول) كل بذور الحضارة: الزراعة، الثقافة، الإستقرار، الحنين للوطن، الضمير، السلام، الديانة. ولم يعتادوا أنْ يعيشوا (على عرق) جيرانهم. ولم يجد الآثاريون أثرًا لصناعة حربية بين حفرياتهم، مثلما وجدوا فى المجتمعات الذكورية اللاحقة)) ثم قالتْ عن مصر التى هاجمها التراث العبرى/ العربى ((روعة انبثاق الحضارة المصرية (تجسّد فى دور المرأة) ذات الطابع الأنثوى الأصيل الإيزيسى (نسبة إلى الإهة إيزيس) كما أنّ الأفعى لا تعتدى لمجرد الاعتداء أو لإظهار البطش مثلما يفعل العسكر. لا تُقاتل إلاّ للدفاع، ولا تسعى للتوسع مثلما يفعل القواد، ومع أنها تهضم أى شيىء تبتلعه مهما كان، فهى لا تُتخِم نفسها مثلما يفعل الإنسان (ص77) ولأنها – أى البطلة – مؤمنة بالتنوع الثقافى، لذلك كانت شديدة الإعجاب بالحضارة المصرية، فتذكّرتْ ترنيمة مصرية تمّ العثور عليها فى بردية من برديات الدولة القديمة، وجاء فيها ((أنا أم الأشياء جميعًا.. سيدة العناصر.. بادئة العوالم.. حاكمة ما فى السماء من فوق.. وما فى الجحيم من تحت.. أنا مركز القوة الربّانية.. أنا الحقيقة الكامنة وراء كل الإلاهات والآلهة.. عندى يجتمعون كلهم.. فى شكل واحد وهيئة واحدة.. بيدى أقدّر نجوم السماء ورياح البحر وصمت الجحيم.. يعبدنى الناس بطرق شتى وتحت أسماء شتى.. لكن اسمى الحقيقى هو إيزيس.. به ارفعوا إلىّ أدعيتكم وصلواتكم)) وفى بردية أخرى من الدولة الوسطى جاء فيها ((فى البدء كانت إيزيس أقدم القدماء.. الرّبة التى نشأ كل شيىء منها.. السيدة الكبرى.. العظيمة أعمالها كلها.. الساحرة، الحكيمة، الأعظم من كل الآلهة)) وفى ترنيمة أخرى لإيزيس جاء فيها ((يوم أفنى كل ما خلقتُ.. ستعود الأرض محيطًا بلا نهاية.. مثلما كانت فى البدء.. وحدى أنا سأبقى.. وأصير كما كنتُ قبلا، أفعى، خفية عن الأفهام)) وتتذكر- البطلة – ما قرأته فى كتاب (الحمار الذهبى) وهو من الكتب التى صدرتْ فى القرن الثانى الميلادى، وجاء فيه على لسان أفروديت ((أنا الطبيعة.. أنا الأم الكونية.. سيدة كل العناصر. عبدونى بطرق شتى. وأطلقوا علىّ أسماء كثيرة.. المصريون المُتفوّقون فى العلم القديم، سمونى باسمى الحقيقى: إيزيس)) (من ص 48- 75) وهكذا يتبيّن الفرق بين مُبدع وآخر: واحد مع التراث العبرى/ العربى (كما فعل نجيب محفوظ) وآخر ضد هذا التراث البشع، وأشاد بثقافات الشعوب المُتحضرة، كما فعل يوسف زيدان. وهكذا يتبيّن أنّ المُبدع تحكمه توجهات وأيديولوجيات مُحدّدة، بغض النظر عن النوايا، لأنّ العبرة بما هو مكتوب ووصل للقارىء.