هذا مشهد مخيف، وللأسف فهو مجرد ملمح واحد مما يُهدِّد حاضر البلاد ومستقبلها، إذا ما تهاون واضعو الدستور فى إحكام الضوابط اللازمة لمنعه من المنبع، مع إتاحة الفرصة وضماناتها للسير على الطريق الصحيح! فهناك شريط يُتداول على الفيس بوك لجزء من مناظرة يقول أحد طرفيها عن نفسه إنه إمام مسجد من خريجى الأزهر، وهو يهاجم شخصاً آخر قيل إنه شيعى ولم يُعرَض رأيُه فى الجزء المُعلَن من الشريط، والإثنان فى أحد الميادين الواسعة وسط دائرة يحيطها عدد من الملتحين المتجهمين المتحمسين لكلام الإمام. وأما موضوع المناظرة فكان عن سيرة السيدة عائشة وما اصطُلِح على تسميته "حديث الإفك"، ومعروف موقف الشيعة السلبى منها، وقد انطلق الإمام بالحُجج السنية المعروفة فى هجوم ضارى دفاعاً عن السيدة عائشة وراح يُقَرِّع مُناظِره ومؤكداً على أن مَن لا يؤمن بما يقول كافر لا شك فى كُفره. والموضوع، كما هو معروف، يدخل فى باب الخلافات الفقهية التراثية التى لم يحسمها التاريخ، ولن يحسمها فى الحاضر، ولا فى المستقبل، لا الجدل العنيف ولا النقاش الهادئ ولا العرض الكيِّس، لأنها باتت لدى الناس، وخاصة البسطاء، فى باب ما يتداخل فى صُلب العقيدة، وقد أثبت التاريخ أن النقاش فيها وفى مثيلاتها لا يصل إلا إلى تأجيج نزاعات مدمرة دامية يُستَحسَن ألا يساعد أحد على فتح بابها. ومثلها مثل مسألة السيد المسيح وما إذا كان صُلِب أم أنه شُبِّه لهم، وكان العقلاء من المسلمين والمسيحيين قد دَرَجوا عبر السنين والقرون على تجنب المجادلات حول هذه المسائل، لأنهم أدركوا عدم إمكانية الإقناع والاقتناع فيها، كما أنهم كانوا متبصرين لمخاطر تبعات الخوض فى هذه المجادلات، بعد أن رأوا أهوال التاريخ، وكان عنوان جلسات الحوار بين الجانبين فى السنوات الأخيرة دقيقاً فى كلماته، حين قيل إنه حوار بين "أصحاب" الأديان وليس حواراً بين الأديان، وذلك للبداهة التى توصلوا إليها بأنه لا جدوى فى توقع أن يغير طرف شروط وفروض إيمانه فى مثل هذه الحوارات، لأن كل طرف يؤمن يقيناً أنه على صواب، وكان الصواب أن لا يخوضوا فى الخلافات وأن يتناقشوا فيما بينهم عن وسائل تحقيق "العيش المشترك"، الذى زاد طموح البعض فيه إلى أن يكون "عيشاً واحداً" فى إطار الوطن الواحد الذى يلمّ الجميع والذى من مصلحة الجميع أن يعمّه الأمن والطمأنينة. ومن الواضح الآن أن الأحوال تدهورت إلى ما هو أسوأ بكثير، بما يضاعف من مسئولية الجميع، وخاصة رجال الدين من كل الأطراف، بأن يعملوا قدر طاقتهم على إشاعة منطق العقل ومناخ روح قبول الآخر بما يحقق المصلحة العامة، على أن يعمل الجميع على تحاشى تكرار أخطاء حكم الإخوان وحلفائهم، عندما وصل الأمر إلى حد أن يقف عدد من صُنّاع الفتنة فى حضرة رئيس الجمهورية، ممثلهم فى القصر الرئاسى الدكتور محمد مرسى، وراحوا يكيلون الاتهامات ضد الشيعة بأعنف الألفاظ، وتكفيرهم بالعبارة الصريحة، والرئيس صامت وكأنه يبارك زرع الفتنة، وهو ما ينبغى محاكمته عليه! وكان أن أعقب ذلك، ونتيجة مباشرة لهذا الشحن، مقتلة الشيعة الرهيبة فى الجيزة، وكانت جريمتهم يومها أنهم يؤدون صلواتهم فى منزل مقفول عليهم، مما اعتبره بعض سكان القرية إساءة لهم ولمشاعرهم ولعقيدتهم الدينية! (لاحظ أنه حتى الآن هنالك صوت عالٍ فى لجنة الخمسين يرفض السماح لمن يرفضهم أن يمارسوا حق ممارسة الشعائر بهذه الحجة الواهية التى تقول عن الإساءة لمشاعر المسلمين السُّنة الذين يرى أصحاب هذا الصوت أن من حقهم استخدام "فيتو" ضد حقوق الإنسان الخاصة بغيرهم!) ومن أسباب المشاكل الحالية أن الإخوان وحلفاءهم لا يتحرجون من القول بشيئ يفيدهم فى لحظة ما، ثم القول بنقيضه فى موقف آخر لا تتحقق مصلحتهم فيه إلا بالنكوص عما اعتمدوه سلفاً، وهم يتبنون هذه الأيام شعارات الليبرالية التى يرون أنها غطاء لهم فى زرع الفتنة، والمبرر أنهم يمارسون حريات الفكر والتعبير والتظاهر، وهم يعلمون أن مثل هذه المجادلات الفقهية فى الميادين المفتوحة أمام جمهور من البسطاء يمكن أن تُشعل النيران التى يصعب إخمادها، وأن توابع هذه الأفعال تستمر لسنوات وعقود يروح فيها الضحايا بعد الضحايا، وتزداد فيها الثارات وتتسمم الآبار! ولك أن تتخيل ماذا ستؤول إليه الأحوال إذا سادت فى ميادين مصر مثل هذه المجادلات حول شئون العقيدة؟ فهل هذه هى الحرية المرتجاة؟ هل هذه الأفعال تندرج فى أطار ما يفرض القانون له الحماية؟ أم هى جرائم ينبغى أن يتصدى لها المُشرِّع لحماية أمن البلاد ووحدتها الوطنية درءاً لفتنة إذا اشتعلت سوف يندم إزاء خرائبها كل من تقاعس عن التنبيه قبل وقوع الكارثة؟ [email protected]