"جورج جالاوي" عضو في مجلس العموم البريطاني و"ديلي تلجراف" واحدة من أهم جرائد "فليت ستريت"، اي شارع الصحافة البريطاني. ونشب نزاع بين النائب والجريدة.. وصل إلي المحاكم ، بل الي المحكمة العليا البريطانية التي أصدرت حكمها في هذا النزاع منذ ثلاثة أيام، وبالتحديد يوم الخميس الماضي. ومع أن النائب والجريدة والقاضي والمحكمة كلهم بريطانيون علماً بان النائب جالاوي إسكتلندي الأصل فان القضية تهمنا، بل نحن أطراف أصيلة بها. فأصل النزاع هو ان "ديلي تلجراف" نشرت في أبريل من العام الماضي عدداً من المقالات والتقارير الاخبارية ، المدعمة بوثائق مزعومة ومنسوبة إلي مخابرات نظام الرئيس العراقي صدام حسين ، تتهم "جالاوي" بأنه تلقي مكافآت في صورة كميات من البترول تقدر قيمتها الإجمالية بنحو 375 ألف جنيه إسترليني . كما اتهمته الصحيفة باستغلال "حملة مريم" التي نظمها لإنقاذ الطفلة العراقية مريم حمزة المصابة بمرض سرطان الدم ومساعدة العراقيين أيام خضوع بلادهم للعقوبات والحصار لمصلحته الشخصية والتربح الشخصي باسم هذه الأعمال الخيرية . المهم.. ان قاضي المحكمة العليا البريطانية "ديفيد ايدي" اصدر حكمه كما هو معروف لصالح جالاوي حيث حكم علي الجريدة بالغرامة (150 ألف جنيه إسترليني ) وإلزامها بدفع النفقات القانونية للقضية (التي بلغت 1.2 مليون جنيه إسترليني). ويهمنا في هذا الحكم جانبين، أحدهما جوهري والآخر ثانوي. أما الجانب الثانوي فهو الشق السياسي الذي يبين أن كثيراً من الدوائر المناصرة لشن الحرب علي العراق قد أوجدت جواً من الأكاذيب وحملات الابتزاز والإرهاب لترويع من تسول له نفسه الوقوف ضد هذه الحرب الاستعمارية. وحاولت تلك الدوائر تشويه سمعة مناهضي هذه الحرب القذرة ومحاولة تصويرهم كعملاء او مرتزقة لنظام الرئيس العراقي صدام حسين. وكان للنائب البريطاني جورج جالاوي نصيب الأسد من هذه الحملات نظراً لان الرجل كان في طليعة مناهضي هذه الحرب، وتعرض للطرد من حزب العمال الذي يتزعمه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بعد وصفه للرئيس الامريكي جورج بوش وذيله الإنجليزي بلير بأنهما "ذئاب". لكن ما كان أقسي من الطرد من صفوف حزب العمال البريطاني الحاكم، هو اتهامه بتلقي أموال من صدام حسين من خلال برنامج "النفط مقابل الغذاء". ومع ذلك.. نقول ان هذا الشق السياسي هو الجانب الثانوي لان مثل هذه الاتهامات التي تم توجيهها إلي جالاوي وغيره من المناهضين للحرب ليست سوي "الكذبة الصغري" الي جانب "الكذبة الكبري"، إلا وهي كذبة أسلحة الدمار الشامل التي حاولت إدارة بوش وحكومة بلير تضليل الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بها في محاولتها المستميتة لتبرير عدوانها علي بلاد الرافدين . وبهذا المعني يكون تلويث المعارضين لهذه الحرب القذرة مجرد تحصيل حاصل . ولم نكن نحتاج إلي هذا الحكم الذي أصدره قاض إنجليزي رفيع المقام لنقتنع بان مناهضة مثل هذه الحرب الإمبراطورية العدوانية عمل نبيل يتصدي له اي إنسان شريف لديه ضمير حي، دون ان ينتظر جزاء ولا شكورا، ناهيك عن رشوة من صدام حسين او غيره. فضلاً عن أن الغالبية العظمي من مناهضي العدوان الانجلو أمريكي فعلوا ذلك دفاعاً عن العراق وشعبه وليس من اجل سواد عيون الرئيس صدام حسين ، بل ربما كان منهم من هو اشد اختلافاً مع صدام حسين الذي لا ينكر المسئولون الأمريكيون اليوم انهم تحالفوا معه سنوات طويلة أثناء حربه مع إيران! لذلك نقول ان الشق السياسي في الحكم ليس هو المهم . المهم حقاً هو الجانب الجوهري وأعني الشق القانوني المتعلق بالصحافة. ومن هذه الزاوية فان حيثيات الحكم التي تقع في 60 صفحة تستحق ان تترجم وتدرس. ومن هذه الحيثيات نقتطف الشذرات التالية: قال القاضي "أيدي": "إن لهجة حملة الادعاءات التي قامت بها صحيفة ديلي تلجراف ضد جورج جالاوي كانت دراماتيكية ومفعمة بالإدانة". ولم تكن الصحيفة "محايدة" في تقاريرها أو استخدامها للصور الفوتوغرافية والعناوين . فهذه التقارير "لم تتبن هذه الادعاءات فحسب بل اعتنقتها بتلذذ وحماس". كما انها "زينتها". ولم تتخذ الصحيفة أيا من الخطوات اللازمة للتحقق من صحة الوثائق التي نشرتها. ومع اعتراف المحكمة بان الأخبار هي أسرع السلع تعرضاً للتلف والفساد بسبب التقادم ، فان القاضي " ايدي " لم يجد في القضية المنظورة سبباً ملحاً للعجلة والهرولة لنشر هذه الوثائق المزعومة دون تدقيق ودون إعطاء "جالاوي" الفرصة المناسبة للتعليق علي هذه الوثائق.