مع الصخب والضجة التي تصاحب المراحل النهائية لمعارك انتخابات الرئاسة في الولاياتالمتحدة.. وفي هذا الجو المشحون، والمحموم أحياناً يذهب البعض إلي اعتبار هذه الانتخابات استعراضاً متصلاً لمهرجان الديموقراطية الأمريكية. ولكن الواقع يقول شيئاً آخر ويكشف عن حقيقة الصورة الكامنة خلف هذه المظاهر ويؤكد أن اختيار السيد الجديد في البيت الأبيض الأمريكي قد لا يكون مرتبطاً بهذه المظاهر الديموقراطية وشاهداً عليها بقدر ما هي صناعة تتكامل فيها كل العوامل الأساسية لاخراج إنتاج علي مستوي عالمي مع توافر رأس المال والخبرات والكوادر الفنية القادرة علي بيع إنتاجها لأكبر قطاع واسع من المستهلكين. وصناعة الرئيس الأمريكي تستند في الحقيقة إلي عدة أسس واعتبارات تهيئ الظروف والإمكانات وتحدد الأدوات والوسائل اللازمة لإكمال صورة الديكور الديموقراطي المطلوب. ومن الحكايات المعروفة عن الرئيس الأمريكي الأسبق جنرال الحرب العالمية الثانية دوايت ايزنهاور أنه حينما فكر الحزب الجمهوري في اختياره مرشحاً للرئاسة واستعداداً لأول حديث تليفزيوني فوجئ بجيش من الفنيين يعتقلونه، حسب تعبيره، ولمدة ساعتين لإجراء الماكياج المناسب له، فهناك من قام بتخطيط جديد للرموش والحواجب وفتحة العينين، وآخرون فردوا المساحيق المختلفة علي وجهه، بينما اهتم اثنان بتصفيف الشعر القليل في رأسه، وفي تلك الأثناء كان هناك مخرج يتلو علي الزعيم الأمريكي تفاصيل الدور الذي سيقوم به ويعطي له بعض التعليمات حول كيف يبتسم ومتي يرفع حاجبيه ومتي يقطب جبينه، وفي أي وقت يمكن أن يحرك يده اليمني أو اليسري وكيف تكون الحركة. الأمر الذي جعل ايزنهاور وفقاً لمذكراته يصيح وهو ينظر إلي المرآة عقب هذه الحملة أو المعركة القاسية التي تواصلت علي مدي ساعتين: يا إلهي هل هذا هو أيزنهاور الذي ستنتخبه الجماهير.. إني لا أعرفه.. وما قاله جنرال الحرب السابق والرئيس الأمريكي لمدة ثماني سنوات في الخمسينيات يعبر، وربما بشكل رمزي عن ظروف وشروط أكبر وأهم صناعة في أمريكا، صناعة الرئيس سيد المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.. أخطر وأهم بيت في العالم المعاصر.. هذه الصناعة يدخل في مفرداتها وتساهم فيها مؤسسات مهمة لكل منها دور لا يمكن الاستغناء عنه، وعلي رأس هذه المؤسسات الحزب الذي ينتمي إليه المرشح سواء كان ديموقراطياً أم جمهورياً فالأحزاب الأمريكية في نشأتها وتطورها ليست مثل الأحزاب الأوروبية أو الدول الديموقراطية الأخري التي تأخذ بالتعددية الحزبية حيث ينشأ الحزب معبراً عن طبقة أو شريحة اجتماعية وفقاً لمفهوم وأيديولوجية معينة. فمنذ نشوء وتبلور التجربة الأمريكية الحزبية، كان هناك ومن البداية اتفاق عام علي وجود حزبين أساسيين يتبادلان السلطة، ولم تكن هذه الثنائية الحزبية نابعة من وجود خلافات أيديولوجية أو طبقية أو فئوية بل للحاجة إلي تناوب وتبادل السلطة، فالحزبان الأمريكيان يعتمدان علي نفس الفئات والشرائح الاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية العملاقة.. وهناك عرف بينهما يكاد يصل إلي درجة الاتفاق لعدم الإخلال بهذه الثنائية وتهميش أي حزب آخر قد يأخذ شكلاً مذهبياً أو طبقياً بالرغم من أنه مسموح من خلال الدستور الأمريكي لأي جماعة أن تشكل فيما بينها حزباً سياسياً، وإن كان ذلك قد ظل من الناحية العملية وحتي الآن مجرد حق نظري لم يصمد في التطبيق إزاء الحزبين الكبيرين الموجودين علي الساحة. والتنوع الحزبي في الولاياتالمتحدة يجري بشكل رأسي في المجتمع وليس بشكل أفقي، بمعني أنك ستجد في أي من الحزبين ممثلين لجميع الشرائح الاجتماعية من رجال الأعمال والصناعة وجنرالات الجيش ورجال البورصة والمهنيين والعمال، كما تجد تنوعاً عرقياً يشمل البيض والسود والملونين، والأمر هنا يختلف عن المفهوم الحزبي التقليدي وتطبيقاته الأوروبية، وحتي في إنجلترا التي يقوم فيها نظام حزبي شبه ثنائي، إلا أن الأمر يختلف جذرياً، فحزب المحافظين والعمال والأحرار والاشتراكيين الديموقراطيين قام كل منها تاريخياً علي أسس أيديولوجية وفكرية مختلفة، بحيث أصبح حزب المحافظين ممثلاً لرجال الأعمال والصناعة بينما يمثل حزب العمال المهنيين والمثقفين والاتحادات العمالية.