استقبلت فلسطين العام الجديد بإعلانات عن سلسلة من الاضرابات في قطاعات التعليم والنقل والصحة والوظائف العمومية وذلك بسبب عدم توافر رواتب الموظفين وغلاء الأسعار خصوصا الوقود، نتيجة للأزمة المالية الخانقة التي تعانيها السلطة الفلسطينية. هذه الأزمة في حال استمرارها تهديد بانهيار مؤسسات السلطة وخدماتها التي تركتها عاجزة عن دفع رواتب موظفيها وتقديم الخدمات للجمهور، وتفاقمت هذه الأزمة بصورة حادة في الشهرين الأخيرين بعد اقدام الحكومة الاسرائيلية علي احتجاز أموال الجمارك الفلسطينية التي تشكل ثلثي ايرادات السلطة ردا علي لجوئها إلي الأممالمتحدة لرفع التمثيل الفلسطيني إلي دولة مراقب، وكانت الدول العربية قد تعهدت بتوفير شبكة أمان مالية للسلطة بقيمة 100 مليون دولار شهريا، في حال اقدمت اسرائيل علي احتجاز أموال الجمارك، كان طلب توفير شبكة الأمان المالية للسلطة في قيمة بغداد قد تمت الاستجابة له في ثلاثة اجتماعات لوزراء الخارجية في مصر مرة وفي الدوحة مرتين، لكن لم تف هذه الدول بتعهداتها حتي الآن، وربما يعود ذلك إلي التهديد الأمريكي والاسرائيلي للحكومات العربية لعدم تقديم أي مساعدة مالية للفلسطينيين. ولا توجد أدوات في يد الحكومة الفلسطينية لمواجهة فورية سوي باب التوجه إلي العرب، غير أن الدول العربية خيبت آمال الفلسطينيين، ويتوقع خبراء الاقتصاد ان تلازم الأزمة المالية السلطة لسنوات طويلة مقبلة، بسبب عدم قدرة الفلسطينيين علي بناء اقتصاد حر نتيجة لسيطرة اسرائيل علي أكثر من 60% الضفة الغربية بما فيها القدسالشرقية وفرضها قيودا علي حركة السلع مع الأراضي الفلسطينية واليها تحول دون نشوء الاستثمار فيها وتطوره. وبدأت الأزمة المالية في السلطة الفلسطينية عام 2010 نتيجة تراجع وتوقف بعض الدول المانحة عن تقديم الدعم لها، وهو ما قادها إلي اللجوء إلي القروض ووصلت قروض السلطة من البنوك المحلية 2.1 مليار دولار، وهو الحد الأقصي الذي يمكنها استدانته من هذه البنوك بموجب تعليمات سلطة النقد، وتفاقمت الأزمة بصورة كبيرة عام 2012 نتيجة تراجع النمو الاقتصادي المحلي الناجم عن تراجع الانفاق الحكومي، كما ان الأموال التي تحتجزها اسرائيل تساوي ثلث ايرادات السلطة التي تعاني أصلا من تراجع الدعم الدولي. لكن يبدو المشهد السياسي الممتد ما بين مقر رئيس الحكومة الفلسطينية في رام الله وديوان الحكومة الاسرائيلية ومقر رئاسة صندوق النقد الدولي شديد الغرابة خاصة في ضوء التضييق الاقتصادي الاسرائيلي علي السلطة، الأمر الذي يطرح في الفضاء السياسي العديد من علامات الاستفهام حول مضمون السلطة الفلسطينية ووظيفتها وحول طبيعة العلاقة التي تربط بينها وبين تل أبيب! ففور اعلان السلطة الفلسطينية عن أزمتها المالية الحالية وعن عجزها تأمين رواتب الموظفين، تدارس ديوان الحكومة الاسرائيلية الأمر بناء علي توجيه من رئيس البنك المركزي الاسرائيلي، وتم الاتفاق علي التدخل الفوري والتقدم إلي صندوق النقد الدولي بتوجيه باسم حكومة اسرائيل لمنح السلطة الفلسطينية قرضا بمقدار مليار دولار تعالج به أزمتها المالية! وكما هو معروف فإن السلطة الفلسطينية رغم ما لقيته من ثناء الصندوق الدولي لأدائها المالي، فإنها لا تملك المواصفات القانونية التي تتيح لها هي أن تتقدم إلي الصندوق بطلب القرض فتولت حكومة نتياهو عنها هذه المهمة. وتعود الأسباب الحقيقية لتولي حكومة نتنياهو هذه المهمة، بعد أن التقي د.سلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية في منتصف شهر ابريل الماضي "ستانلي فيشر" رئيس البنك المركزي الاسرائيلي، وشرح له حقيقية الأزمة المالية في السلطة الفلسطينية والتي أخذت تتفاقم يوما بعد يوم، حيث اقترح فياض علي فيشر أن يتقدم باسم حكومة اسرائيل إلي صندوق النقد الدولي بتوجيه لمنح السلطة الفلسطينية قرضا ماليا بضمانات اسرائيلية يخرجها من أزمتها، ذلك لأن علاقة فياض بفيشر علاقة متينة، حيث كان الرجلان يعملان في صندوق النقد الدولي، ونشأت بينهما في ذلك الوقت صداقة قوية رغم أن فياض فلسطيني وفيشر اسرائيلي، ومن هنا نقل فيشر توجيه فياض إلي نتنياهو الذي أخدها بمحمل الجد، وأعطي تعليماته بتبني التوصية مع صندوق النقد الدولي. والسبب الحقيقي الذي دفع نتنياهو تبني توصية فياض هو تخوفه من أن يصاب اقتصاد السلطة الفلسطينية بالانهيار الشامل، وتفكيك مؤسساتها خاصة أجهزتها الأمنية وتسود الفوضي في المناطق المحتلة، بما يفسح المجال أمام مجموعات المقاومة المسلحة التي تعتبرها اسرائيل ارهابية لاستعادة نشاطها ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي ومواقعه وما يجره ذلك من أعباء كانت سلطات الاحتلال قد تخلصت منها وإحالتها إلي السلطة الفلسطينية وأجهزتها. غير أن صندوق النقد الدولي خيب أمل اسرائيل والسلطة الفلسطينية أيضا التي مازالت تنذر بخطر الافلاس وخطر انعكاس ذلك علي الهدوء والأن في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث يؤكد خبراء أن الأزمة المالية في السلطة هي جزء من أزمتها السياسية التي تقيد تحركاتها، إذا مازالت القيادة ذات النفوذ مصرة علي التزام خيارها الوحيد "المفاوضات" وترفض باصرار الخروج منه نحو خيارات بديلة تعمل علي رحيل الاحتلال، وتفتح الباب لبناء اقتصاد وطني متحرر من تبعية الاقتصاد الاسرائيلي وهمينته عليه. فمع الوقت برزت شرائح واسعة ذات مصالح ترتبط بإدامة الوضع علي ما هو عليه، تعيش علي المساعدات في صيغة طفيلية تتبوأ مراكز قيادية في السلطة ان كان في أجهزتها الأمنية أو تلك البطانة التي تحيط بمقر الرئاسة في رام الله.