في أكتوبر عام 1973.. كانت المرة الأولي التي ألتقي بها مع السيدة جيهان السادات.. وكان ذلك في مستشفي القبة العسكري. فقد تلقت عائلتي إشارة تلغرافية بأن أحد أقاربي قد أصيب في معارك أكتوبر وأنه قد نقل إلي مستشفي القبة العسكري للعلاج. وعندما هرعنا لرؤيته والاطمئنان عليه، وجدناه في غرفة نظيفة داخل المستشفي ويلقي عناية طبية فائقة. وعند وجودنا معه في الغرفة، وكنت آنذاك طالبا في المرحلة الثانوية، دخلت علينا سيدة وقورة ذات ملامح هادئة جميلة لتلقي علينا بالتحية وتقدم نفسها لقريبي المصاب وهي تناديه باسمه وتقول له أنا اسمي جيهان السادات حرم الرئيس أنور السادات.. وقد أتيت اليوم لأقول لك إن مصر تفخر بك أيها البطل، فقد أديت ما عليك.. وإذا كنت تحتاج إلي استكمال العلاج في أي مكان في العالم فسوف نرسلك إليه.. وأشارت إلينا السيدة جيهان السادات بألا نقلق عليه فهو في أيد أمينة. وقد انهالت الدموع من أعيننا جميعا في هذه اللحظات ونحن نشعر بأن مصر ترعي وتحتضن أبناءها، وأن هناك روحا جديدة بين القيادة وبين الشعب.. ومنذ تلك اللحظة وأنا أشعر بتقدير وإعجاب كبيرين للسيدة جيهان السادات وللدور الذي كانت تؤديه من أجل مصر، وإبراز دور ومكانة المرأة المصرية. وبعد ذلك بسنوات، وفي العاصمة الأمريكيةواشنطن وبعد اغتيال الرئيس السادات وكنت في هذا الوقت مراسلا لجريدة الجمهورية في واشنطن، كان لي شرف اللقاء الثاني مع السيدة جيهان السادات في منزل الإعلامي الكبير محمد حقي في فيرجينيا حيث أقام حفلا علي شرف السيدة جيهان السادات بمناسبة وجودها هناك لإطلاق كتابها الذي كان بعنوان "سيدة من مصر"، وفي هذا الحفل رويت للسيدة جيهان السادات تفاصيل أول مرة رأيتها في مستشفي القبة العسكري.. وقلت لها لم تتح لي الفرصة في ذلك الوقت لأعبر لك عن شكر عائلتي ولكنها قد أتت الآن وإن كانت متأخرة جدا... وعندما جلست في المحاضرة التي تحدثت فيها السيدة جيهان السادات في واشنطن وهي تقدم كتابها "سيدة من مصر" كنت أشعر بفخر كبير وأن أشاهد صفوة سيدات المجتمع الأمريكي وهن يستمعن إلي صوت امرأة من بلادي، فقد كانت هناك روزالين كارتر، ونانسي ريجان وبيتي فورد زوجات ثلاثة رؤساء أمريكيين، وكان هناك الإعلام الأمريكي كله يسجل هذه اللحظات للسيدة التي كان زوجها نجما ساطعا في سماء التليفزيونات الأمريكية وفي صدارة أخبار كل وسائل الإعلام.. وساعتها تمنيت لو أن بلادي تستثمر كل هذا الإعجاب بالرئيس الراحل السادات وتختار السيدة جيهان لتكون سفيرة لمصر في واشنطن. ولقد طافت بذهني كل هذه الذكريات وأنا استمع إلي السيدة جيهان السادات وهي تتحدث بهدوء وحكمة مع الإعلامي عمرو أديب في برنامج "القاهرة اليوم"، فلم تكن وهي تتحدث صوتا من الماضي بقدر ما كانت صوتا من الحاضر، منفعلا مع قضايا مصر وهي تقول "إن مصر جميلة لكنني حزينة علي حالها لأن من الممكن أن تكون أحسن من كده بكتير". ولقد صدقت السيدة جيهان وهي تقول ذلك وأحسنت فعلا التوصيف، فمصر الخير والمحبة، مصر التي يتنافس أهلها في هذا الشهر الفضيل في ضرب أروع أمثلة التكافل والتراحم والتكامل، مصر التي حباها الله بالنيل والأهرامات والسد، مصر التي بها أفضل جند الأرض، مصر التي بها الأزهر، مصر يمكن فعلا أن تكون أفضل كثيرا من ذلك، فلا ينقصنا شيء، ولسنا دولة فقيرة، والموارد كثيرة، والزيادة السكانية يجب أن تكون نعمة وليست نقمة لأن الإنسان بالتنمية البشرية السليمة يستطيع أن يكون قوة دفع للأمام ومصدرا للدخل وليس مصدرا للشقاء. ولقد أنجزت الدولة فعلا الكثير، ويكفي ما قالته السيدة جيهان السادات عن أعظم ما قامت به الدولة خلال العشرين عاما الماضية حين قالت: الكباري والطرق، فلولا كل هذه الكباري والطرق السريعة والدائرية التي تكلفت مليارات المليارات لكنا قد اختنقنا في الداخل ولكانت مصر كلها قد أصيبت بالشلل التام. وهذه الإنجازات تعني أننا نستطيع أن نحقق المعجزات، ولكن كل ما نحتاجه هو المزيد من الشفافية في التعامل، وهي الشفافية التي تخلق الثقة بين القاعدة والقمة، والشفافية التي تعني أنه لا مجال للفساد.. والشفافية التي تعني حق المساءلة ورسوخ مبدأ الثواب والعقاب.. لقد أثار حديث السيدة جيهان السادات فينا الكثير من الذكريات، فهو حديث من القلب.. لسيدة من مصر تستحق دائما كل الاحترام والإعجاب. [email protected]