* هل يجوز في مثل هذه الظروف المأساوية التي يعيشها قطاع غزة التعبير القائل "انقلب السحر علي الساحر"؟ فقد خرجت الجماعات السلفية والتكفيرية التي طرقت مسامعنا منذ شهور من رحم الحركة الإسلامية حماس، والتي لم تلتفت كثيرا لخطورتها وتطوراتها الميدانية والعقائدية فيما بعد. قطاع غزة الذي أهمل لسنوات طويلة وبتفجر واضح من قوات الاحتلال أولاً، والعزلة الشديدة التي فرضت عليه سواء من الناحية التنموية أو من الناحية الاجتماعية التي أوجدت جواً يكاد يكون منغلقاً تماما علي ذاته، أنتج طوال هذه السنوات خليطا من الفكر الديني المتشدد ناهيك عن فقره وتكدسه سكانيا علي مساحة لا تتجاوز 360كم2 وحرمانه من مقومات الحياة الإنسانية رغم تميزه بأكبر نسبة متعلمين قياسا لعدد السكان في العالم إذ تكاد نسبة الأمية فيه لا تذكر.. ومن هنا فإن عوامل عديدة أوجدت جواً من التناقض في قطاع غزة نظرا لتركيبته السكانية التي في معظمها مهاجرة من بلدان وقري فلسطينية عام 1948. والمعروف عن قطاع غزة أنه تربة خصبة للتطرف الديني، تزايدت وانتعشت في السنوات الأخيرة خاصة بعد سيطرة حركة حماس علي غزة وانطلقت من العادات والأعراف الاجتماعية أولا ثم تطورت لتحمل أيديولوجيات فكرية دينية، وسرعان ما كبرت وترعرعت كرد فعل طبيعي علي ما رشح من ملفات فساد اتهمت بها السلطة لم يستوعبها العقل ولا الوجدان الغزي في كثير من الأحيان. وبفعل عوامل عديدة استطاعت حركة حماس أن تنمي لدي جيل الشباب فكرة الانتماء، ورسخت رؤيتها للعقيدة الإسلامية لتشق طريقها بين تيارين علماني وسلفي تتنازعهما موروثات اجتماعية وعقائدية بالإضافة إلي عامل البطالة والفقر الذي سيطر علي مجمل مجريات الحياة هناك والعامل الأهم هو الاحتلال، فقد عملت الجماعات السلفية في فلسطين منذ ما قبل الانتفاضة الأولي أي نهاية الثمانينيات وأخذ طلاب علم تلقوا تعليمهم في الخليج بنشر الدعوة التي يعتبرونها تمثل الإسلام الصحيح، لكن هذه الدعوة ظلت ضعيفة تقتصر علي بعض الشبان الصغار في مساجد كان يسمح لهم بالتجمع فيها وساعد علي بقاء هؤلاء أن إسرائيل الدولة المحتلة لم تكن قلقة منهم حيث كانوا يغرقون في تفاصيل كانت تري فيها تعزيزا للانقسامات الفلسطينية. ومع بداية الانتفاضة كانت حركة فتح العلمانية تسيطر تقريبا علي غالبية الشارع الفلسطيني، وساعد فتح تبنيها مبدأ الكفاح المسلح لتحرير الأرض، بينما كان السلفيون جالسون في صوامعهم.. هذه النظرة السلبية رافقت حماس كذلك في بداية انطلاقتها لكن جنوح حماس نحو العمل المسلح استقطب بقية الفلسطينيين الذين لا يؤمنون بخط فتح وهكذا ترك السلفيون كما هم من دون أن ينتشرون أو تكبر قاعدتهم، وظل هذا الحضور ضعيفا وينظر له علي أنه غير مؤثر حتي أن السلطة الفلسطينية بعد تأسيسها سمحت بنشاطات جمعيات سلفية ومع ضعف السلطة بعد الانتفاضة الثانية، ودخولها في مواجهة مسلحة مع حماس، بدأ بعض هذه الجماعات يتسلح مستغلا حالة المواجهة، وكي تعزز من حضورها وتستقطب الشبان الصغار أخذت تتبني نهج تنظيم القاعدة وتبايع أحيانا قائده أسامة بن لادن.. وشيئا فشيئا صار هؤلاء يملكون جماعات مسلحة، وكان يميزها انها ترتدي اللباس الأفغاني وأخذ هؤلاء يقلدون الزرقاوي بارتدائه الطاقية السوداء، وبعد هزيمة السلطة في غزة، انتبهت حماس إلي خطهم، واتهمت بعضهم بأخذ القانون باليد وتفجير مقاه ومحال للإنترنت وصالونات تجميل ومؤسسات مسيحية وقالت إنهم منحرفون فكريا ويخدمون أجهزة السلطة في رام الله علي الرغم من أنهم يكفرون كل من لا يحكم بشرع الله حسب رؤيتهم للشرع. لقد واجهت حماس هذه الجماعات بالقوة أحيانا، واشتبكت معهم في غير مناسبة، لكنها دوماً كانت تفاجأ بظهور جماعات جديدة، ويعتقد مراقبون أن ظهور هذه الجماعات مؤخرا كان ردا علي مشاركة حماس في الانتخابات، حتي أن بعض أفراد هذه الجماعات خرجوا من حماس احتجاجا، إذ تتهم هذه الجماعات حماس بأنها تسعي للقضاء عليها وتحاول تشويه صورتها، لكن من غير المعروف ما هي إمكانيات هذه الجماعات تحديدا، وما إذا كانت في حال توحدها يمكن أن تشكل تنظيما يهدد أمن حماس، إلا أن التقديرات تقول إن ذلك يبدو بعيدا لكنهم علي أقل تقدير مقاتلون شرسون إذ يؤمنون بأن من يقاتلهم مثل حماس كفار يستحقون الموت ومن أبرز الجماعات السلفية في غزة جماعة "جند أنصار الله"، وجماعة "جلجلة" وجماعة "جيش الإسلام". غير أنه رغم توجيه حركة حماس ضربة شبه قاضية إلي تنظيم "جند أنصار الله" في مواجهتها الأخيرة مع عناصره والتي وصفت بالحرب الحقيقية بين الطرفين ووأدت الحركة الإمارة الإسلامية التي أعلنها الأب الروحي للتنظيم عبداللطيف موسي المكني "أبو النور المقدسي" في مهدها، وذلك بعد ساعات قليلة علي إعلانها من جانب موسي قبل صلاة الجمعة الأخيرة من مسجد ابن تيمية السلفي السني، إلا أن حماس لم تسع منذ سيطرتها علي القطاع في منتصف شهريونية 2007 إلي كبح جماح الجماعات الإسلامية والسلفيين الدعويين قبل بدء مرحلة تحولهم أو البعض منهم إلي الفكر الجهادي، ووفر طول بال حركة حماس عليهم مناخا مناسبا كي تترعرع هذه الجماعات المتشددة في دفيئة قطاع ساحلي ضيق لا تتجاوز مساحته 360كم2 وتزيد نسبة الفقراء علي 80% بين سكانه البالغ عددهم مليون ونصف المليون فلسطيني. إن التهدئة غير المعلنة مع إسرائيل من جانب فصائل المقاومة بما فيها حماس إضافة إلي تربع الحركة علي عرش السلطة في القطاع، وقبل كل ذلك عدم تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع الغزي، شكلت هذه العوامل فرصة مناسبة لهذه الجماعات لغسل أدمغة الشباب وكسب تأييدهم وحتي قبل أيام قليلة، كان قطاع غزة مثل "دفيئة" ملائمة تماما لإثبات جماعات تكفيرية تستلهم فكر تنظيم "القاعدة" وتسعي إلي أسلمة القطاع وفرض الشريعة الإسلامية بقوة السلاح والترهيب لتجد حماس نفسها في مواجهة عدد من الجماعات القاعدية التي تهدد وجودها والمجتمع والسلم الأهلي وهو ما حصل مع تنظيم جند أنصار الله في مدينة رفح جنوب قطاع غزة علي الحدود مع مصر.